أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تحولات جيو سياسية:

كيف تغير أزمتا كورونا والمناخ مقاييس القوة العالمية؟

12 ديسمبر، 2021


عرض : عبد المنعم محمد

لم تعد الحروب العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لتغيير بنية النظام الدولي، وتحديد القوة المهيمنة، بل أصبحت التهديدات الطبيعية كالأوبئة والتغير المناخي عاملاً مؤثراً على وضعية النظام العالمي. في هذا الإطار، يحاول الكاتب برونو ماسياس في كتابه "بداية النهاية للجغرافيا السياسية.. من الجائحة إلى أزمة المناخ" تسليط الضوء على التغيرات الجديدة في النظام العالمي ما بعد أزمة كورونا. 

ويشير الكاتب إلى أن أزمة فيروس كورونا شكَّلت اختباراً حقيقياً لقدرات الدول في مواجهة المتغيرات المتلاحقة في الأنظمة البيئية والطبيعية المختلفة، خاصة أن هذا الفيروس كانت له تداعيات متباينة، ليس فقط على صعيد سياسات الدول داخلياً، وإنما على الرؤية العالمية.

انكشافات غربية:

يعتبر ماسياس أن كورونا كشفت عن الوضعية الهشة للعديد من النظم الغربية، حيث أبرزت نقطة ضعف أساسية تتمثل في غياب دور الدولة في مواجهة المخاطر التي تواجه الشعوب، والتي تتضح في عِدة مظاهر من أبرزها:

- فراغ منظومة القيم الديمقراطية الغربية: خلَّف التهديد الذي شكٌله فيروس كورونا فراغاً في منظومة القيم الديمقراطية، حيث استمرت الأنظمة الليبرالية في الاحتكام إلى الممارسات والمبادئ التقليدية لها في مواجهة الوباء، والتي تجلت في عدم التطبيق الكامل للإغلاق تحت ذريعة الحريات، وهو ما أثَّر على حالة الاستقرار الصحي الداخلي سلباً. ومن ثم، فإن التزام الدول الغربية بالحقوق الشخصية وغياب الفهم الحقيقي للنتيجة الطبيعية الأساسية لسيادة القانون في ضوء أوقات الطوارئ، جعلها أقل فاعلية في التعامل مع الجائحة، مقارنة بنظم أقل ديمقراطية كالصين التي تتسم بتقييد حريات التعبير للشعوب، والتي تعاملت مع الأزمة بصورة فعالة، من وجهة نظر الكاتب. 

لذلك، أدَّت هشاشة الأنظمة الليبرالية أمام الجائحة إلى تراجع العولمة وفكرة السوق المفتوحة، بما عكس إعادة نظر العالم في استراتيجية العولمة الاقتصادية وأهمية تفعيل واسع لسلطة الدولة الوطنية لحماية سلاسل التوريد المختلفة والاستخدام الفعال لموارد الدولة في مواجهة تلك المتغيرات.

- النزاعات السياسية في النظام الدولي: بيٌنت الجائحة حجم الارتباك في بنية النظام الدولي بين التكتل الغربي والصين، فبدلاً من التركيز على أهمية التعاون الدولي في مواجهة التهديدات المشتركة وإعلاء الواجبات عن الحقوق، تم تسيس الوباء في إطار نهج التنافس الجيوسياسي، باعتباره من  محطات المواجهات الغربية ضد الصين، الأمر الذي صعب الاستجابة الجماعية العالمية للتهديدات المشتركة.

- توسيع مفهوم صراع الحضارات: لقد كان صراع الحضارات قائماً بصورة أساسية على الأفكار والهيمنة الثقافية، إلا أن جائحة كورونا وسَّعت من أبعاد هذا الصدام ليتضمن التنافس على السيطرة على الطبيعة ومواجهة التهديدات الناجمة عنها، باستخدام التقنيات والتكنولوجيا الحديثة وهو ما برز في النموذج الصيني في مواجهة تلك الجائحة. 

تغيرات "القوة": 

أثرت التهديدات الطبيعية المختلفة ما بين الأوبئة، كحالة فيروس كورونا والتغيرات المناخية التي تفاقمت بصورة كبيرة خلال الآونة الأخيرة على إحداث تغييرات متعددة في بنية النظام الدولي ويمكن توضحيها في النقاط التالية:

- تغيير مقاييس القوة: لقد كانت القوة تتحدد في ضوء المؤشرات العسكرية، والتي كانت عنصراً حاسماً في تحديد من يهيمن على النظام الدولي، وهو النموذج الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، مروراً بهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. غير أن ظاهرتي التغير المناخي والأوبئة باتتا تؤديان وظيفة الحروب – الأداة الشائعة سابقاً - وتعديل وضعية القوى المهمينة. لذا يمكن القول إن مقاييس القوة للدول لم تعد تقتصر فقط على قوتها العسكرية، بل وضعها الاقتصادي والتجاري والتكنولوجيا أيضاً، وهو الأمر الذي خلق قدراً من التعددية القطبية في الآونة الأخيرة.

- صعود مُضاعف لنموذج الصين: برز نموذجان لمواجهة جائحة كورونا، الأول، النموذج الصيني وهو يسعى إلى الرقابة الاجتماعية لاحتواء الفيروس. أما الثاني فهو الأمريكي الذي اعتمد على التوسع في حملات التطعيم للقضاء على التهديد البيولوجي. في النموذجين، هناك توجه للسيطرة على الطبيعة، لكن النموذج الأمريكي كان دائماً يتطلع لتحرير الشعوب من القوى الطبيعية والسيطرة على الطبيعة. لذا، جاءت جائحة كورونا لتبرز القوة التي يمتاز بها النظام السياسي الصيني، حيث حققت نتائج إيجابية منها:

• مثلت جائحة كورونا فرصة استراتيجية لخفض الضغوط على الصين عبر تراجع الحرب التجارية، لذلك نما الاقتصاد الصيني بنسبة 2.3% خلال عام 2020، كما قفز الفائض التجاري الصيني إلى 75.42 مليار دولار أمريكي في نوفمبر من العام ذاته بزيادة قدرها 102.9% عن العام السابق.

• شكل العام 2020 بداية التحول التاريخي لموازين القوى العالمية، حيث باتت الصين الشريك التجاري الأول لدى الاتحاد الأوروبي، بينما تراجعت الولايات المتحدة. فقد ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من الصين بنسبة 5.6%، كما زادت الصادرات الأوروبية للصين بنسبة 2.2%، في المقابل، انخفضت واردات الولايات المتحدة من أوروبا بنسبة 13.2%. وأدت الجائحة أيضاً إلى زيادة التدفقات الخاصة بالاستثمار الأجنبي المباشر العالمي للصين بنحو 163 مليار دولار، تليها الولايات المتحدة 134 مليار دولار أمريكي، وبلغت التدفقات الاستثمارية في الاتحاد الأوروبي نحو 110 مليارات دولار.

- المواءمة الأمريكية تجاه الصعود الصيني: حيث انتقلت واشنطن للتركيز بشكل أكبر على مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، كما برز في الخطة الجديدة التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن حول توجيه 180 مليار دولار أمريكي من أموال الاستثمارات في مجال البحث والتطوير في حقل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا بصورة عامة، بما يحقق قدرة تنافسية أمريكية مع الصين، علاوة على تخصيص مبلغ 300 مليار دولار أمريكي لدعم التصنيع.

تبعات صينية:

على الرغم من استفادة الصين من جائحة كورونا، فإن هناك تبعات سلبية انعكست على مسار التفاعل الاستراتيجي الخارجي وعلى رأسها "مبادرة الحزام والطريق"، حيث أثرت الإجراءات الاحترازية المختلفة على عمليات استكمال المشاريع في جنوب شرق آسيا، كذلك تراجع عمليات سداد الديون المختلفة خاصة من جانب الدول النامية في أعقاب جائحة كوورنا. لكن الصين أعلنت في يونيو 2020 تعليق سداد ديون 77 دولة نامية، كما حولت هذا التراجع في سداد القروض إلى مقاصة سياسية تتمثل في توقيع بعض الدول منها الكونغو الديمقراطية على مبادرة الحزام والطريق، إلا أن هذا العجز في سداد المديونيات المستحقة من جانب تلك الدول للصين يتطلب معه تجميد بعض المشاريع الخاصة بهذا الطريق لفترة من الزمن.

وبينما تستهدف مبادرة الحزام والطريق زيادة القوة الاقتصادية العالمية للصين في إطار من الانفتاح العالمي على الكثير من الدول، إلا أنه وفي أعقاب الجائحة باتت هناك تصدعات في الرأي العام حول العولمة وانعكاساتها السلبية على الشعوب، خاصة أنها كانت عاملاً مساعداً في تفشي جائحة كورونا. هنا يمكن للصين تدويل أزمة كورونا لصالحها، واقتناص الفرصة لقلب النظام العالمي الحالي عبر ثلاث آليات، الأولى: الاستمرارية في تسويق النموذج الصيني الناجح في إدارة الأزمة واستمرار تعرية الوضع الصحي المتدهور في الولايات المتحدة. الثانية: استمرار التحول الصناعي الصيني الذي ساهم في تعزيز نموها وهيمنتها في سلاسل القيمة العالمية عبر الاستمرارية في ضخ الأموال في البنية التحتية والصناعية، ما يسهم في استحواذ الصين على الأسواق العالمية، والثالثة: استخدام المساعدات الاقتصادية في التعاطي مع الدول النامية.

حتمية عودة الدولة:

يشير الكاتب إلى أن أحد أبرز مخرجات جائحة كورونا في النظام العالمي هو تراجع فكرة حرية السوق، وفي الوقت ذاته أهمية عودة الدولة، كمبدأ رئيسي لممارسة مستويات أعلى من السيطرة على حدودها واقتصاداتها، كخطوة ضرورية لتجنب المخاطر غير التقليدية، خاصة في ضوء فشل الرأسمالية في مواجهة تلك التطورات. لذلك، يرى الكاتب أن الجائحة كانت نقطة بداية النهاية للعولمة، فإذا كان مبدأ الاعتماد المتبادل ظل حاكماً للسياسات الخارجية للدول، فإن الجائحة – باعتبارها أول أزمة عالمية حقيقية - أوضحت أن ثمة استجابات منفصلة للدول للتعاطي معها.

فأحد الدروس المستفادة من الجائحة هو أن الجغرافيا السياسية قد عادت، والتي تعني تعزيز مصادر سُلطة الدولة للتحكم في البيئة الخارجية ومن ثم، تغير نمط التفاعلات المفتوحة الناجمة عن العولمة، واتصالاً بذلك، فإن مواجهة الأخطار الطبيعية العالمية المشتركة التي باتت مختلفة عن التحديات التقليدية – كالإرهاب - تتطلب مزيداً من تدخل الدولة في هيكلة السياسات اللازمة لمواجهتها.

تزامن ذلك مع التوجه نحو الاستخدام الفعال والإيجابي للتكنولوجيا للتعاطي مع الكوارث والمتغيرات البيئية المختلفة وتفعيل سياسات الإنذار المبكر والاستجابة للتوقعات المختلفة حول المخاطر المستقبلية، خاصة أن تبعات المخاطر البيئية، سواء كانت تلك المتعلقة بالأوبئة أو المناخ لا تختلف كثيراً مما يستوجب قدراً من المرونة في التفاعل معها.

ختاماً، يرى الكاتب أن جائحة كورونا جاءت لتقلب التوقعات وكشفت بصورة كبيرة عن نقاط الضعف لدى الأقطاب العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بل فتحت المجال واسعاً أمام نظام عالمي جديد يكون المتحكم فيه التكنولوجيا الرقمية والتقنيات الحديثة، والتي باتت سلاحاً ذا حدين، فمن ناحية تُساهم في التقدم الاقتصادي، ولكنها أيضاً تؤثر بصورة سلبية على البيئة وما تبرزه الأخيرة من تهديدات مختلفة للعالم تتغير فيه قواعد اللعبة السياسية. ولعل التطورات البيئية المختلفة تتطلب أن تكون هناك القوة المرنة التي تمكِّن الدولة من القدرة على امتصاص الصدمات المختلفة والتكيف مع هذه الاضطرابات، خاصة أن مفهوم الجغرافيا السياسية تبدل إلى الحجم الذي تستطيع خلاله الدولة بالتحكم في البيئة الخارجية.

المصدر:

BRUNO MAÇÃES, Geopolitics for the End Time: From the Pandemic to the Climate Crisis, HURST & COMPANY, LONDON, 2021