أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

استراتيجيات هشة:

هل تتحول أوروبا للاصطفاف مع واشنطن لمواجهة الصين؟

26 أبريل، 2021


عرض: د. إبراهيم سيف منشاوي - مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

حدث تغير ملحوظ في الآونة الأخيرة في دينامية العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والصين، وقد يكون ذلك راجعًا إلى الظروف والملابسات التي ألقت بظلالها على سلوك هذه الأطراف. فالصين –على سبيل المثال- خرجت بقوة من جائحة فيروس كورونا. في المقابل، واجهت واشنطن فوضى عارمة عقب الانتخابات الرئاسية الأمريكية ناتجة عن خروج الجائحة عن السيطرة. 

وبينما كان الاتحاد الأوروبي ينسق بين دوله حول حزمة للتعافي من هذه الجائحة. ووقّع الاتحاد، في إطار الجهود الحثيثة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحلفائها بالمفوضية الأوروبية، الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين. ومن ثم، كان الاتحاد وبكين يصوغان محورًا للتعاون العملي في مسائل التجارة والاستثمار وسياسة المناخ، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تتنازعها المشكلات الداخلية لتصبح بلا هدف واضح. يحاول آدم توز، مدير المركز الأوروبي، أن يلقي الضوء عليه في مقالته المعنونة "هشاشة الاستراتيجية الأوروبية-الصينية" تناول التحول في الاستراتيجية الأوروبية-الصينية في مع فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. 

تحول مفاجئ

يري الكاتب أن التحول في الاستراتيجية الأوروبية-الصينية كان نتاجًا لتحركات إدارة جو بايدن السريعة التي حاولت جاهدة احتواء جائحة كورونا في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من إعلان الرئيس الأمريكي القطيعةَ مع سياسات إدارة ترامب السابقة؛ إلا أنه لم يتراجع عن موقف المواجهة مع الصين.

وقد تعاملت بكين مع ذلك بأن اهتمت بمسألة التنمية الاقتصادية الوطنية المستقلة. بينما انزلقت أوروبا في تبادل موجة من الاتهامات بسبب طرح اللقاح الفاشل، كما بدت التوقعات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي قاتمة، لا سيما وأن فرض الاتحاد لعقوبات على الصين بسبب إقليم شينجيانغ، جعل اتفاقية الاستثمار بينه وبين بكين على المحك. أضف إلى ذلك أنه أصبح هناك استهداف منهجي لشركات الملابس الأوروبية التي تنشط في السوق الصينية، مبناها حملات مقاطعة منتجات هذه الشركات التي ينظمها الحزب الشيوعي، وتساهم في نشرها محركات البحث الرئيسية في الصين، وذلك نتيجة للعقوبات الأوروبية المفروضة عليها.

وهذه الأمور، بطبيعة الحال، لن تترك للاتحاد الأوروبي سوى خيار بسيط، ألا وهو الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الصين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل سيؤدي هذا التحول أيضًا إلى تحول جوهري في الاستراتيجية الأوروبية تجاه القوى الصاعدة في آسيا؟ وهل سيكون الاصطفاف مع واشنطن أكثر من مجرد أمر تكتيكي؟.

إعلان الحرب الاقتصادية

في ظل حكم الرئيس الأسبق بارك أوباما، وخلفه الرئيس السابق دونالد ترامب، كان التركيز متزايدًا على الجمع بين المجالات المختلفة، السياسية والتجارية والاستثمارية والأمنية والتكنولوجية وقضايا حقوق الإنسان، في إطار المنافسة الجيوسياسية مع القوى الكبرى، وعلى الأخص تلك القوى المهيمنة في ساحة المحيطين الهادي والهندي. لذلك، كان الأمر أشبه بميلاد حرب باردة أيديولوجية جديدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية مع مطلع عام 2020، عندما قامت واشنطن بفرض عقوبات تكنولوجية على عدد من الشركات الصينية، وهو الأمر الذي نظر إليه البعض على أنه إعلان للحرب الاقتصادية.

وعلى الرغم من وجود استعداد مسبق لدى إدارة بايدن الحالية للتعاون مع الصين في قضايا حساسة مثل قضية المناخ؛ إلا أنه إذا تم الحفاظ على القيود المفروضة على تصدير معدات تصنيع الرقائق التكنولوجية، وإذا استمرت العقوبات المفروضة على شركات مثل Huawei, SMIC, DJI، فهذا يعني أن واشنطن لديها رغبة ونية للحد من معدلات التنمية الصناعية في الصين، وذلك لأسباب تتعلق في المقام الأول بالأمن القومي الأمريكي. 

وهذا بالطبع يمثل عقبة أمام الصين، ويتعارض بشكل أساسي مع طموح بكين في أن تحظى بمكانة عالمية تتناسب مع تاريخها ومكانتها الاقتصادية الحالية والمستقبلية، لا سيما وأن الصين أضحت تمتلك مجمعًا صناعيًا عسكريًا يماثل ذلك المجمع الأمريكي.

نهج متعدد المسارات

يُلاحظ أن جهود الاتحاد الأوروبي الخاصة بصياغة سياسة جديدة تجاه الصين في القرن الحادي والعشرين تتناقض مع عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى استراتيجيتها الكلاسيكية لمواجهة الصين. فالاتحاد الأوروبي قام بتعريف بكين في وثيقة السياسة التأسيسية لعام 2019، على أنها شريك محتمل، بل ومنافس. وهو ما يتوافق مع صفقة الاستثمار المتفق عليها في ديسمبر 2019، التي تفتح آفاقًا للتعاون المستقبلي والمنافسة التجارية المنتظمة دون وضع شروط صارمة، باستثناء الشرط المتعلق بأن الصين ستفي بالتزاماتها كعضو في منظمة التجارة العالمية، وهذا الشرط هو مجرد إيمائه ليس أكثر لتجاوز المخاوف المتعلقة بالعمل القسري.

وتحت ضغط النقد الموجه لهذه الصفقة، أعلنت كل من ألمانيا وفرنسا أن الالتزام بهذه الاتفاقية لا يعني -بأي حال من الأحوال- عدم اتخاذ موقف قوي فيما يخص قضايا أخرى مثل النظام القمعي في شينجيانغ، أو قمع الحريات في هونغ كونغ. وذلك يوضح النهج الأوروبي متعدد المسارات في التعامل مع الصين، فالتعاون في مجال ما لا يمنع من الاعتراف الصريح بالاختلافات أو الصراع في مجال آخر. والحقيقة، قد تضفي هذه الاستراتيجية المتبعة من قبل الاتحاد الأوروبي نوعًا من الشرعية على العلاقة مع الصين.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع الصين أن تتعايش مع مثل هذا التعقيد؟ في الواقع، يجب ألا يتوقع النظام الصيني أن تكون مؤسساته الأمنية قادرة على القيام بأعمال تجارية في الغرب، ويجب ألا يتوقع كذلك أن يكون مرتكبو الجرائم ضد الإنسانية موضع ترحيب في الغرب. وسيكون من الحكمة أن يتعامل مع العقوبات المفروضة عليه على أنها مجرد إجراء محدود إلى حد كبير، لأنها لم تصل بعد إلى استهداف كبار قادة الصين المسؤولين فعليًا عما يجري في إقليم شينجيانغ. أما إذا كانت استجابة بكين تنطوي على استهداف البرلمانيين والمؤسسات الفكرية الأوروبية، فعليها أن تتحمل مسؤولية توسيع الصراع، الذي من الممكن أن يكون من نتائجه تعليق اتفاقية الاستثمار، أو دفع الاتحاد الأوروبي إلى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية من جديد.

نحو المواجهة

من الواضح أن القادة على جانبي الأطلسي في الوقت الحالي يفضلون المواجهة. فبالنظر إلى سياسة الترهيب التي تنتهجها الصين، سيكون من المنطقي أن تسعى أوروبا إلى التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الآخرين، وإرسال رسالة واضحة إلى بكين مفادها أنه إذا أرادت القيام بأعمال تجارية مع أوروبا، فعليها أن تدرك بل وتحترم كيفية عمل النظام السياسي الأوروبي والقيود التي يفرضها، إلى جانب ضرورة أن تلتزم التزامًا صادقًا بسيادة القانون، وتأمين حقوق الملكية، وما إلى ذلك.

بالطبع، تحتاج أوروبا أيضًا للاعتراف بحدود قدرتها على المساومة، فالدفاع عن قيم أوروبا الخاصة أمر بالغ الأهمية وغير قابل للتفاوض. ولكنّ أيّ ادعاء من جانب أوروبا بقدرتها على تغيير اتجاه التنمية الاقتصادية الصينية بأي طريقة سيكون أمرًا غير منطقي. فقد تخفف بكين من نظامها القمعي في كل من إقليم شينجيانغ وهونغ كونغ، ولكن من المستبعد أن تتخلى أو تغير من موقفها الاستراتيجي الأساسي. ومن ثم، يمكن القول إن علاقة الجانبين يغلفها الشك وعدم الثقة، والاستياء في بعض الأحيان.

والسؤال -إذن- يتحدد فيما إذا كانت هذه الصراعات ستهيمن على مجمل التفاعلات والعلاقات بين الطرفين؟ لا سيما وأن الغرض الرئيسي من اتفاقية الاستثمار كان لتجنب هذا المآل، ولكن قد يؤدي رد فعل الصين المبالغ فيه إلى دفع أوروبا إلى التوافق الكامل مع موقف الولايات المتحدة الأمريكية.

صدام الهيمنة

إن إدانة الاتحاد الأوروبي للنظام القمعي في إقليم شينجيانغ لا يؤدي إلا إلى تحالف جزئي مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن. وهذه الإدانة تتناقض مع طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، التي ليست سوى صدام بين قوى عظمى مثلما يرى الجانب الأمريكي، وهو صدام من أجل الهيمنة، فلدى بكين هدف عام يتمثل في أن تصبح الدولة الرائدة في العالم، بل وأقوى دولة في العالم. وسوف يضعها ذلك الطموح في صدامٍ مباشر مع الولايات المتحدة، لا سيما وأن الرئيس بايدن أعلن في وقت سابق أنه لن يسمح بذلك.

فالولايات المتحدة لا تزال تتمسك بكونها الدولة المهيمنة على النظام الدولي، وبالتالي سيستغرق الأمر بعض الوقت لكي تُهيّئ نفسها لعالم متعدد الأقطاب. على الجانب الآخر، فإن مسائل الهيمنة والريادة في النظام الدولي ليست في الأهمية ذاتها بالنسبة للاتحاد الأوروبي من مسائل القيم والدفاع عن الاستقلال الذاتي.

لذا، كانت دعوة أوروبا لاستراتيجية متعددة الجوانب للمشاركة مع الصين صحيحة، وهي نوع أو درجة من الحلول الوسط، كتلك التي كانت موجودة في حقبة الانفراج الدولي في السبعينيات. والحقيقة، تنطوي هذه الدعوة على معايير مزدوجة، بل وتنطوي -كذلك- على مداهنة من جانب الاتحاد الأوروبي. وهذه الاستراتيجية سوف تتوقف قابليتها للتطبيق على مدى استعداد الصين لقبول منطق التمايز والاختلاف.

الدرس الأوروبي

يتضح مما سبق أن الاستراتيجية الأوروبية متعددة الجوانب تتسم بالهشاشة. فقد تنهار هذه الاستراتيجية في أي وقت، وستتحول من ثمّ الانفراجة في علاقات الطرفين إلى صدام عدائي. فالاستراتيجية الأوروبية لا تتمتع بالاستقلالية التي تُمكنها من الحفاظ على التماسك، وهي بذلك لا تشبه آلية صنع السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن الصين. وقد يكون ذلك محبطًا للاستراتيجيين الأوروبيين، لكنه يعكس الهيكل السياسي الفريد للاتحاد الأوروبي.

فإذا كان الانفراج متعدد الجوانب هو الوضع الطبيعي لأوروبا، إلا أن ذلك مشروطًا ومقيدًا بشكل أساسي بالرأي العام والمؤسسات الديمقراطية التي تعمل على العديد من المستويات المختلفة. ومن ثم، لا يضر أن تتعلم القوى العالمية الأخرى هذا الدرس.

المصدر:

Adam Tooze, The Fragility of Europe’s China Strategy, Internationale Politik Quarterly, March, 30, 2021.