أخبار المركز
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)
  • شريف هريدي يكتب: (مخاطر الانفلات: خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق)

على من ستطلق الصواريخ؟

24 يوليو، 2019


صفقة الصواريخ «إس 400» التي دخلت إلى دور التنفيذ بين روسيا وتركيا، طرحت المدى الذي تذهب إليه الحيرة في التغيرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، وارتباطاتها العالمية بالقوى الدولية الكبرى. أغلب التحليلات للصفقة ذهبت في اتجاه تنامي الفجوة بين الولايات المتحدة وتركيا بسبب ما أدت إليه السياسة الأميركية من ارتفاع شأن «الأكراد»، سواء كانوا في العراق أو سوريا، وما يشكله ذلك من تهديد «وجودي» لتركيا ذاتها، حيث يعيش الغالبية من الأكراد من ناحية، ويقودهم «حزب العمال» الثوري والانفصالي من ناحية أخرى. الغزو الأميركي للعراق فتح الباب لإعطاء الأكراد إقليماً شبه مستقل في شمال البلاد، والحرب الأهلية السورية أتاحت للأكراد السوريين في «حزب الاتحاد الديمقراطي» المتشابك مع «حزب العمال» الكردي التركي الفرصة لكي يكون فاعلاً مرموقاً في الحرب ضد الإرهاب، وتنظيم «داعش» الذي أقام «دولة الخلافة» على الحدود العراقية السورية. الحالة الكردية هذه خلقت فالقاً ما بين المصالح الأميركية والتركية لم تفلح علاقات التحالف في حلف الأطلسي، ووجود قواعد الحلف على الأراضي التركية، في عبور ما بينهما من فجوات. الولايات المتحدة كانت تريد حلفاء محليين على استعداد للقتال إلى جانبها وبكفاءة في مواجهة أعداء مشتركين، وتركيا كانت ترى أن كل تصاعد في عناصر قوة التنظيم والوجود والحضور على جبهة واسعة وقاطعة على الأراضي العراقية والسورية يضع الداخل التركي في اختبار كبير، لم تقم الولايات المتحدة أولاً بالاعتراف به، وثانياً السعي إلى عبوره في إطار التحالف التاريخي خلال الحرب الباردة وما بعدها.

التفسير الآخر للصفقة التي لا يمكن قراءتها إلا على أنها تحرك بندول السياسة الخارجية التركية في اتجاه موسكو بدلاً من واشنطن، وروسيا بدلاً من الاتحاد الأوروبي. فقد بدت من أنقرة أنها تعبر عن فشل ذريع في الاستراتيجية التركية التي قامت لعقود طويلة على اللحاق بالاتحاد الأوروبي، وكانت في ذلك على استعداد من وجهة نظرها إلى القبول بتغييرات كبيرة في الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية التركية من أجل مقعد على المائدة الأوروبية في بروكسل. مثل ذلك لم يحدث، وكان على أنقرة أن تشاهد دولاً بعد دول تلحق بالاتحاد مثل بلغاريا ورومانيا واليونان وقبرص، وهي الأقل منها شأناً اقتصادياً من ناحية، ومشاركة في الدفاع عن أوروبا من خلال حلف الأطلنطي من ناحية أخرى. ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما عندما تعرض الأمن التركي للاختبار لحظة إسقاط تركيا للطائرة الروسية «سوخوي - 24»، وما تلاها من تهديدات وتحركات عسكرية روسية، لم تجد أنقرة ما يسد رمقها إلى المساندة، لا من قبل الاتحاد الأوروبي، ولا من الولايات المتحدة. جاءت الإعلانات متأخرة ومترددة، وفيها الكثير من نفاد الصبر تجاه دولة بات بادياً عليها ترنح اقتصادي وسياسي، خصوصاً في أعقاب محاولة الانقلاب على حكم إردوغان، الذي صار سلطاناً عثمانياً معاصراً؛ وهو الانقلاب الذي ظنه السلطان لا يمكن أن يكون دون يد أو إشارة أميركية من نوع أو آخر.

هذه التفسيرات يمكن الإضافة إليها ما هو فني وتكتيكي، فقبل وبعد كل شيء، كما ورد في التقارير، أن أميركا كانت مترددة في تقديم نظم الدفاع الجوي المتقدمة إلى تركيا من طراز «باتريوت»، ومن ثم لم تجد أنقرة بداً من البحث عن النظام المتقدم في مكان آخر حدث أنه كان في موسكو التي باتت مصالحها وسياستها متشابكة مع أنقرة في الأزمة السورية - العراقية، سواء في الوجود العسكري في سوريا، أو في التواد السياسي بضم الصفوف، ليس فقط مع موسكو، وإنما مع طهران أيضاً. ورغم ذلك فإن كل هذه التفسيرات ليست كافية لفهم الصفقة التركية الروسية للصواريخ المتقدمة طالما أن الدول لا تسعى لامتلاك مثل هذا السلاح، من أجل المشاهدة في الاستعراضات العسكرية. اقتناء الدول للسلاح يكون عادة من أجل مواجهة تهديد من نوع أو آخر يعتمد على نوعيات بعينها من الأسلحة، وفي الحقيقة فإن منظومة «إس - 400» مجهزة للتعامل مع نوعية الطائرات المتقدمة للغاية مثل تلك الأميركية من طراز «إف - 35» التي لا تكتشفها الرادارات، والقادرة من حيث السرعة والحمولة القاتلة على تدمير أهداف متعددة ومتنوعة. المدهش في الموضوع أن تركيا كانت جزءاً من «الكونسورتيوم» الذي يقوم بتصنيع هذه الطائرة، واستناداً إلى ذلك كانت سوف تحصل على 100 طائرة؛ أول اثنين منها كانا في طريقهما إلى تركيا بالفعل، حتى جرى وقفهما عقوبة لأنقرة، بعد أن دخلت الصفقة الروسية إلى مجال التنفيذ. الدهشة هنا هي أن تركيا كانت تسعى إلى صفقتين للحصول على سلاحين، وظيفة كل منهما تدمير الآخر؛ واحد منهما تنتجه الولايات المتحدة، والآخر دولة روسيا الاتحادية.

الأكثر دهشة أن تركيا من ناحية الجغرافيا السياسية عرفت نوعين من التهديدات: غربي عرفته أثناء الحرب العالمية الأولى، الذي أنهى وجود الإمبراطورية العثمانية، وسعى في مراحلها الأخيرة إلى تمزيق تركيا ذاتها؛ والآخر شرقي جاء دوماً من روسيا هائلة الحجم والقدرة، سواء كان أثناء الحرب العالمية الأولى وما قبلها، أو عندما قام الاتحاد السوفياتي ضاغطاً بسلاحه وآيدولوجيته على تركيا التي ارتمت في أحضان حلف الأطلنطي. الواقع الآن هو أن تركيا لا تزال عضواً في حلف الأطلنطي، ولم يظهر منها حتى الآن ما يشير إلى إمكانية للخروج منه، ولكنها تشتري ما يحبط القدرات العسكرية الغربية من ناحية، وتتحالف عملياً وسياسياً مع موسكو من ناحية أخرى. ولكن إذا كانت أنقرة لديها تحالف مع طرف، وأسلحة مهمة مضادة مع طرف آخر، فعلى من سوف تطلق الصواريخ التي اشترتها من موسكو؟ وما هي طبيعة التهديدات الجيو - سياسية أو الجيو - استراتيجية الذي يجعل صفقة «إس - 400» مفهومة؟ صحيح أن الدول أحياناً تحصل على الأسلحة لدواعي «البريستيج» والمكانة، والجلوس في مقاعد الدول الكبرى، ومحاولة وضع سياسة خارجية مستقلة، والدفاع عن الأمن القومي دون اعتماد على طرف أو آخر. كل ذلك قد يكون جائزاً، ولكنه لا يحل معضلات الدولة التركية مع النزعات الاستقلالية الكردية، ولا مع الإرهاب الذي ارتضت أن يكون أراضيها ملاذاً ومعبراً له.

الاحتمال الآخر أن هذا الإغراق في الحصول على عناصر مكلفة ومتقدمة للقوة العسكرية هو الصيغة التركية المقابلة للمحاولات الإيرانية للاستحواذ على السلاح النووي، أو أسلحة مقابلة يمكنها أن تمد الذراع التركية إلى ما هو أكبر من الشمال السوري، وما هو أوسع من الشمال العراقي، وإلى ما هو أغنى في شرق البحر الأبيض المتوسط. البناء العسكري التركي لا يمكن فهمه في إطار سياسة دفاعية تركية لمقاومة تهديدات وجودية، بقدر ما يمكن أن تكون لتوجيه التهديدات التركية، والابتزاز التركي، إلى المحيط المباشر الذي احتلته تركيا لعدة قرون، وربما تعتقد الآن أن تحريره لقرن ونصف القرن تقريباً كان مجرد صدفة تاريخية آن أوان تصحيح اتجاهها.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط