أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

نهج التقليد:

دروس التفوق الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي

23 يناير، 2019


عرض: ياسمين أيمن – باحثة في العلوم السياسية

تدخل دول العالم حاليًّا في سباق محموم لتحقيق طفرات واسعة في الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد بتطبيقاته مقصورًا على الدول المتقدمة التي هيمنت على التكنولوجيا لعقود طويلة، ولكن باتت الدول ذات الاقتصادات الناشئة قادرة على دخول حلبة التنافس الدولي، محققة طفرات واسعة تخطف الأنظار العالمية لها. 

وفي إطار ما سبق، يشرح الكاتب والخبير الصيني "كاي-فو لي" في كتابه الجديد "قوى الذكاء الاصطناعي العظمى: الصين، ووادي السيليكون، والنظام العالمي الجديد" التجربة الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي وعوامل تفردها، معتمدًا على خبرته العملية في الشركات الكبرى مثل: جوجل، ومايكروسوفت، وعمله كرئيس تنفيذي لشركة Sinovation الصينية، موضحًا آلية عمل الشركات الصينية والفارق بينها وبين الأمريكية، ومدى تأثر النظام العالمي بالذكاء الاصطناعي.

يشير الكاتب إلى أن بكين شرعت مع المستثمرين الصينيين خلال السنوات الماضية في توجيه مبالغ هائلة لتطوير الذكاء الاصطناعي، وتزايد عدد الطلاب الدارسين لهذا المجال. ويضيف أن الصين استطاعت بحلول عام 2017، أن تهيمن على نحو 48% من إجمالي تمويل الذكاء الاصطناعي العالمي، متفوقة على الولايات المتحدة، وأنها عقدت العزم على أن تصبح مركز الذكاء الاصطناعي والابتكار العالمي بحلول عام 2030.

أسباب التفوق: 

ظلت الولايات المتحدة ومعها كندا وبريطانيا المهيمن الرئيسي على الذكاء الاصطناعي طوال عقود، حتى عام 2016، حيث توجهت استثمارات الصينيين إلى الذكاء الاصطناعي. وقد شرح الكاتب عدة خطوات للوصول إلى مرحلة عالية من الذكاء الاصطناعي هي: مرحلة الاكتشاف، ومرحلة التطبيق التي تتطلب وجود خبراء ورواد أعمال يسعون لتطوير الاكتشافات ومعرفة كيفية استخدامها في مختلف الاحتياجات الإنسانية، وأخيرًا مرحلة البيانات.

يقول المؤلف لو نظرنا لوضع الصين حاليًّا، لوجدنا أنها ترفع شعار مرحلة التطبيق متجاوزة مرحلة الاكتشاف، ويدعم ذلك وجود رواد الأعمال الصينيين بوادي السيليكون الذين يسعون لتطبيق الذكاء الاصطناعي، كما أن بكين لديها إمكانيات هائلة في تطوير التطبيقات الخاصة بها نظرًا لامتلاكها كمًّا هائلًا من البيانات، ولعل ذلك ما قد يعوض عملية تفوق الخبراء الأمريكيين على الصينيين. 

وإضافة إلى تلك المراحل التي تبرز موقع الصين، يشير الكاتب إلى مجموعة من العوامل التي تُساهم في نجاح النموذج الصيني، وهي:

١- النظام اللا مركزي ودوره في نجاح التجربة الصينية: فمنذ إطلاق الحكومة المركزية حملة "الابتكار الجماعي وريادة الأعمال الجماعية" في عام 2015؛ تم إنشاء نحو 6600 شركة صغيرة في مجال الذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع بحلول عام 2030 أن تساهم الصين بنحو 7 تريليونات دولار من الناتج العالمي الإجمالي للذكاء الاصطناعي، الذي سيصل إلى 15,7 تريليون دولار، ولعل ما ساهم في تحقيق ما سبق هو انتهاج بكين نظامًا لا مركزيا يساعد الحكومة المركزية على تبني رؤى معينة ومساهمة المحليات في تنفيذ تلك الرؤى ونجاحها. 

ومع توجه الحكومة المركزية إلى وضع رؤية مستقبلية تجعل الصين رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ تتسابق الحكومات المحلية على جذب رواد الأعمال والمستثمرين للعمل في هذا المجال مع تقديم التسهيلات المناسبة لهم، حيث تساهم في عمليات إنشاء الشركات الصغيرة المختصة به، بالإضافة إلى منح الدعم المالي إذا تطلب الأمر. 

٢- منهجية العمل الصينية التقنية: حينما تأسست شركة جوجل في عام 1998، كان الإنترنت يصل إلى نحو 0,2% من سكان الصين، في حين كان يصل إلى نحو 30% من الأمريكيين، وكان ذلك دليلًا على ضعف البنية التكنولوجية الأساسية الصينية، لذلك اتبعت بكين نهج التقليد للمنتجات المختلفة، وعن طريقه استطاعت أجيال كاملة أن تتعلم أسس التكنولوجيا والصناعات الحديثة.

ويضرب الكاتب مثالًا على منهجية التقليد، حيث حاول أحد رجال الأعمال الصينيين، وهو "وانج شنج"، أن يُنشئ موقعًا يربط بين شبكات الأصدقاء شبيهًا بموقع فيسبوك، ولكن الموقع لم يستطع أن يعمل في أول سنتين وتعثر. وبعد أن ظهر فيسبوك الأمريكي بقوة على الساحة، أخذ "وانج شنج" لب التصميم وغير قليلًا به، وتم بثه في السوق الصينية المحلية، وبالفعل لاقى نجاحًا كبيرًا داخل الصين، لعدم وجود منافس له، وقد تجددت محاولاته مع تقليد تويتر ومواقع أخرى، بدون محاولة لإضافة لمسة خاصة به. والجدير بالذكر أن عددًا كبيرًا من رواد الأعمال داخل الصين استطاعوا تحقيق أرباح طائلة داخل السوق وراء اتباع ذلك النهج.

علاوةً على منهجية التقليد، هناك منهجيات أخرى تحكم السوق الصينية، ومنها بيع المنتجات الصينية من قبل بعض رواد الأعمال لشركات كبرى مثل فيسبوك أو جوجل، ثم إعادة استغلالها مرة أخرى تحت مسمى آخر، لذا فمن أهم الدروس الاقتصادية داخل الصين هو ألا تعزل الشركات نفسها عن البقية حتى لا تكون عرضة للقرصنة، كما أن ما يميز رواد الأعمال داخل الصين أنهم لا ينفقون ملايين الدولارات لإيجاد سلعة يحتاج إليها السوق مستقبلًا، ولكنهم يعملون على معرفة ذوق المستهلك وتوجهاته وبناء على ذلك يتم الإنتاج.

٣- الثقافة الصينية: تقوم الثقافة الصينية على الاستلهام من التراث والتعلم منه، وليس البحث عن الحقيقة والمثالية، وبالتالي ففكرة الاقتباس من الآخرين والتطوير للوصول للكمال هي أساس الثقافة الصينية. كما أن فكرة الأبوية التي تعمل على التوجيه ظاهرة وبقوة في الثقافة الصينية، ولذلك تلعب الحكومة دورًا كبيرًا في حياة الشعب الصيني. 

ويسترسل الكاتب لتوضيح تلك الجزئية، بالحديث عن تغير توجهات الصينيين حينما أسس شركته في عام 2009، حيث لم تكن هناك رغبة أو ميل من جانبهم للانضمام لشركته، ولم تشغل فكرة ريادة الأعمال أذهانهم، حتى أعطت الحكومة الضوء الأخضر للابتكار الجماعي وريادة الأعمال، فتوجه الجميع نحوه راغبين في الانضمام لشركته واللحاق بالركب التكنولوجي.

٤- دمج الشعب بالتطور التكنولوجي: لم يكن التطور التكنولوجي في الصين مقصورًا على قطاعات معينة، حيث أحدث ظهور الهواتف الذكية طفرة داخل المدن الصينية، فالأشخاص الذين لم يتمكنوا من اقتناء أجهزة حاسوب محمولة حصلوا على هواتف ذكية واستخدموها للحصول على خدمات عدة، وظهر تطبيق Wechat الذي أصبح فيسبوك الصين، واستطاع في عام 2013 أي بعد مرور عامين على تأسيسه أن يضاعف عدد المستخدمين من 100 مليون إلى 300 مليون مستخدم، وتحول بعد خمس سنوات من مجرد كونه تطبيقًا للمحادثة إلى تطبيق يضم كافة الخدمات، بدءًا من الحصول على روشتة طبيب إلى شراء المنتجات الشهرية للمنزل.

ولم يعد التليفون المحمول مجرد وسيلة للتواصل، ولكنه أصبح محفظة أموال متنقلة، وتضاعف عدد مستخدمي التليفونات الذكية منذ عام 2009 حتى عام 2013 من 233 مليون شخص إلى 500 مليون شخص، وخلال أعوام قصيرة ساهمت التليفونات الذكية في إحداث تحولات في سوق العمل، وفي زيادة معدلات الشراء الإلكترونية، ففي نهاية عام 2017 أصبح هناك نحو 735 مليون نسمة، أي ما يعادل 65% من تعداد الصين، قادرين على الدفع النقدي في المحلات عبر التليفونات الذكية، حتى إن الأمر قد وصل للشحاذين، حيث علق كل منهم ورقة على رقبته تحوي الكود الإلكتروني الخاص بهم، وانخفضت بصورة كبيرة المعاملات النقدية تاركة المجال للمعاملات الإلكترونية. 

ويشير الكاتب إلى أن التطبيقات المتعلقة بتوفير الخدمات داخل الصين ستساهم في توفير قاعدة بيانات واسعة عن كافة المواطنين والخدمات، مما ستكون له انعكاسات إيجابية على الذكاء الاصطناعي مستقبلًا.

٥- فشل الشركات الأجنبية داخل السوق الصينية: حينما أسس "جاك ماي" موقع "علي بابا" للتجارة الإلكترونية عام 1998، لم يكن هناك منافسون له إلا الشركات الصينية المحلية، ولكن في عام 2002 دخلت Ebay الأمريكية على الخط، وهي أكبر شركة للتجارة الإلكترونية على مستوى العالم، لذا دخل "جاك ماي" في حرب مع Ebay استمرت ما يقرب من خمس سنوات، وقد عمل على تقليد كل الإضافات الجديدة عند Ebay، دامجًا مع تلك التغيرات احتياجات السوق الصينية، فخرجت منها Ebay في النهاية بخسائر لعدم قدرتها على فهم السوق المحلية الصينية، واستمرار النهج الأمريكي في التعامل مع الأسواق العالمية على أنها "بقرة تُدر ربحًا دائمًا".

ولعل ما سبق يمكن أن يفسر سبب فشل الشركات العالمية داخل وادي السيليكون في الصين، حيث تعمل بمنطق التسويق وجني الأرباح أكثر من فهم طبيعة السوق، والتأقلم مع المتطلبات المحلية، كما أن الفروع الخاصة بها في الصين لا توظف صينيين، حيث إن الشباب الطامحين ورواد الأعمال يميلون بدرجة أكبر لتأسيس شركاتهم الخاصة، أو العمل في شركات صينية محلية كبرى، لأن درجة ترقيهم في الشركات الأجنبية الكبرى تكون محدودة. 

التنافس الصيني الأمريكي:

بجانب ما سبق؛ يظل التنافس بين واشنطن وبكين في مجال الذكاء الاصطناعي محط أنظار الجميع في القرن الحادي والعشرين، ولذا حاول الكاتب أن يوضح الفارق بين النموذجين الصيني والأمريكي. فأشار إلى أن هناك نحو سبع شركات عملاقة مهيمنة على مجال الذكاء الاصطناعي وهي: Google, Facebook, Amazon, Microsoft, Baidu, Alibaba, and Tencent، وتتنافس تلك الشركات -والتي أغلبها أمريكية الأصل- فيما بينها على إنشاء المراكز البحثية المتعلقة بتطوير الذكاء الاصطناعي. 

وبالإشارة للتنافس بين الصين وأمريكا، يذكر المؤلف أن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أعلن في خطاب رسمي عن تخفيض النفقات المخصصة للذكاء الاصطناعي، بخلاف الصين التي تضافرت جهودها، حكومة ومحليات وقطاعًا خاصًّا وشركات صغيرة، لتطوير الذكاء الاصطناعي، ووضع خطة للتحول إلى قوة عظمى في ذلك المجال بحلول عام 2030. 

وفي واقع الأمر، تأتي شركات وادي السيليكون بالصين خلف الشركات الأمريكية، مثل Apple أو Microsoft، ويرجع ذلك إلى عدم وجود آلية عمل منظمة في بكين؛ فهناك سوق فوضوية، ونقص ابتكار، إلى جانب انتشار منهجية التقليد، ولكن نتيجة لمجهودات رواد أعمال وادي السيليكون بالآونة الأخيرة، دخلت شركات صينية في سباق محموم مع الشركات الأمريكية، وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن "فيسبوك وتويتر الصين"، كما ظهرت جامعات صينية تسابق نظيراتها الأمريكية بمجال الذكاء الاصطناعي، وفي ظل تسابق الطلاب الصينيين على الحصول على تعليم أفضل في مجال الذكاء الاصطناعي، فمن المتوقع أن تحدث بكين قفزات هائلة في ذلك المجال، متفوقة على واشنطن مستقبلًا.

نظام عالمي جديد:

من المتوقع فقدان نسبة كبيرة من الوظائف في غضون خمسة عشر عامًا مع ثورة الذكاء الاصطناعي؛ مما سيؤدي إلى ارتفاع حاد في اللا مساواة بين المواطنين، فشركات مثل Uber تمنح السائقين نحو 75% من تكلفة الرحلة، ولكن ماذا بعد التحول للسيارات ذاتية القيادة.

وفي هذا السياق، تشير شركة PWC العالمية إلى أن نحو 38% من الوظائف في الولايات المتحدة معرضة للأتمتة بحلول عام 2030، بينما يتنبأ الكاتب بأن النسبة ستكون ما بين 40 إلى 50%. كما أن الذكاء الاصطناعي سيساهم في تآكل بعض المجالات في مقابل هيمنة مجالات أخرى، لتصبح أكثر قدرة على التعامل مع الواقع التكنولوجي الجديد، حتى إن الشركات التي سترفض أتمتة الوظائف لديها ستكون معرضة للسقوط من خريطة الشركات، لعدم قدرتها على منافسة إنتاجية الشركات الأخرى المماثلة لها.

أما عن الدول، فستتعمق الفجوة بين الدول المتقدمة التي لديها بنية تكنولوجية قوية بدرجة كبيرة وبين الدول النامية غير القادرة على اللحاق بالركب التكنولوجي، مما سيزيد الأزمات الاقتصادية حول العالم. حيث نجد أن الدول الأوروبية تمتلك معامل ومراكز بحثية لتطوير الذكاء الاصطناعي، ولكنها تفتقد للكم الهائل من البيانات الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والصين، والذي يؤهلها لتطوير المحتوى مستقبلًا، مما يعني نظامًا ثنائي القطبية مستقبلًا. 

وبالنظر لوضع الدول النامية وما كانت تمتع به من عمالة رخيصة، فتطور الذكاء الاصطناعي سيجعلها قابعة في القاع، وستفقد مزيدًا من إيراداتها إذا لم تحاول اللحاق بركاب الذكاء الاصطناعي، حيث ستحل المصانع التي تستخدم أجهزة الروبوت محل المصانع القديمة، وبالتالي تفقد الدول النامية الميزة الوحيدة التي كانت تتمتع بها.

وفي النهاية يشير الكاتب إلى ضرورة بناء جسر للتواصل بين البشر والذكاء الاصطناعي، إلى جانب العمل على تقوية الروابط الإنسانية حتى لا تسرقنا التكنولوجيا من العيش في حياتنا الراهنة، واقترح ثلاث وسائل للتعويض عن الوظائف المعرّضة للفقدان، وهي: "إعادة تدريب العمال، تقليل عدد ساعات العمل، وإعادة توزيع الدخل". 

وأشار إلى أننا من نرسم خريطة الذكاء الاصطناعي وليس العكس، وهو ما يؤهلنا للتحكم في مجريات الأمور بصورة أفضل. ولو شبهنا ثورة الذكاء الاصطناعي بالثورة الصناعية، فالثانية قد حولت المزارعين إلى صناع في المصانع، ولذا قد يكون للأولى نفس التأثير ويتحول فاقدو الأعمال إلى مبرجي كمبيوتر على سبيل المثال.

وختامًا، يمكن تشبيه الذكاء الاصطناعي بالعملة ذات الوجهين، وجه منهما يُلقي مزيدًا من الخيرات على البشرية، والوجه الآخر يتضمن توابع سيئة متعددة، ولو نظرنا للنموذج الصيني لأدركنا أن الدول ليست بحاجة للبدء من الصفر لبناء عالم من الذكاء الاصطناعي، ولكن هناك إمكانية لنقل تجارب دول أخرى والاستفادة منها، ففكرة الهيمنة الأحادية لم تعد موجودة بالقرن الحادي والعشرين.

المصدر:

Kai-Fu Lee, "AI superpowers : China, Silicon Valley, and the new world order", (Boston: Houghton Mifflin Harcourt, 2018).