أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

منافذ التغلغل:

كيف ترسخت السيادة "غير العربية" في المنطقة العربية؟

18 ديسمبر، 2017



شهدت السنوات السبع الماضية نماذج مختلفة لدول فاشلة أو هشة أو مجتزأة في المنطقة، والتي توجد بها مشكلة سلطة مركزية لا يمكنها فرض القانون أو تطبيق النظام إلا على مناطق محددة، بحيث لم تعد أجزاء بعض الدول العربية تحمل صفة "عربية"، كما تم الاعتياد على التعامل معها على مدى عقود، بل برزت ملامح لهيمنة قوى دولية وإقليمية تتجاوز السيادة الوطنية لهذه الدولة أو تلك، لا سيما بعد انهيار النظم أو تفكك الدولة أو فراغ السلطة أو تزايد قوة الجيوش الموازية أو انتشار الفوضى، لدرجة أن المفكر العربي أ.جميل مطر عبر عن هذا المعنى في أحد مقالاته بقوله: "إننا نعيش على أرض لا خريطة لها". 

فثمة خرائط للاقتسام – وليست أراضي للتقسيم- بين الأطراف المتصارعة في المنطقة تحدد وترسم خرائط مختلفة عن الحدود التي وضع ملامحها اتفاق سايكس بيكو منذ أكثر من مائة عام. كما أن دولة كبرى مثل روسيا تضع دستورًا لسوريا، إلى جانب أن القوى الدولية تتصارع على مواجهة "داعش" بما يعزز نفوذها، دون أن تضع في اعتبارها مصالح الدولة التي تحارب على أراضيها، وتتنافس القوى الإقليمية والكبرى على كعكة "إعادة الإعمار" في بؤر الصراعات المشتعلة، حيث تعد خطط إعادة الإعمار أحد وسائل تعزيز البقاء داخل البلاد، لا سيما مع نزوح أكبر عدد من اللاجئين بشكل يؤدي إلى تغيير هوية مدن.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن قدرة الفاعلين الدوليين والإقليميين على التغلغل داخل الأراضي العربية، وخاصة في سوريا، نابعة من عدة اتجاهات رئيسية، يمكن تناولها على النحو التالي:

هوية الدولة:

1- تباين التصورات بين أطراف الصراعات حول الهوية الجديدة للدولة: وهو ما ينطبق على المفاوضات الجارية بين وفد المعارضة ونظام الحكم في سوريا، سواء في الأستانة أو جنيف، والتي كان آخرها مفاوضات الجولة الثامنة في جنيف. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أولوية وفد المعارضة أثناء المفاوضات مع الحكومة في جنيف، من بين 11 بند، التي تلخص رؤيتها للحل، تمثلت في حذف كلمة "العربية" من اسم الدولة، ليصبح الاسم الجديد لها "سوريا" بدلاً من "الجمهورية العربية السورية" منذ حصول سوريا على الاستقلال.

وفي رؤية اتجاهات رافضة لذلك، فإن هذا التوجه يجرد سوريا من عروبتها، وهو ما لا يتعين التفريط فيه خاصة في ظل تمدد شرق أوسطي ودولي وضعف عربي داخل الساحة السورية. ووفقًا لذلك، فإن هناك إشارات متزايدة بأن سوريا لم تعد عربية، خاصة أن مسودة الدستور السوري، التي كتبت في العاصمة الروسية موسكو، في بداية عام 2017، تنص في المادة الأولى على "الجمهورية السورية" بدلاً من "الجمهورية العربية السورية". كما جاء في البند الثاني من المادة التاسعة "اعتبار اللغتين العربية والكردية متساويتين في أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته".

نفوذ ثقافي:

2- صراع اللغات في مناطق النفوذ الميدانية: شهدت الأعوام الثلاثة الماضية حالة أقرب إلى صراع لغات في مناطق مختلفة داخل سوريا بين الدول التي تسعى لتعميق حضورها وترسيخ نفوذها، سواء ضمن اتفاقات خفض التصعيد، أو المناطق التابعة لنظام الأسد أو مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، على نحو يعكس السيطرة المجزأة على الأرض. ويلاحظ أن اللغة الروسية تنافس الفارسية في مناطق سيطرة الجيش النظامي السوري، في حين أن اللغات التركية والكردية والإنجليزية تتنافس مع بعضها في مناطق سيطرة المعارضة.

ففي مناطق سيطرة الجيش النظامي السوري، تشير بعض التقارير الصحفية إلى أن موسكو تعزز وجودها الثقافي منذ نهاية عام 2015 بحيث يتوازى مع انتشارها العسكري. وقد تم ترخيص تعليم اللغة الروسية في المدارس الحكومية خاصة في المناطق الساحلية الواقعة غرب البلاد وقرب القاعدتين العسكريتين في حميميم وطرطوس.

كما يتم تعزيز أنشطة المركز الثقافي الروسي، وهو ما توازى مع ضعف الاهتمام الرسمي بالمدارس الأمريكية والفرنسية في العاصمة دمشق بسبب سياسات واشنطن وباريس المناوئة لنظام الأسد أحيانًا وتوجهاتها الرمادية في أحيانٍ أخرى. إلى جانب ذلك، عملت وزارة الدفاع الروسية على الإشراف على تدريس اللغة الروسية عبر كادر روسي خاص بوزارة التربية الخاضعة لسيطرة النظام، وتقدم أيضًا الحكومة الروسية منحًا للسوريين الراغبين في دراسة الأدب الروسي واللغة الروسية في موسكو.

على جانب آخر، تركز طهران على نشر الثقافة الفارسية في بعض مناطق سيطرة النظام مع تركيزها على الفقراء القاطنين في ريف دمشق، لا سيما أن هناك نشاطًا بارزًا للمراكز الثقافية الإيرانية منذ عام 2006، بخلاف تنامي الاهتمام الإيراني بنشر اللغة الفارسية بالتوازي مع نشر المذهب الشيعي الجعفري، وإن بدأ ذلك في قرى الساحل السوري وريفى إدلب وحلب منذ عام 2008، ويتم النفاذ إليها في ظل التهميش الاجتماعي والفقر الاقتصادي والتقارب المذهبي. وتنجح طهران في ذلك لأن مدارسها تمنح رواتب شهرية للطلاب وتقدم تسهيلات للحصول على فرصة عمل فيما بعد.

علاوة على ذلك، تنظم الملحقية الثقافية التابعة للسفارة الإيرانية في دمشق دورات مكثفة على مراحل عدة ومستويات مختلفة، في مناطق محددة مثل مركز تعليم اللغات الأجنبية التابع لجامعة دمشق، وحوزة الإمام الخميني والمدرسة المحسنية في دمشق، وحسينية الإمام المهدي في منطقة زين العابدين في دمشق، ومراكز تعليم الفارسية في اللاذقية، ومركز جامعة المصطفى لتعليم اللغة الفارسية، وجامعة السيدة رقية وغيرها من المراكز التي تستهدف توغل الثقافة الفارسية في عدد من المناطق السورية وتحديدًا الخاضعة لسيطرة قوات الجيش النظامي.

كما يقوم الأكراد بنشر وتدريس اللغة الخاصة بهم، بعد الحرمان منها على مدى عقود عدة خلال فترة حكم حزب البعث، ويتم في المرحلة الحالية تدريس اللغة الكردية في مناطق انتشار "قوات سوريا الديمقراطية"، لا سيما بعد طرد تنظيم "داعش" من مناطق عدة سواء بسبب الدعم العسكري لقوات التحالف الدولي أو مهاجمة الطيران العسكري الروسي لبؤر هذا التنظيم. وفي المناطق التي يسيطر عليها "الجيش السوري الحر" المدعوم من أنقرة، تنتشر المدارس التركية في مناطق "درع الفرات". كما ألزمت أنقرة اللاجئين تعلم اللغة التركية في المخيمات والمدن التركية.

تحول ديموغرافي:

3- تهجير قاطني مناطق جغرافية إلى أماكن جديدة: يتمثل أحد أبرز الاتجاهات الحاكمة لبعض أطراف الصراعات في اليمن وسوريا في ممارسة ضغوط على الخصوم في إطار المباريات الميدانية. فالحوثيون يهدفون إلى تغيير جغرافيا اليمن بما يتوافق مع تطلعاتهم الرامية إلى تشكيل كانتونات عابرة للمناطق والمحافظات الشمالية تعبر عن أفكارهم وتصوراتهم التي تتجاوز المعقل التقليدي لهم في صعدة، بما يصب أيضًا في صالح القوى الإقليمية (إيران) الداعمة لهم.

وفي هذا السياق، أشار ائتلاف "الإغاثة الإنسانية بتعز"– الذي يضم 200 جمعية ومؤسسة ولجنة ميدانية لتقديم مساعدات عاجلة للنازحين والمتضررين- في تقرير عن الأوضاع الإنسانية في تعز خلال شهرى أكتوبر ونوفمبر 2017 إلى "أن 209 أسر تعرضت للنزوح والتهجير القسري من منازلها في ريف محافظة تعز، منها 25 أسرة في قرية الجيران بمديرية الموادم خلال شهر أكتوبر، بالإضافة إلى 184 أسرة أخرى في قرية القوز بالأشروح بمديرية جبل حبشي".

ولا يمكن فصل التمدد الحوثي في اليمن عن ما دعا إليه قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري أمام حشد من طلبة جامعات الحرس الثوري في 14 ديسمبر الجاري بشأن تثبيت ما اعتبره "انتصارات محور المقاومة" التابع لإيران في المنطقة. وهنا تجدر الإشارة إلى تصريحات عبده عبدالله مجلي المتحدث باسم الجيش اليمني الداعم للشرعية التي نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" في 15 ديسمبر الجاري، وقال فيها: "تم رصد أكثر من 250 خبيرًا إيرانيًا خلال الأيام الماضية في مناطق عدة بمحافظتى الحديدة وصعدة، ينشطون في أعمال تطوير الصواريخ وتركيب قطع غيار لها وتدريب الشباب على استخدامها".

محاربة الإرهاب:

4- تبادل الانتقادات الدولية بشأن الانتصار في مواجهة "داعش": على نحو ما عكسته الحملات المتبادلة بين واشنطن وموسكو في الأيام القليلة الماضية بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتصار على "داعش" في سوريا والعراق، والذي تلا بيوم واحد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتصار على التنظيم وانتهاء العمليات العسكرية الروسية في سوريا، والبدء بسحب جانب كبير من القوات الروسية.

وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية الكولونيل جون توماس في 12 ديسمبر الجاري: "إن قوات التحالف الدولي باقية في سوريا لدعم عمليات قوات سوريا الديمقراطية الكردية- العربية حتى إنجاز مفاوضات الحل السياسي في جنيف"، وأضاف: "إنه حتى بعد انتهاء الجزء الأكبر من القتال ضد داعش قد يخلف خروجنا من سوريا فراغًا، إذ أن التحالف يواصل تدريب قوات الأمن في الرقة، كما فعلنا في منبج، فضلاً عن تطهير المناطق التي كان يسيطر عليها داعش من القنابل والألغام وغيرها".

كما انتقدت موسكو، في 13 ديسمبر الجاري، ما وصفته بـ"محاولة سرقة الانتصار" في سوريا ورفضت تصريحات المسئولين الأمريكيين بشأن الانتصار على "داعش" باعتبار أن "الهزيمة يتيمة لكن النصر له آباء كثر". وقد وجه أعضاء في مجلس الدوما الروسي انتقادات حادة إلى التصريحات الأمريكية المشككة في الدور الروسي، إذ أن واشنطن، في رؤيتهم، "تغافلت عن نشاط الإرهابيين في سوريا والعراق طويلاً، ما ساعدهم في تعزيز مواقعهم على مدى ثلاث سنوات".

وأعلنت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في 14 ديسمبر الجاري، أن "التحالف الدولي، للبقاء في سوريا، ينتهك السيادة الروسية، في حين أن التواجد الروسي في سوريا يحمل طابعًا قانونيًا متوافقًا مع القانون الدولي، لأنه جاء بطلب من الحكومة الشرعية". ولعل تقليص الوجود الروسي جزئيًا يدفع طهران لزيادة وجودها وإرسال العديد من المقاتلين.

تقاسم الغنائم:

5- تنافس محتدم حول سوق "إعادة الإعمار": بحيث تتحقق السيطرة بوسائل اقتصادية وليس بالضرورة عسكرية، وهو ما ينطبق على "الكعكة الاقتصادية" التي تتنافس عليها الشركات الإيرانية والروسية والصينية والعربية وربما الأوروبية في سوريا. فنظام الأسد، سيمنح، على الورق، على أقل تقدير، المشاريع للدول التي ساندت بقائه بحيث تم إبرام اتفاقات مبدئية مع روسيا وإيران.

وهنا تجدر الإشارة إلى سعى إيران بشكل خاص إلى استغلال الوضع الميداني في تعزيز مكاسبها الاقتصادية. وفي هذا السياق، أعلن قائد مجموعة "خاتم الأنبياء" عبدالله عبداللهي، في مؤتمر صحفي بطهران في 13 ديسمبر الجاري، أن "ديون الحكومة الإيرانية للحرس الثوري تبلغ نحو عشرة مليارات دولار، الأمر الذي يفرض على قوات الحرس الدخول في إعادة إعمار سوريا من بوابة الاقتصاد".

بعبارة أخرى، ثمة توجه حاكم للحرس الثوري للتحول من الانخراط في الصراع الداخلي السوري إلى النشاط الاقتصادي، حيث تشكل مجموعة "خاتم الأنبياء" الذراع الاقتصادية للحرس. ووفقًا لما تشير إليه تقارير عدة، فإن تلك المجموعة– التي تأسست في عام 1989 بأمر من المرشد على خامئني- تستحوذ على ما بين 20 إلى 40 في المئة من الاقتصاد الإيراني، إذ تضم ما يقرب من 812 شركة و650 ألف عامل، فضلاً عن تعاونها مع أكثر من 5000 مقاول داخل البلاد، ويتمثل نشاطها في مجالات اقتصادية عدة من بينها النفط والغاز والبتروكيماويات والمياه ومحطات الطاقة والنقل والمناجم.

نفوذ إعلامي:

6- تكريس النفوذ على الأدوات الإعلامية: وهو ما ينطبق جليًا على تعزيز إيران لنفوذها داخل العراق عبر أذرع محلية إعلامية، تتجاوز حدود تأثير الجماعات المسلحة المعبرة عن نفوذها، على نحو ما تشير إليه عشرات القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والمواقع الإلكترونية والمراكز البحثية. ويأتي ذلك في ظل توجه أكبر حاكم لأداء المؤسسات الإعلامية والصحفية التي تقع تحت مظلة "اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية" الإيراني.

ويحقق الإعلام الإيراني داخل العراق هدفه لاعتبارين: أولهما، الإمكانيات المادية المباشرة. وثانيهما، الظهور المتكرر للوبي السياسي والاقتصادي والإعلامي الموالي لطهران داخل العراق. وفي هذا السياق، افتتحت إيران سلسلة من القنوات التلفزيونية لعدد من القوى السياسية والجماعات المسلحة العراقية التي تربطها علاقات وثيقة بالحرس الثوري، بحيث تروج لما تطلق عليه "محور المقاومة" الذي تقوده طهران وتشن من خلاله حملات ضد القوى الإقليمية والدولية المناوئة لتدخلاتها. فالإعلام الإقليمي وتحديدًا الإيراني يتجاوز سيادة وحدود الدول العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

وتتمثل الأجندة الحاكمة لتلك المنابر الإعلامية في التعبير عن وجهة النظر الإيرانية تجاه الأزمات الإقليمية، ونفاذها إلى فئات شعبية بسيطة متأثرة بمحركات عقائدية وطائفية. ولذلك، ركزت تلك المنابر على أداء ميليشيا "الحشد الشعبي" المدعومة من طهران (قدمت إيران الدعم التدريبي والتسليحي لأقوى جماعتين وهما منظمة "بدر" التي يقودها هادي العامري و"عصائب أهل الحق" التي يتزعمها قيس الخزعلي) في التغطيات الإخبارية لها على حساب أداء قوات الجيش أو الشرطة الاتحادية أو مكافحة الإرهاب التي خاضت المواجهات ضد تنظيم "داعش" حتى أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتهاء المعارك وتحرير البلاد.

منطقة هجينة:

خلاصة القول، يبدو أن التقلبات الحادة في المنطقة سوف تستمر خلال تفاعلات عام 2018، بعد الحراك السريع داخل الدول ذاتها واختراقها من أجهزة ومؤسسات تابعة لقوى دولية وإقليمية، لدرجة باتت معها المنطقة العربية "هجينة" سواء في تكويناتها الديموغرافية أو جبهات دفاعها القتالية أو لغاتها اليومية المتداولة، بحيث يصير طرح التساؤل "أين نعيش؟" واجبًا في المرحلة المقبلة أكثر من أي وقت مضى بعد أن ترسخت ظاهرة "الدول غير العربية في المنطقة العربية".