أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

رهانات مزدوجة:

حدود صمود الاقتصاد الروسي أمام هروب الشركات الغربية

10 مايو، 2022


مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، تتوالى عمليات تخارج الشركات الأجنبية من السوق الروسي، الأمر الذي يضغط على الاقتصاد الروسي، ويدفعه، كما يتوقع الاقتصاديون، إلى ركود عميق نتيجة معدلات التضخم المرتفعة، وتقلبات عملته المحلية "الروبل" مقابل الدولار الأمريكي. ومع ذلك، تتمتع موسكو باقتصاد قوي بفضل موارد الطاقة والمحاصيل الزراعية، والتي يعتمد عليها العالم بشكل كبير، مما يجعله صامداً في الأمد القصير أمام العقوبات الغربية. كما يمكن النظر إلى بقاء بعض الشركات الأجنبية، خاصة الآسيوية، في السوق الروسي، كنقطة ارتكاز في صالح استقرار نشاطه الاقتصادي، وتعويض خروج الشركات الأوروبية والأمريكية منه.

مواقف متباينة:

تباينت مواقف الشركات الدولية من ممارسة أنشطتها داخل السوق الروسي، بين الانسحاب والتعليق والاستمرار، وذلك في أعقاب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022. إذ أعلنت بعض الشركات، بما في ذلك "آبل" و"لاند روفر" و"جاغوار" و"إتش آند إم" و"بيربري"، عن توقف أنشطتها في روسيا، وأعقبتها شركات مثل "ماكدونالدز" و"كوكاكولا" و"ستاربكس" التي أوقفت مبيعاتها هناك، وأعلنت هذه الشركات عن خطط للتصفية بالكامل منذ بدء الحرب.

كما أعلنت شركة "إكسون موبيل" عن انسحابها من آخر مشروع روسي لها. وعلّقت شركات "بوينغ، و"إيرباص" و"فورد" عملياتها الرئيسية في موسكو. وبالمثل، كانت مواقف كبرى شركات الطاقة مثل "بي بي" و"شل". كذلك توقفت الشركات الترفيهية مثل "ديزني" و"وارنر ميديا" عن إطلاق الأفلام في روسيا، وأعلنت "وارنر ميديا" أنها ستوقف عرض فيلم "باتمان" في موسكو، وقال متحدث باسم الشركة إن القرار اتُّخذ في ضوء الأزمة الإنسانية في أوكرانيا، وإن الشركة "تأمل في حل سريع وسلمي لهذه المأساة".

وقدّرت وكالة "موديز" عدد الشركات التي أوقفت أنشطتها أو خرجت تماماً من السوق الروسي بأكثر من 400 شركة دولية، ومن المتوقع تخارج المزيد من الشركات الأخرى مع تصاعد العقوبات الغربية على موسكو، لاسيما بعد استبعادها من النظام المالي العالمي "سويفت". وبالتوازي مع ذلك، أدى تخارج تلك الشركات إلى تسريح جماعي للعمال، حيث شهدت روسيا انتقال ما يصل إلى 200 ألف روسي، معظمهم من الشباب وكثير منهم من المهنيين المهرة، إلى دول مثل جورجيا وأرمينيا ودول البلطيق وتركيا.

وارتباطاً بما سبق، هددت موسكو بمصادرة أصول الشركات المُنسحب منها، مؤكدة أنها تعمل على خطوات لتأميم الشركات العامة المملوكة في الأساس لمساهمين أجانب. وهذه الخطوة هي رد على العقوبات التي فرضتها الحكومات الغربية، والتي أظهرت أنها أكثر حدة مما توقعه الكرملين. 

وعلى الرغم من تزايد عدد الشركات المُنسحبة أو التي علّقت أنشطتها في موسكو، فإن العديد من الشركات متعددة الجنسيات الأخرى لم تتخذ إجراءات مماثلة بمقاطعة أو سحب استثماراتها من السوق الروسي، ومن بينها "آيسر"، و"لينوفو" و"علي بابا" و"أسوس"، و"أوشان التجزئة"، و"كارفور"، و"جلينكور" و"هواوي"، و"الخطوط الجوية التركية"، و"شيومي" وغيرها. وبعض من تلك الشركات آسيوية والأخرى أوروبية.

زيادة الضغوط:

تبدو العقوبات الغربية الأخيرة على موسكو قاسية للغاية، فبخلاف تضرر شركات الطاقة الروسية، استهدفت العقوبات أيضاً بنوكاً روسية رئيسية تقوم بتمويل القطاعات الصناعية الاستراتيجية والعسكرية في روسيا، وأبرزها "سبير بنك". هذا بالإضافة إلى خسائر قطاع الطيران الروسي؛ نتيجة لإغلاق المجالات الجوية الأوروبية أمامه، وهو بالطبع سيضر الطرفين الروسي والأوروبي.

ومن منظور كلي، ترى وكالة التصنيف الائتماني "موديز"، في تقرير صادر عنها تحت عنوان "الصراع بين روسيا وأوكرانيا يضع الاقتصاد الروسي على حافة الانهيار"، أن الاقتصاد الروسي يمر حالياً بحالة غير مسبوقة من هروب الشركات الأجنبية، وأنه على أعتاب الدخول في مرحلة انكماش. وفي 25 مارس الماضي، ارتفع التضخم السنوي في روسيا إلى 15.7%، وهو أعلى مستوى له منذ سبتمبر 2015. ووفقاً "لجولدمان ساكس"، قد تؤدي العقوبات المفروضة على البنك المركزي الروسي، والتي تعيق دفاعه عن "الروبل"، إلى ارتفاع التضخم إلى 17% بحلول نهاية العام الحالي. ويتوافق هذا الرقم مع زيادة سعر الفائدة لدى البنك المركزي الروسي بأكثر من الضعف إلى 20% قبل خفضه مرة أخرى إلى 17%، وهي زيادة ضرورية لجذب الودائع للبنوك الروسية. 

كما سجل معدل البطالة في روسيا مستوى قياسياً، حيث يُتوقع أن يرتفع إلى 7.4% في الربع الثاني من عام 2022، لكن هذا يعتمد على مسار الصراع العسكري في أوكرانيا.

وفيما يتعلق بتوقعات النمو الاقتصادي الروسي لعام 2022، فإنها تراجعت من 2% قبل العقوبات الغربية إلى سالب 7%، مع توقع انخفاض الإنفاق المحلي العام والخاص بنسبة 10% أو أكثر. وستؤثر ضوابط التصدير التي تفرضها الدول الغربية، لاسيما على السلع والتكنولوجيا المُستخدمة في التنقيب عن النفط واستكشافه وإنتاجه، على قدرة موسكو على إنتاج الطاقة وتصديرها، مما يقوض نمو الاقتصاد الروسي. وفي هذا الصدد، يتوقع أيضاً "البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية" انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 10% هذا العام، حيث تسببت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية في أعمق ركود لروسيا منذ أوائل التسعينيات. وعلى الرغم من صمود النظام المالي الروسي، يرى البنك أنه من المتوقع تراجع الناتج المحلي الإجمالي الروسي في عام 2023 مع تحقيق نمو منخفض للغاية على المدى الطويل.

تراجع التأثير:

تعد العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا في ظل حرب أوكرانيا، من أشد العقوبات التي تم فرضها على الإطلاق، ومن المرجح أن يكون لها تأثير كبير على النظام المالي والاقتصادي في موسكو.

وتختلف العقوبات المفروضة حالياً على روسيا بشكل جوهري عن نظيرتها المفروضة عليها من الغرب في عام 2014 بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا، والتي كانت متواضعة إلى حد كبير، وذلك مقارنة بعقوبات الحظر الكامل التي استخدمتها الولايات المتحدة ضد إيران وكوريا الشمالية. 

ويتمتع الاقتصاد الروسي بالعديد من المقومات التي قد تجعله يتحمل وربما يتجاوز تبعات العقوبات الحالية، ومنها موارد الطاقة الضخمة التي تحتاجها أوروبا بشدة، والإنتاج الكافي من الغذاء، والطاقات البشرية التي تتمتع بمستوى عال من الكفاءة. وتشير الشواهد إلى تراجع تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي على عكس بدايتها، وذلك على الرغم من شن الغرب حرباً اقتصادية على موسكو، حيث حظرت واشنطن بيع مجموعة واسعة من البضائع لروسيا، وانسحبت العشرات من الشركات الكبرى، وجمّد عدد آخر من الدول مجتمعة 60% من الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي الروسي؛ بهدف دفع الاقتصاد الروسي إلى الانهيار، ومعاقبة الرئيس فلاديمير بوتين على تدخله العسكري في أوكرانيا.

وفي الأسبوع الذي أعقب بداية حرب أوكرانيا، انخفض "الروبل" الروسي بأكثر من الثُلث مقابل الدولار، وانهارت أسعار أسهم العديد من الشركات الروسية. ولكن بعدها تراجعت الفوضى في الأسواق الروسية، وارتفع سعر صرف "الروبل" بشكل ملحوظ مقارنة بالقيم الدنيا في بداية مارس الماضي، وبات الآن يقترب من مستواه السابق قبل الحرب؛ مدفوعاً بسلسلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الروسية، والتي ساعدت في استقرار الأسواق، ولعل أبرزها قرار تسوية مدفوعات الغاز بـ "الروبل".

استراتيجية المواجهة:

مازالت العديد من الشركات الآسيوية حريصة على وجودها في السوق الروسي، والحفاظ على حصصها بمشاريع الطاقة والبنوك وتجارة التجزئة المملوكة لها هناك، وبما يخدم المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول الممثلة لها. فعلى سبيل المثال، رفضت اليابان انسحاب شركاتها من مشروعي "سخالين -1" و"ساخالين -2"، معتبرة إياهما ضروريين لأمن الطاقة في اليابان. 

وحتى قبل الحرب الأوكرانية، كانت التقديرات تذهب إلى أن الصين تعتبر حليفاً اقتصادياً وسياسياً رئيسياً لموسكو، حيث يمكن الاعتماد عليها في دعم الاقتصاد الروسي، والحصول على التكنولوجيا والسلع التقنية التي حظر الغرب حصول موسكو عليها، وهو أمر سترحب الأخيرة به بطبيعة الحال.

وعلى جانب آخر، تخطط الحكومة الروسية لتقديم مزيد من الحوافز المالية للشركات المحلية، لتشجعيها على المشاركة في الأنشطة الاقتصادية التي تخارجت منها الشركات الأجنبية، وقد يمثل ذلك دعماً كبيراً للشركات وتعزيز صمود الاقتصاد الروسي في المستقبل القريب.

وهكذا، فإن سياسة انفتاح موسكو أمام الشركات الآسيوية، بالإضافة إلى دعم الشركات المحلية؛ ستلعب دوراً جوهرياً في مساندة الاقتصاد الروسي في الأجل المنظور، وهذا ما لم تنجح ضغوط الولايات المتحدة على الصين والهند وغيرهما من حلفاء روسيا في تقويض علاقتهم الاقتصادية بالأخيرة.

ختاماً، يمكن القول إن الاقتصاد الروسي سيتضرر حتماً من العقوبات الغربية المفروضة عليه، والتي دفعت معظم الشركات الأمريكية والأوروبية للخروج من السوق الروسي. ومن جانبها، تسعى موسكو لتقليل الآثار الناجمة عن ذلك من خلال مد يد العون للشركات المحلية، ومنح حلفائها مثل الصين دور أكبر داخل الاقتصاد الروسي. بيد أن ذلك سيبقى مرهوناً بمدى نجاح ضغوط واشنطن على بكين من أجل عدم تقديم الدعم الاقتصادي لموسكو.