في أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس إيراني لأوروبا منذ عهد زيارة الرئيس الأسبق "محمد خاتمي" في عام 1999، حملت زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى فرنسا وإيطاليا مروراً بالفاتيكان في الأسبوع الأخير من شهر يناير 2016، دلالات عديدة تؤشر لاستعداد المجتمع الدولي قبول عودة طهران كفاعل إقليمي مهم لاسيما على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي، بعد طي ملفها النووي ولو مؤقتاً.
وكانت هذه الزيارة مثيرة للجدل في نواح عدة، خاصةً في ظل ما شهدته من تظاهرات مناوئة للرئيس الإيراني، وانتقادات من قِبل الحقوقيين في أوروبا لممارسات النظام الإيراني في الداخل ومنطقة الشرق الأوسط.
أجواء ما قبل جولة روحاني الأوروبية
كان من المقرر أن يقوم روحاني بجولته إلى أوروبا في 17 نوفمبر 2015، ولكن تم تأجيلها بعد اعتداءات باريس في الثالث عشر من الشهر نفسه. وتأتي الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني إلى كل من إيطاليا وفرنسا، تتويجاً لأجواء الاحتفاء بالاتفاق النووي الذي أُبرم في يوليو 2015 وبدأ تنفيذه مطلع العام الحالي بين إيران والقوى الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، الصين، فرنسا، وألمانيا)، مما أدى إلى الرفع التدريجي للعقوبات التي تخنق الاقتصاد الإيراني.
ومنذ التوصل إلى الاتفاق النووي، تبادل المسؤولون الأوروبيون والإيرانيون الزيارات رغبةً منهم في تطبيع العلاقات وجني الثمار الاقتصادية لهذا الاتفاق. وكان وزيرا خارجية فرنسا لوران فابيوس وإيطاليا باولو جنتيلوني هما أول من زار طهران في نهاية يوليو ومطلع أغسطس 2015، ونقلا دعوة إلى الرئيس الإيراني لزيارة بلديهما، كما أن زيارة فابيوس أعقبها قيام وفد كبير يضم 150 رجل أعمال من فرنسا بزيارة طهران في سبتمبر الماضي للاطلاع على فرص الاستثمار.
وفي ظل أجواء التهدئة التي أعقبت الاتفاق النووي بين إيران والغرب، شاركت طهران للمرة الأولى في نهاية أكتوبر 2015 في اجتماع دولي في فيينا، للسعي للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
واقتصادياً، تأتي هذه الزيارة في أعقاب عودة إيران إلى الأسواق العالمية، إذ تسعى بعد رفع العقوبات الدولية عنها مطلع العام الجاري لاجتذاب استثمارات سنوية تُقدر بنحو 50 مليار دولار.
كما أعلن المسؤولون الإيرانيون أن البنوك العالمية تستعد لإعادة العلاقات مع نظيراتها الإيرانية، باستخدام نظام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) للتعاملات النقدية، حيث ستسمح هذه الخطوة للبنوك الإيرانية بالتعامل مع النظام المصرفي العالمي للمرة الأولى منذ عام 2012.
كذلك وقعت إيران 17 اتفاقية مع الصين، في يناير 2016، في عدد من المجالات، من بينها الطاقة. كما أعلنت الدولتان، خلال زيارة الرئيس الصيني إلى طهران الشهر الماضي، تعزيز علاقاتهما الاقتصادية لرفعها إلى مستوى 600 مليار دولار في غضون عشر سنوات.
مكاسب اقتصادية إيرانية
هدفت الجولة الأوروبية للرئيس الإيراني بالأساس إلى تحقيق مكاسب اقتصادية عديدة يتم توظيفها لأغراض سياسية أيضاً، حيث سعى روحاني إلى إبرام اتفاقات اقتصادية وتجارية مع كل من فرنسا وإيطاليا، وتشجيع الشركات الأوروبية للعودة إلى السوق الإيراني، وهو ما ينعش الاقتصاد الإيراني، وفي الوقت ذاته يسهم في كسر العزلة الدولية التي فُرضت في سنوات سابقة على إيران، فضلاً عن تعزيز فرص تيار روحاني في الانتخابات البرلمانية المقررة في 26 من فبراير الجاري.
ومن ثم، بدا واضحاً أن الملف الاقتصادي قد شكل حجر الأساس لهذه الزيارة في المقام الأول، إذ رافق روحاني خلالها وفد كبير من 120 شخصاً، بينهم عدد من ممثلي القطاعات الاقتصادية الإيرانية الرئيسية، في إشارة واضحة إلى سعي طهران لإعادة تعريف علاقتها الاقتصادية مع أوروبا، والتوجه نحو شراكة اقتصادية واعدة بين الطرفين.
وقد تمخضت الزيارة عن عدد من الاتفاقات الاقتصادية بين الكيانات الأوروبية (الفرنسية والإيطالية) والإيرانية، كان من أبرزها شراء 118 طائرة إيرباص من فرنسا، والاتفاق بين شركتي "بيجو" الفرنسية و"إيران خوردو" الإيرانية من أجل تصنيع مشترك لسيارة بيجو 301 مخصصة للسوق الإيرانية والآسيوية.
وفي مجال الطاقة والنفط، تسعى إيران إلى تطوير حقول النفط بهدف زيادة إنتاج البلاد لنحو 4 ملايين برميل يومياً، حيث تخطط شركة "توتال" الفرنسية للنفط والغاز لشراء ما يصل إلى 200 ألف برميل يومياً من الخام الإيراني بمقتضى اتفاق وقعته على هامش زيارة الرئيس الإيراني إلى باريس، سيسمح للشركة الفرنسية بالوصول إلى بيانات تقنية بشأن بعض مشاريع النفط والغاز في إيران لتقييم أعمال تطوير محتملة.
وفي روما، قررت الحكومة الإيطالية توقيع 14 اتفاقاً بلغت قيمتها نحو 18 مليار دولار في العديد من المجالات، شملت الحديد والصلب، والطاقة، وتطوير البنية التحتية. ومن ضمن هذه الصفقات، اتفاق مع شركة إيني الإيطالية بقيمة 4 مليارات دولار لتطوير مشروع نفطي بالبلاد.
وإذا كانت زيارة روحاني إلى أوروبا اقتصادية بالأساس، فإنها لم تخل من بُعد سياسي، خاصةً فيما يتعلق بمناقشة الوضع في سوريا والعراق وليبيا، إضافة إلى التهديدات الإرهابية في الشرق الأوسط وأوروبا.
وقد أعاد روحاني التأكيد على موقف بلاده من الأزمة السورية، مؤكداً أن "كل شيء بأيدي السوريين، والقرار يعود إليهم حول اختيار رئيسهم والشكل الذي ستكون عليه الدولة"، مطالباً بدعم الدولة السورية لكي تتمكن من مكافحة الإرهاب.
انتقادات أوروبية حقوقية لروحاني
نجاحات الاقتصادية السابقة، واجهت جولة روحاني إلى أوروبا العديد من الانتقادات، حيث تظاهر إيرانيون وأوروبيون وعرب، معارضون للسياسات الإيرانية، احتجاجاً على زيارة الرئيس روحاني. وطالب المتظاهرون من المسؤولين الفرنسيين محاسبة روحاني بسبب الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في طهران، والاتهامات الموجهة لبلاده بتصدير الإرهاب والتطرف في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً تأييده ودعمه نظام بشار الأسد.
كما عكست استطلاعات الرأي الرفض الشعبي في أوروبا لممارسات النظام الإيراني، حيث أظهرت استطلاعات رأي في فرنسا حول زيارة روحاني أن 83% من الفرنسيين يريدون من الرئيس فرانسوا هولاند إثارة قضايا حقوق الإنسان مع نظيره الإيراني.
من ناحية أخرى، أثارت واقعة إقدام السلطات الإيطالية على تغطية التماثيل الكلاسيكية العارية في متحف كابيتوليني في روما، رغبةً منها في إرضاء الرئيس الإيراني، استياء وغضب زعماء المعارضة والعديد من الإعلاميين في إيطاليا، حتى أن بعض الناشطين اتهموا الحكومة الإيطالية بـ"خيانة التاريخ" الروماني من أجل إرضاء الزوار الأجانب، والحصول على منافع اقتصادية.
مـاذا بعــد جولة روحاني؟
من المتوقع أن تفتح زيارة روحاني فصلاً جديداً في العلاقات بين إيران وفرنسا وإيطاليا، وربما ستكون نافذة جديدة بين طهران والاتحاد الأوروبي، حيث إن فعاليات الزيارة ونتائجها تثبت أن أوروبا باتت تدرك دور إيران كقوة إقليمية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط.
فلاشك أن أوروبا تتطلّع إلى دور إيراني قوي في مواجهة تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، والمساهمة بشكل إيجابي، بفضل علاقتها القوية مع موسكو، في المفاوضات بين المعارضة والنظام السوري، والتي تشهد تعثّراً كبيراً بسبب الإملاءات الروسية.
كما تتلاقى أيضاً أهداف الطرفين الأوروبي والإيراني فيما يخص الملف الاقتصادي، إذ ترغب أوروبا في الاستفادة من النفط الإيراني، فضلاً عن الفرص الاستثمارية الكبيرة التي يتيحها الاقتصاد الإيراني المتعطش للتنمية بعد سنوات عديدة من العقوبات. ومن ناحيتها، تسعى طهران بشكل أساسي إلى ترميم اقتصادها المتهاوي على أثر العقوبات التي دامت سنوات عديدة.
حاصل القول، إذا كانت جولة روحاني إلى كل من فرنسا وإيطاليا قد حققت مكاسب اقتصادية في ظل إبرام العديد من العقود التجارية والاستثمارات مع شركات أوروبية، غير أن طهران قد تحتاج وقتاً طويلاً لجني ثمار هذه الاتفاقات الاقتصادية، خاصةً في ظل المخاوف الغربية من مخاطر الاستثمار في إيران، خشية فرض عقوبات دولية جديدة على طهران، في حال خرقها للاتفاق النووي ومعاودتها أنشطتها النووية، والاستمرار في تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية.
أيضاً، ليس متوقعاً أن يؤثر هذا التقارب الإيراني- الأوروبي على علاقات الغرب بباقي دول الشرق الأوسط، خاصةً السنية منها؛ لأن القوى الدولية حريصة على الحفاظ على علاقتها ومصالحها المشتركة مع دول المنطقة. وما يؤكد ذلك حرص الرئاسة الفرنسية عشية زيارة روحاني، على توضيح أن باريس ليست ساذجة في علاقتها مع طهران، وأنها ستعمل على إرساء مرحلة جديدة في التعامل معها، بالنظر إلى دور إيجابي ومعتدل تؤديه إيران في الشرق الأوسط. كما ركّزت الرئاسة الفرنسية على تأكيد أنها تدرك جيداً أن أي تحولات جوهرية في المواقف الإيرانية على المستوى الإقليمي تحتاج إلى بعض الوقت.