أكد مسؤولون سودانيون، في 11 فبراير 2023، إنهاء الجيش السوداني عملية مراجعة الاتفاقية المبرمة مع روسيا، والتي بموجبها يفترض أن تقوم موسكو ببناء قاعدة عسكرية بحرية لها على البحر الأحمر، وذلك في أعقاب زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلى السودان، في الثامن من نفس الشهر، حيث أجرى لقاءات مع رئيس مجلس السيادة، عبدالفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"، ووزير الخارجية علي الصادق.
عودة القاعدة الروسية
عاد الحديث مرة أخرى عن القاعدة العسكرية البحرية التي تسعى روسيا للحصول عليها شرق السودان، ويمكن تفصيل أبعاد هذا الموضوع على النحو التالي:
1- اتفاق سابق مع البشير: كان الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، أبرم اتفاقاً مع موسكو بشأن إقامة قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر في بورتسودان، لمدة 25 عاماً قابلة للتجديد لنحو 10 سنوات. وبموجبها كان يفترض أن تضم هذه القاعدة بحد أقصى أربع سفن حربية روسية، بما في ذلك السفن النووية، ونحو 300 عسكري روسي، مقابل أن تقوم روسيا بتزويد الجيش السوداني بالأسلحة والمعدات العسكرية.
وفي مايو 2019 كشفت موسكو عن بنود اتفاقيتها المبرمة مع الخرطوم، قبل أن يصادق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نوفمبر 2020، على الاتفاقية، بيد أن رئيس الأركان السوداني، محمد عثمان الحسين، أعلن، في يونيو 2021، إعادة النظر في الاتفاقية المبرمة مع روسيا، بدعوى تضمنها بنوداً تضر بالمصالح السودانية، وأنها لم تُطرح على المجلس التشريعي لإقراراها.
2- الانتهاء من مراجعة الاتفاق: أنهى الجيش السوداني مراجعة الاتفاق المبرم مع روسيا لبناء قاعدة عسكرية بحرية لموسكو على ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر، بيد أن الخرطوم وموسكو أكدتا أنه سيتم انتظار تشكيل حكومة مدنية وهيئة تشريعية للتصديق على الاتفاقية ودخولها حيز التنفيذ، كما لفتت تقارير إلى أن الاتفاق بات مقبولاً بالنسبة للخرطوم، بعدما عمدت روسيا خلال الفترة الماضية إلى تلبية المطالب السودانية، لاسيما تلك المتعلقة بتوفير المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية للجيش السوداني.
3- تجاوب سوداني مع موسكو: أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، خلال زيارته الأخيرة إلى الخرطوم، في 8 فبراير 2023، في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بوزير الخارجية السوداني المكلف، علي الصادق، أن الاتفاقية الخاصة بالقاعدة العسكرية البحرية الروسية في بورتسودان باتت في طور المصادقة، وأن موسكو تنتظر مصادقة الخرطوم على هذه الاتفاقية بمجرد تشكيل هيئة تشريعية في البلاد، فيما لم ينف الوزير السوداني هذا الأمر.
4- انزعاج أمريكي متزايد: يتوقع أن تبدي واشنطن انزعاجاً من توصل موسكو لتفاهمات مع السودان للحصول على قاعدة عسكرية بحرية في السودان، خاصة في ظل مساعي الأولى لفرض عزلة دولية على روسيا ومحاصرة نفوذها الخارجي، لاسيما في إفريقيا، فضلاً عن محاولة واشنطن صياغة ترتيبات إقليمية جديدة في القرن الإفريقي، تعزز من خلالها مصالحها في هذه المنطقة الاستراتيجية، مقابل تحجيم النفوذ الروسي والصيني هناك. وفي حال تمكن موسكو من الحصول على قاعدة عسكرية لها على سواحل السودان، فإن ذلك سيشكل تهديداً للمصالح الأمريكية في المنطقة، ورسائل ضمنية مفادها فشل ضغوط واشنطن في عزل موسكو.
استقطاب داخل وخارجي
يتزامن الحديث عن القاعدة الروسية في السودان مع تصاعد وتيرة التنافس في الملف السوداني، سواءً على مستوى الأطراف الداخلية، أو فيما يتعلق بالقوى الدولية الفاعلة في هذا الملف، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تنافس روسي غربي: جاء الحديث عن إنشاء القاعدة العسكرية الروسية في أعقاب زيارة لافروف، إلى السودان، في 8 فبراير الجاري، في إطار جولته الإفريقية الأخيرة. وتزامنت زيارة لافروف للخرطوم مع زيارة أخرى قام بها ستة من المبعوثين الخاصين للدول الغربية إلى السودان، شملت هذه الزيارة مبعوثين لكل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والنرويج والاتحاد الأوروبي، حيث عقدوا مشاورات مكثفة بشأن مسارات العملية السياسية في الخرطوم، وسبل الدفع نحو إنجاز اتفاق شامل ينهي الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، ويمهد الطريق لتشكيل حكومة مدنية.
ويبدو أن لافروف عمد إلى اختيار توقيت زيارته للخرطوم لتتوافق مع وصول المبعوثين الغربيين إلى الخرطوم، حيث كانت الزيارة الأخيرة مجدولة منذ عدة أسابيع، وذلك في محاولة من موسكو للتلويح بأن نفوذها لا يزال مستمراً في السودان، مما يعزز من التقديرات التي تشير إلى أن الفترة المقبلة ربما تشهد تصاعداً حاداً في وتيرة التنافس الروسي الغربي في الملف السوداني، في ظل الموقع الجيواستراتيجي الذي تتمتع به السودان، سواءً لإطلالها على البحر الأحمر، أو لكونها بوابة مهمة للعمق الإفريقي، ولذلك يتوقع أن تشهد الخرطوم انخراطاً متزايداً من طرفي التنافس خلال الفترة المقبلة.
2- توترات داخلية متزايدة: يشهد الداخل السوداني توترات متزايدة بسبب تعثر مساعي إنجاز اتفاق شامل ينهي الأزمة السياسية الحالية في البلاد. وعلى الرغم من إعلان مجلس السيادة السوداني، في 11 فبراير 2023، التوصل إلى صيغة توافقية نهائية بشأن الإعلان السياسي المرتقب بين المجلس والقوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري وتلك الرافضة له، فإن رئيس مجلس السيادة، عبدالفتاح البرهان، حدد، في 16 فبراير 2023، شروطاً جديدة لاستمرار دعم مؤسسة الجيش للاتفاق الإطاري الذي تم التوصل إليه في ديسمبر الماضي، ويتمثل بالأساس في دمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة داخل الجيش، فضلاً عن توحيد صفوف القوى السياسية، وهو ما كشف عن الخلافات القائمة بين البرهان ونائبه، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، في ظل تصاعد التنافس بينهما خلال الفترة الأخيرة.
مسارات محتملة
في ضوء التطورات السابقة يتوقع أن يشهد السودان عدداً من المسارات المحتملة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- مناورة سودانية محتملة: على الرغم من أن مراجعة الاتفاق المبرم مع روسيا بشأن القاعدة العسكرية تعكس ضمنياً موافقة الخرطوم على تفعيله، فإن هذا الملف لا يزال معلقاً، إذ لا تزال هناك حاجة إلى تشكيل حكومة مدنية وهيئة تشريعية للتصديق على الاتفاق، وهو ما قد يكون بمثابة محاولة من الخرطوم للمماطلة في تنفيذ الاتفاق، وفي الوقت نفسه الضغط على القوى الغربية لرفع تعليقها للمساعدات الاقتصادية التي تبدو الخرطوم في حاجة ملحة لها في ظل الضغوط المتزايدة التي تعاني منها البلاد.
ومن جانب آخر، فإن الخرطوم تسعى للضغط على الولايات المتحدة لدفعها للتجاوب مع دعوات الأولى المتكررة لمجلس الأمن الدولي بضرورة رفع العقوبات وحظر التسليح المفروض عليها، وإلا فإن البديل سوف يتمثل في تعزيز العلاقات العسكرية مع موسكو، خاصة بعد إبداء موسكو استعدادها لتزويد الجيش السوداني بالدعم العسكري المطلوب.
2- ضغوط أمريكية متزايدة: سوف تشهد الفترة المقبلة ضغوطاً أمريكية متزايدة على السودان لمنع روسيا من الحصول على قاعدة عسكرية لها على البحر الأحمر، نظراً للأهمية الجيواستراتيجية التي تشكلها هذه القاعدة لموسكو في المنطقة، حيث ستتيح لها الوصول إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، والتمركز في طرق التجارة العالمية وأحد أكثر الممرات المائية ازدحاماً، بما يشكل ورقة ضغط على الغرب.
وفي المقابل، قد تلجأ واشنطن والقوى الأوروبية إلى تغيير استراتيجيتها في التعامل مع السودان خلال الفترة المقبلة، عبر رفع تعليق بعض المساعدات الاقتصادية والتركيز على تحقيق الاستقرار في البلاد كأولوية مقابل تراجع توظيف ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، خوفاً من أن يترتب على ذلك اتجاه الخرطوم لتعزيز علاقاتها مع موسكو، على غرار بعض دول الساحل الإفريقي، غير أن وجود مجتمع مدني قوي في السودان، مناوئ للجيش قد يهدئ من هذه المخاوف.
3- حرب باردة جديدة: رجحت الصحافة البريطانية وجود موافقة فعلية من كبار الضباط في الجيش السوداني على الاتفاقية الروسية لبناء قاعدة عسكرية، وهي الخطوة، التي في حال نجاحها ستعزز نفوذ موسكو وتؤطر لـ"حرب باردة جديدة في إفريقيا" بين الولايات المتحدة وروسيا في القرن الإفريقي.
وفي الختام، يبدو أن السودان يتجه إلى موازنة علاقاته بين كافة القوى الدولية الفاعلة، سواءً تمثل ذلك في روسيا، أو الولايات المتحدة، والسعي لتحقيق أكبر استفادة عسكرية واقتصادية ممكنة من كليهما، لاسيما في ظل التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها الخرطوم، وذلك استغلالاً لحقيقة أن خطوة إقامة القاعدة العسكرية الروسية سوف تكون مؤجلة بانتظار إقامة حكومة مدنية في السودان.