في 1932، كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أوّل من اخترع مفهوم منح أهمّية قصوى لأوّل مئة يوم يمضيها رئيس في الحكم، كطريقة لاستقطاب الأنظار إلى جدول أعمال فوريّ تمّ تصميمه ليُظهر إصرار الرئيس وغايته على عكس مفعول معظم الهفوات التي ارتكبها سَلَفه. الأمر سيّان بالنسبة إلى الرئيس الجديد دونالد ترامب، إذ تشارف أيامه المئة الأولى في الحكم على الانتهاء. أمّا معرفة ما إذا كانت الفكرة برمّتها صائبةً في حالته هو، فمسألة مختلفة تماماً، بالنظر إلى أن القسم الأكبر من جدول أعماله الفوري المناهض لباراك أوباما، الذي يشمل مثلاً قانون الرعاية الصحّية الجديد الذي يقترحه، يبقى حتّى الآن عالقاً في الكونغرس. وفي المقابل، ظهرت مشكلات كثيرة أخرى لا تستدعي فقط الالتفات إلى انعدام الكفاءة المحض، وفي بعض الحالات، إلى الممارسات المراوغة أخلاقياً ضمن فريق عمل ترامب، لكن أيضاً إلى مسائل مثيرة للحرج، على غرار الدليل الواضح على تدخل روسيا لتأييد ترامب ضد هيلاري كلينتون في الانتخابات الأخيرة، وهو أمر لا يمكن فصله أبداً عن واقع الأمور.
كيف نشرح هذا كلّه؟
بإطلاق ملاحظة حسنة النّية، مفادها أنّ درساً كبيراً سيكون بانتظار أيّ شخص يصل إلى ما يسمّى تقليديّاً «أكثر المراكز نفوذاً في العالم»، لكونه سيكتشف أنّ نفوذه مقيّد من نواحٍ عدّة، أقلّه بموجب الدستور الأميركي بحدّ ذاته، الذي يشتمل على سلسلة ضوابط وموازين مدروسة للشؤون التنفيذيّة والقضائيّة، التي صُمّمَت جميعها، تماماً وفقاً لما قصده الآباء المؤسسون أمثال توماس جفرسون، لمنع ظهور ديكتاتور يتشبّه بالملك، وربّما ينفّذ مصالح أجنبيّة.
ولا بدّ من التطرّق إلى عدد أكبر من المسائل الشخصية، وأحدها أن ترامب تعلّم أسلوبه الإداري كعملاق عقارات حقّق ثروته إمّا عبر شراء العقارات وبيعها، أو عبر ترخيص علامة «ترامب» التجارية، وكانت على ما يبدو نشاطات أقدم عليها بطريقة عرضيّة وغير مضبوطة، فلم تتطلّب منه الكثير من الدراسة ولا اهتماماً كبيراً بالتفاصيل، ناهيك عن أي معرفة محدَّدة لما ينطوي عليه العالم خارج حدود الولايات المتحدة، بما يشمل أجزاء مهمة من تاريخ البلاد، على غرار ما حصل فعلاً خلال الحرب العالميّة الثانية. وبنظر ملايين الناس أمثالي، ممّن لم يطّلعوا على طبيعة خطّ أعمال ترامب، قد يبدو هذا كله عمل شخص جلّ ما يهمّه هو الفوز بالصفقات التي منحته شهرته. لكن، في غياب أيّ دليل ملموس على ذلك، من يمكنه التأكّد من هذه الافتراضات؟
يمكن التأكيد على أمر واحد، وهو أن نموذج أعمال ترامب يتطلّب قدراً كبيراً من الدعاية، وتهرّباً من حقائق غير مريحة، وقدراً كبيراً من البلطجة والتهديد والوعيد. وخير شهادة على ذلك دور المتحدّث باسمه، شون سبايسر، المشؤوم، الذي يظهر على شاشات التلفزيون بصفته «متحدثاً باسم رئيسه»، ويخوض دراما يوميّة ملؤها التقلّبات، فيقول أمراً ويعني غيره، ويتملّق الحقيقة، وهو كان ليخسر عمله حتماً منذ وقت طويل لو كان في عهدة أي رئيس آخر يمكنني التفكير فيه. وبالطبع لا مجال للتفكير أبداً باحتمال أن يكون أحد منهما مطّلعاً على التفاصيل الداخلية لحدث عالَميّ تاريخي ترك تداعيات عملاقة، من قبيل الحرب العالميّة الثانية!
وسرعان ما نبدأ بالتفكير بأنّ هذه المواقف الذليلة تخفي حتماً أمراً كبيراً جدّاً. فلا شكّ في أنّ الأسئلة كثيرة حول صفقات الأعمال التي يجريها الرئيس مع الأليغارشيين الروس المقرّبين من الرئيس بوتين، ناهيك عن تضارب المصالح بين الرئيس واستثمارات عائلته المحفوظة، وفقاً للافتراضات، في مكان موثوق وآمن. ومع ذلك لا تزال تستقطب اهتمام المقرّبين من الملياردير، التائقين لضمان نفاذهم إلى السلطة والاستفادة من مكافأة مالية، لمجرّد اعتبارهم من «أصدقاء» ترامب.
ما يثير القلق أكثر هو معتقد راسخ على ما يبدو في عائلة ترامب، حول عدم وجود أيّ تضارُب فعليّ بين السياسة والتجارة، ما يجعل الرئاسة الموقع الطبيعي لتحقيق الأرباح، عبر الترخيص مثلاً لعدد أكبر من فنادق «ترامب تاور» في دول صديقة كالصين وتركيا. وتضاعفت حدّة القلق بعد أن انتقل بعض أبناء ترامب للعيش فعليّاً في البيت الأبيض وأداء دور مستشارين لا يمكن إقالتهم أبداً، حتّى تخالهم في قصر ملكي، في حين يأمر والدهم أعضاء الكونغرس بالاجتماع به هناك تحديداً، بدلاً من اضطراره إلى الانتقال إلى مجلس الشيوخ، وهو ما اعتاد الرؤساء السابقون فعله.
مع ذلك، وضمن «الأيام المئة الأولى» نفسها، بدأ الرئيس ترامب أيضاً يقرّ علناً ببعض أخطائه، مثلما حصل عندما أخبر معلّقاً ذا نفوذ بأنّه كان على خطأ عندما اعتبر «حلف شمال الأطلسي» بائداً، معللاً كلامه بأنه جديد في مجال السياسة، وبالتالي، «لم يكن يعرف الكثير عن هذه المنظّمة». وسيفيد آخرون بأنّ قراره بإطلاق صواريخ «توماهوك» ضد أهداف سوريّة يعكس اهتمامه الحديث بالدور العالمي لبلاده، في تناقض ملحوظ مع الموقف الانعزالي الذي وعد باتّخاذه خلال حملته الانتخابية. حتّى أنّ اهتمامه المفرط بتشييد جدار على طول الحدود المكسيكية - الأميركية الممتدة على ألفي كيلومتر تحوّل إلى ما يسمّيه المتحدّثون باسمه، بطريقة مبهمة، مسألة تحسين لـ «الأمن القومي».
وأخيراً، لا بد من أن نتطلّع إلى الخبر الذي يفيد بأنّ هذا الرجل الذي تخطّى السبعين من عمره بدأ يعدّ، وفق ما يقال، صندوق تمويل لحملة معاودة انتخابه في عام 2020. أضف إلى ذلك خبراً قد يكون أكثر عجباً، حول احتمالٍ، وفقط احتمالٍ، بأن يكون قد قرّر وضع حدّ لتغريداته الطفوليّة. وبالتالي، وبينما ينص التاريخ على جميع الرؤساء بالتقدّم والوقوف تحت الأضواء ليظهروا في هيئة القادة أمام مجمل الشعب، من المؤكّد أنّ سرعة تحرّك ترامب، خلال أشهره الثلاثة الأولى، كان مثيراً للذهول.
*نقلا عن صحيفة الحياة