اتسع نطاق الخلافات العالقة بين إيران وتركيا حول الملفات الإقليمية المختلفة، وعلى رأسها الأزمة في سوريا، بدرجة لافتة خلال الفترة الأخيرة، خاصة مع الانتقادات الأخيرة التي وجهها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى إيران، خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن، في 20 فبراير 2017، والتي قال فيها إن "طهران تسعى لتحويل سوريا والعراق إلى مذهبها"، وهو ما دفع الأخيرة إلى استدعاء السفير التركي لديها رضا هاكان تاكين للاحتجاج على تلك الاتهامات، وتوجيه تحذيرات ضمنية لأنقرة بأن "صبر إيران له حدود"، بحسب ما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، كما شنت وسائل الإعلام الإيرانية المختلفة حملة قوية ضد السياسة التركية في المنطقة، خاصة في سوريا.
ومع ذلك، فإن ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع الطرفين إلى محاولة ضبط حدود هذا الصراع خلال المرحلة المقبلة، في إطار ما يمكن تسميته بـ"توافق الضرورة" الذي تفرضه المصالح الخاصة بكل من طهران وأنقرة، على نحو ما عبّر عنه حرص الرئيسين الإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان على عقد لقاء على هامش اجتماع منظمة التعاون الاقتصادي في باكستان في بداية مارس 2017.
اتهامات متجددة:
واللافت في هذا السياق، هو أن تلك الاتهامات التركية لإيران ليس جديدة، بل هى متجددة، إذ سبق أن وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتهامات مماثلة، في 27 ديسمبر 2015، عندما قال إن "إيران تتبع سياسة طائفية في سوريا من خلال دعمها لنظام الأسد". ومع ذلك، فإن التوتر والتصعيد لم يصل إلى تلك الدرجة التي بلغها في الفترة الحالية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارين رئيسيين:
الأول، أن تصريحات جاويش أوغلو أعقبت الجولة الإقليمية الخليجية التي قام بها الرئيس أردوغان إلى كل من البحرين والسعودية وقطر، خلال الفترة من 12 إلى 15 فبراير 2017، والتي اعتبرت اتجاهات عديدة داخل إيران أنها تسعى إلى رفع مستوى التنسيق بين تركيا وهذه الدول في التعامل مع الملفات الإقليمية المختلفة، وفي مقدمتها الملفان السوري واليمني، بشكل لا يتوافق مع السياسة الإيرانية تجاه تلك الملفات.
والثاني، أن هذه الاتهامات تتوازى مع تصاعد حدة القلق الإيراني من ارتفاع مستوى التنسيق بين تركيا وروسيا حول التطورات السياسية والميدانية في سوريا، خاصة بعد التوافق على تفاصيل إنهاء معركة حلب في منتصف ديسمبر 2016، وإبرام اتفاق وقف إطلاق النار في نهاية الشهر نفسه، ثم انعقاد مؤتمرى الأستانة وجنيف بين النظام السوري وقوى المعارضة في شهري يناير وفبراير الماضيين.
وبالطبع، فإن هذا القلق تزايد مع مواصلة تقدم قوات "درع الفرات" المدعومة من تركيا داخل الأراضي السورية، ونجاحها في تحرير مدينة الباب، بالتوازي مع استمرار تعويل أنقرة على إمكانية تأسيس منطقة آمنة في شمال سوريا بعد تبلور ملامح واضحة للسياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية.
حدود واضحة:
ومع ذلك، يبدو أن الطرفين لا يزالان حريصين على وضع سقف لهذا التوتر وعدم تصعيده إلى مرحلة قد يصعب فيها الحفاظ على التفاهمات والعلاقات الثنائية المتميزة، لا سيما على المستوى الاقتصادي. وهنا، فإن ثمة اعتبارات عديدة ترتبط برؤية كل طرف لتأثير التصعيد المحتمل على مصالحه مع الطرف الآخر، ربما تفرض حدودًا معينة لهذا التصعيد.
إذ إن إيران لا تبدو في وارد التخلي عن علاقاتها القوية مع تركيا رغم الخلافات القائمة بينهما؛ حيث إن تركيا ربما تساعد مستقبلا في نقل الغاز الإيراني إلى الدول الأوروبية، في ظل الجهود التي تبذلها إيران في الوقت الحالي للاستفادة من عوائد الاتفاق النووي، لا سيما في مجال الطاقة، من خلال العمل على تطوير البنية التحتية لتعزيز قدرتها على رفع مستوى صادراتها من النفط والغاز خلال المرحلة المقبلة.
كما أن الحفاظ على علاقات قوية مع تركيا يتوافق مع المصالح الإيرانية في الوقت الحالي، لا سيما في ظل مخاوف إيران من إمكانية تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، بشكل يمكن أن يساهم في تضييق هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمامها على الساحتين الدولية والإقليمية، خاصة في حالة ما إذا تزايدت احتمالات وقف العمل بالاتفاق النووي، رغم جسامة التداعيات التي يمكن أن تترتب على ذلك.
وهنا، فإن تركيا سوف تكون الطرف القادر على تعزيز العلاقات مع إيران، وربما تقليص أية ضغوط قد تفرضها أية عقوبات محتملة قد تتعرض لها إيران في حالة حدوث هذا السيناريو رغم احتمالاته الضعيفة، وذلك على غرار ما حدث خلال فترة تصاعد حدة الأزمة النووية في عهد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، حيث كانت تركيا من ضمن الدول التي أيدت أحقية إيران في امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية، وسعت -بالتعاون مع البرازيل وإيران- إلى الوصول لتسوية لهذا الملف من خلال إبرام ما عُرف بـ"الاتفاق الثلاثي" في مايو 2010، بل إنها دخلت في بعض الأحيان في خلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بسبب هذه الأزمة تحديدًا.
لكن اللافت في هذا السياق هو أنه في حالة ما إذا تزايدت احتمالات حدوث السيناريو المعاكس لذلك، أى اتجاه إيران إلى محاولة فتح قنوات تواصل مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتقليص حدة التصعيد الحالية، فإن أنقرة يمكن أن تمثل أيضًا طرفًا قد يتم الاستناد إليه في لحظة ما للقيام بدور الوسيط مع الأخيرة.
في مقابل ذلك، فإن تركيا أيضًا ربما ليست في وارد المغامرة بتصعيد حدة التوتر في علاقاتها مع إيران في المرحلة الحالية. إذ إن ذلك سوف يؤثر على مصالحها الاقتصادية مع الأخيرة، خاصة في ضوء تطلعها إلى الاستفادة من رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران بهدف زيادة مستوى التبادل التجاري معها من نحو 8 مليارات و400 مليون دولار إلى 30 مليار دولار حسب تصريحات بعض المسئولين الأتراك والإيرانيين.
فضلا عن ذلك، فإن هذا التصعيد المحتمل قد يدفع إيران إلى محاولة فرض ضغوط قوية على تركيا من خلال تأسيس علاقات قوية مع بعض الأطراف المناوئة لها، على غرار حزب العمال الكردستاني.
كما أن ذلك قد يؤدي إلى عدم استمرار التفاهمات الروسية-التركية التي تعول عليها تركيا في دعم فرص نجاح عملياتها العسكرية داخل سوريا، خاصةً فيما يتعلق بوضع عقبات أمام جهود الأكراد للحصول على مكاسب استراتيجية من مشاركتهم في الحرب ضد "داعش". فضلا عن أن ذلك من شأنه أيضًا أن يدفع إيران وحلفاءها من الميليشيات التي تشارك في المواجهات المسلحة داخل سوريا بجانب النظام السوري، إلى محاولة تهديد مصالح تركيا في سوريا، وعرقلة تقدم القوات الموالية لها.
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن توافق الضرورة سوف يدفع كلا من إيران وتركيا إلى العمل على ضبط حدود الخلاف فيما بينهما حول تطورات الأزمة السورية، على المستويين السياسي والميداني، ربما إلى حين استشراف ما سوف تفرضه تلك التطورات من نتائج استراتيجية سوف تؤثر على توازنات القوى وعلى مصالح كلا الطرفين داخل سوريا وخارجها خلال المرحلة المقبلة.