أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الشروق:

التمدد الروسى فى إفريقيا.. الأهداف والعواقب

20 يونيو، 2024



فى الثالث من مايو 2024، عندما أكدت الولايات المتحدة وجود قوات أمن روسية فى نفس القاعدة الجوية التى توجد بها قوات أمريكية فى النيجر، نشرت قناة «تليجرام» الشهيرة المقربة من الكرملين رسالة ذات دلالة غير خافية تحتوى على مقطع صوتى للأغنية الشهيرة لموسيقى الروك السوفيتية فى الثمانينيات «باى باى أمريكا». بعد ذلك بوقت قصير، اتفق المسئولون الأمريكيون والمجلس العسكرى الحاكم فى النيجر على انسحاب تدريجى للقوات الأمريكية من النيجر، وعلى أية حال كان انسحاب القوات العسكرية الغربية من منطقة الساحل مصحوبا بتوسع النفوذ الروسى، وتسعى موسكو إلى توسيع نطاق نفوذها عالميا، وإيجاد أسواق تصدير جديدة والوصول إلى الموارد الطبيعية، ولعل إفريقيا تمثل فرصة مثالية لتنفيذ هذه الأهداف الروسية.

• الأهداف الاستراتيجية

إن توسع روسيا فى إفريقيا ليس مناورة مفاجئة، بل هو جهد محسوب لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسى لصالحها فى إطار التحالف مع دول الجنوب العالمى من أجل وضع قواعد نظام عالمى جديد أكثر عدالة وتوازنا، وربما يتمثل الهدف الأساسى لروسيا فى استغلال الثغرات فى السياسة الأمنية التى خلفتها الدول الغربية؛ بهدف تغيير ميزان القوى تدريجيا.

وخلافا للنهج الغربى، الذى يؤكد غالبا الشراكات طويلة الأمد فى ظل مشروطية سياسية تنطوى على مبادئ النيوليبرالية، فإن الاستراتيجية الروسية تركز على المكاسب الفورية والمزايا التكتيكية وعدم التدخل فى الشئون الداخلية وإعلاء مبدأ السيادة الوطنية للشركاء، ويسمح هذا النهج لروسيا بتثبيت وجودها ونفوذها بسرعة، وإنشاء حزام من التعاون العسكرى يمتد من المحيط الأطلسى إلى البحر الأحمر.

من جهة أخرى فإن روسيا فى تنافسها مع العالم الليبرالى على تأسيس الخطاب المهيمن - إلى جانب الوسائل العسكرية - تستخدم القوة الناعمة، وتستفيد من جاذبية القيم غير الليبرالية لتشكيل تحالفات فعالة فى السياسة الخارجية، وتقويض مصداقية المؤسسات الدولية، وإعادة تشكيل النظام العالمى.

وبعيدا عن الجوانب العسكرية وأمن الطاقة، تسعى موسكو أن يكون نموذجها جذابا للدول الإفريقية، ويسهم فى التنمية الاقتصادية لموسكو نفسها، وعليه تسعى روسيا إلى تطوير الفرص الثنائية للشراكة التكنولوجية التى تُعد محركا للتنمية فى سياق الثورة الصناعية الرابعة، وحافزا لخلق تحالفات استراتيجية جديدة، وفى ظل الخبرات السابقة منذ العهد السوفيتى، يمكن أن ينمو الطلب على التقنيات الروسية فى إفريقيا بشكل كبير؛ لأن روسيا لديها كفاءات عالية فى تلك المجالات الأكثر طلبا اليوم فى القارة الإفريقية.

إن نقل التقنيات الروسية، لا يفيد روسيا فقط من حيث الصورة، بل يقدم موسكو كقوة تسهم فى التنمية المتقدمة لإفريقيا وتعزيز سيادتها الاقتصادية، بالإضافة إلى ذلك، تحظى روسيا «بأرضية اختبار» واسعة لمعالجة وتحسين تقنياتها، التى يطلبها الشباب الأفارقة الذين يتزايد عددهم بسرعة، وسوق ضخمة للسلع والخدمات الروسية عالية التقنية، والتى تُعد ضرورية للغاية للكثيرين من الأفارقة، وعلى أية حال فإن الكرملين عازم على توسيع وجوده فى إفريقيا، إذ إن الموارد الطبيعية للقارة، وأصواتها الـ54 فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقربها من أوروبا، من شأنها أن توفر لروسيا حليفا مهما وموقعا استراتيجيا يمكن من خلاله تطويق خصمها الأوروبى.

• الحزام الروسى الجديد

تتعدد الأنشطة العسكرية الروسية فى إفريقيا ويتسع نطاقها بشكل تدريجى. ففى بوركينا فاسو ومالى، شاركت القوات الروسية بنشاط؛ إذ قدمت المساعدة العسكرية وأقامت علاقات تعاون، وفى النيجر، هناك علامات على التعاون العسكرى الذى يزداد رسوخا، وتشير الاجتماعات السياسية رفيعة المستوى فى تشاد إلى تعميق العلاقة مع زيارة الرئيس ديبى لموسكو مطلع 2024، وتمتلك روسيا وجودا أمنيا قد يصل إلى حد بناء قاعدة للفيلق الإفريقى فى جمهورية إفريقيا الوسطى. وعلى أية حال اتجهت البلدان عبر منطقة الساحل، وهى المنطقة الممتدة من السنغال إلى البحر الأحمر، نحو روسيا للحصول على المساعدة الأمنية فى السنوات الأخيرة فى مواجهة عدم الاستقرار الإقليمى المتزايد.

فى ظل التجاذبات الجيوستراتيجية الهشة فى الساحل الإفريقى بمعناه الواسع، كشف مساعد القائد العام للجيش السودانى ياسر العطا، فى 25 مايو 2024، عن موافقة حكومته على اتفاق وقعه النظام السابق عام 2019؛ لإنشاء مركز لوجستى للبحرية الروسية فى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وبالفعل توجه وفد سودانى برئاسة مالك عقار إلى موسكو؛ لبحث التعاون العسكرى والاقتصادى بما فى ذلك مشروعات التعدين والزراعة، ومن المنتظر أن يوقع على الاتفاقية النهائية للقاعدة البحرية رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان. ويوضح هذا النطاق الواسع من الأنشطة النهج الشامل الذى تتبعه روسيا فى تأمين مصالحها فى جميع أنحاء القارة، ولاسيما منطقة الحزام الإفريقى.

فمن خلال تقديم الدعم العسكرى وإقامة التحالفات مع الدول الإفريقية، تضع روسيا نفسها فاعلاً رئيسيا فى ديناميكيات الأمن الإقليمى، وهذا لا يعزز نفوذها الجيوسياسى فحسب، بل يمكّنها أيضاً من موازنة النفوذ الغربى فى هذه الدول.

• عواقب محتملة

النفوذ الروسى المتنامى فى إفريقيا يحمل فى طياته عواقب كبيرة على الاستقرار الإقليمى والعالمي. بالنسبة للدول الإفريقية، يمكن أن يعنى التدخل الروسى المتزايد الوصول إلى موارد عسكرية جديدة والتدريب؛ مما قد يعزز قدراتها الأمنية الداخلية، ومع ذلك، فإن هذا يثير مخاوف بشأن التأثير طويل المدى فى الحكم والسيادة وديناميكيات القوة الإقليمية. فعلى سبيل المثال، يدل نشر الفيلق الإفريقى، وهو قوة عسكرية تسيطر عليها الدولة الروسية، على تحول استراتيجى فى النهج الذى تتبناه روسيا فى التعامل مع النفوذ العسكرى فى إفريقيا، وعلى عكس شركة فاجنر العسكرية الخاصة، يخضع الفيلق الإفريقى مباشرة للدولة الروسية؛ مما يضمن قدرا أكبر من السيطرة والتنسيق، وكان أول انتشار مؤكد له فى بوركينا فاسو؛ حيث يدعم الحكومة العسكرية لإبراهيم تراورى، ويعتقد أن قوات هذا الفيلق حلت محل فاجنر فى ليبيا، ومن المتوقع إجراء عمليات نشر مستقبلية فى مالى وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر، وربما يطرح ذلك تساؤلات بشأن الحوكمة وقضايا المساءلة والنفوذ الاقتصادى؛ إذ تكمل موسكو وجودها العسكرى بأدوات اقتصادية، بما فى ذلك مبيعات الطاقة والأسلحة، لتعميق نفوذها فى القارة.

بالنسبة للغرب، فإن الوجود الروسى المتنامى يمثل تحديا مباشرا لمناطق نفوذه التقليدية. فالتمركز الاستراتيجى للقوات الروسية على طول الممرات الجغرافية الرئيسية من المحيط الأطلسى إلى البحر الأحمر؛ يهدد بتقويض الجهود الغربية للحفاظ على الاستقرار وتعزيز الحكم الديمقراطى فى إفريقيا، وقد يؤدى هذا التحول إلى زيادة المنافسة والتوتر بين القوى العالمية، ومع ذلك، تواجه المنطقة تحديات كبيرة من الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، والتى اخترقت الدول الساحلية مثل: بنين وغانا وتوغو. فعلى سبيل المثال، فى بنين، تضاعفت الهجمات الجهادية ضد السكان المدنيين ثلاث مرات تقريبا فى عام 2023، من أكثر من 30 حادثا إلى ما يقرب من 80 حادثا، وردا على ذلك، تحاول الولايات المتحدة إنشاء قواعد عسكرية للطائرات من دون طيار على طول ساحل غرب إفريقيا؛ للحد من انتشار هذه الجماعات المتطرفة، ومع ذلك، أكد الجنرال مايكل لانجلى أمام مجلس الشيوخ الأمريكى فى 16 مارس، أن الحرب الإعلامية الروسية أدت إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة فى إفريقيا بشكل كبير فى السنوات الأخيرة.

علاوة على ذلك، فإن النهج الروسى، الذى يعطى الأولوية للمزايا التكتيكية المباشرة، قد يسهم فى دورة من التبعية والصراع داخل الدول الإفريقية، وقد يؤدى ذلك إلى تفاقم القضايا القائمة مثل: عدم الاستقرار السياسى، والصعوبات الاقتصادية، والاضطرابات الاجتماعية؛ مما يجعل تحقيق التنمية المستدامة والسلام أكثر صعوبة بالنسبة لهذه البلدان. ولا أدل على ذلك من التقارب الروسى الحاصل مع مجلس السيادة فى السودان؛ وهو ما يدفع بالبلاد إلى خطر التقسيم وتكرار السيناريو السورى مع حصول روسيا على قاعدة عسكرية تطل على البحر الأحمر، ولعل ذلك يؤكد للأفارقة أن العلاقات الدولية تحكمها لغة المصالح، وأن مهمة إصلاح البيت تقع على سكانه.

*أ. د. حمدى عبدالرحمن

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد، الإمارات العربية المتحدة

*لينك المقال في الشروق*