أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

أطوار متعاقبة:

داعش.. إدارة متوحشة لـ "وطن بديل"

29 يونيو، 2015


لا تختلف الحركات والتنظيمات والجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسي، سواءً كانت تسعى إليه سلمياً مؤقتاً أو بالعنف والإرهاب، في إيمانها بفكرة "الوطن البديل" الذي يَجُبُ لديها "الدولة الوطنية" بمفهومها العصري، ويأخذها إلى اتساع وهمي، نحو صيغة "إمبراطورية"، مثلما كان قائماً في القرون الوسطى، أو يضيقها إلى حد الإقليم أو المنطقة المقتطعة من دولة ما، والتي يمكن لهذا التنظيم أن يقيم عليها إمارته، ويطبق بين سكانها رؤيته، ويتخذه نواة فيما بعد لـ "الجهاد" ضد الآخرين لتوسيعها حتى يصل إلى الشكل القديم المبتغى وهو "الخلافة" التي لا يعتقد المتطرفون في أنها شكل سياسي وإداري يناسب مرحلة تاريخية معينة ثم مضى، بل يريدون استعادته كما هو، من دون نقصان، وإن زاد فلا ضير ولا بأس، وهذا يصل لديهم إلى حد المعتقد أو الفريضة.

ومنذ البداية آمنت هذه التنظيمات بفكرة "الوطن البديل" تلك، وإن اختلفت في طرق التعبير عنها، وأساليب الوصول إليها، والتدرج الواجب في سبيل بلوغها. وقد تطورت وتدرجت الفكرة، أو تجلت وأُعِيد إنتاجها في صيغ متعددة على النحو التالي:

1 ـ الهجرة: وتعني ترك المجتمع وبناء نواة اجتماعية مختلفة، بدعوى أنه "مجتمع جاهلي"، تحكمه سلطة كفرية وقوانين وضعية، ولذا لا يجب على أتباع الجماعة، الذين يتوهمون أنهم العصبة المؤمنة، وغيرهم ليسوا كذلك، أن يمكثوا فيه، ويعايشوا أهله، إنما وجب عليهم أن يرحلوا عنه، ليقيموا هم مجتمعهم الخاص الذي يتماشى مع الأفكار التي يعتقدون فيها.

والمثل الصارخ على هذا هو ما سمت نفسها "جماعة المؤمنين"، وسماها الناس "التكفير والهجرة" التي ظهرت في مصر خلال سبيعينيات القرن العشرين، حيث تمكن مؤسسها شكري مصطفى من إقناع أصحابه بالنزوح إلى حي طرفي في القاهرة وهو عزبة النخل، الذي كان أيامها بعيداً وجديداً، كي يقيموا دولتهم، وظلوا هناك إلى أن اكُتشِفَ أمرهم وقُبِضَ عليهم بعد اختطافهم وقتلهم وزير الأوقاف الشيخ الذهبي، وانتهى التنظيم.

2 ـ العزلة الشعورية: ويطرحها سيد قطب في صيغة تحمل الكثير من التناقض وعدم العلمية كسائر ما طرح، فيقول: "حين نعتزل الناس، لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً... لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل، وأقلها مؤونة! إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس، مُشْبَعين بروح السماحة، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع! إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا، ومثلنا السامية، أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً.. إن التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية".

ومع هذا أخذ ذلك المعنى المتناقض تصوراً أشد صرامة في التطبيق، أو تم الالتزام بأوله من دون آخره، تحت وهم اصطفاء المؤمنين به واختلافهم عن الناس من حيث القرب من الدين أو الامتثال لتعاليمه؛ وبالتالي عاش أنصار الجماعات والتنظيمات الدينية المسيسة في دولة متوهمة أو "وطن بديل افتراضي" يخالطون الناس بأجسادهم، لكن أمانيهم وأهدافهم وأنفسهم تسكن مكاناً آخر، يؤمنون هم به، ويعتقدون أن الآخرين غير قادرين على بلوغه.

3 ـ الاقتطاع: أي نزع جزء من جسد دولة أو من مدينة من المدن، لإقامة "وطن بديل" أو "مجتمع بديل" عليها، يتم فيه تطبيق أفكار الجماعة المتطرفة، بعد أن تمتلك وسائل للسيطرة والتحكم داخل المجتمع، إما بإقناع عدد كبير من سكانه بالفكرة المتشددة، وتوظيفهم في السيطرة على الباقين، أو باستغلال التهميش الاجتماعي وغياب سلطة الدولة على حي أو إقليم وملء هذا الفراغ، والسيطرة بالقوة القاهرة على السكان، وإخضاعهم لتصورات الجماعة أو التنظيم.

وهناك أمثلة كثيرة في هذا الشأن، منها ما يخص اقتطاع إقليم من الدولة، مثلما جرى في مالي والصومال والعراق، ومنها ما يخص السيطرة على حي من أحياء مدينة كبرى، حسبما جرى في القاهرة في أوائل تسعينيات القرن الماضي حين قامت الجماعة الإسلامية بالسيطرة على حي إمبابة، وأعلنت أنه بات "دولة داخل الدولة"، مما دفع السلطة إلى حشد عشرين ألف جندي من قوات الداخلية لإزالة هذه الدولة المزعومة.

4 ـ دولة الفكرة: وهناك كتاب بهذا العنوان لعضو جماعة الإخوان محمد فتحي عثمان، يرى فيه أن هذه الدولة هي حلم البشرية، وهي دولة لا  تقوم على حتمية ظروف الأرض أو الدم، ولكنها تقوم على "اختيار" الإنسان، بوعيه الكامل وإرادته الحرة، وعلى أساس أن كل أرض سواء، وكل سلالة سواء.

ويسند الكاتب رؤيته إلى الدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ويرى أنها كانت "تجربة حية مبكرة للدولة الأيديولوجية في التاريخ! وأنها لم تكن دولة مكة أو قريش ولا دولة المدينة أو الأوس والخزرج، بل كانت دولة الإسلام، المعروض على عقل إنسان، دولة التقى فيها المهاجرون والأنصار، مع صهيب الرومي وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، فكانوا جيعاً أعضاء مؤسسين ومواطنين أصلاء في هذا المجتمع وهذه الدولة".

وفضلاً عن أن ما كان أيامها لم يكن "دولة" بالمعنى الحديث، فإن وجود الرسول فيها أساسي، حين كان الوحي ينزل وكان هو يقضي ويعلم ويوصي، وهو ما لا يتوفر الآن، لكن أتباع التنظيمات المتطرفة يريدون، دون أن يعلنوا ذلك صراحة أو يجهروا به، أن تحل الجماعة أو التنظيم أو بعض قادته وأمرائه محل الرسول في فرض التعاليم وتحديد مسار الدين، مع أن ما يقولونه يخرج في كثير من الأحيان تماما عن الإسلام.

5 ـ أستاذية العالم: وهي فكرة مؤسس جماعة الإخوان، وتعني الوصول إلى "قيادة العالم" بعد المرور بتربية الفرد والأسرة والمجتمع المحلي على أفكار هذه الجماعة، حتى يتم بلوغ ما يسمى بـ "الأخوة الإسلامية العالمية". وهذه الفكرة خيالية ابتداء، كما أن قيامها على أسس جماعة الإخوان وفكرتها الهشة، يصيبها باعوجاج منذ منشأها، فالجماعة التي تعلي من التنظيم على التفكير، وتعسكر مجتمعها وتمنع أفرادها من الإبداع والتخيل، لن تؤدي سيطرتها على العالم، كما تزعم، إلا بزيادة الحياة توحشاً وبؤساً.

6 ـ إدارة التوحش: وهناك كتاب بهذا العنوان يوضح هذه الفكرة الجهنمية ويفصل فيها، وقد قصد مؤلفه، واسمه الحركي أبو بكر ناجي بـ "التوحش" حالة الفوضى العارمة التي تعم وتطم في إقليم أو دولة ما، نظراً لانفضاض قبضة السلطة الحاكمة عنها، بما يخلق معاناة شديدة للسكان، وعلى "تنظيم القاعدة" الذي يحل محل هذه السلطة المنهارة الغائبة أن يمتلك كفاءة في إدارة المكان والسكان إلى أن تستقر الأمور لصالحه، فيقيم إمارة إسلامية، تطبق الشريعة، وفق التصور الذي يؤمنه به التنظيم.

ما سبق يبين أن فكرة "إدارة التوحش" التي يتبناها تنظيم داعش الإرهابي في الوقت الحالي، مرت بأطوار ومراحل متعاقبة، ودمجت بعض جوانبها، وليست كلها بالطبع، في تصورات تبنتها تنظيمات وجماعات دينية مسيسة، أو تروم تحصيل السلطة.

وكما أن هذه الأفكار والرؤى والإجراءات التي سبقت "إدارة التوحش" كانت على قدر من الخطورة، لأنها طرحت دوماً على حساب الدولة الوطنية والمجتمع العصري، فإن فكرة داعش تلك التي حواها كتاب، ترجمته المخابرات الأمريكية إلى اللغة الإنجليزية وقُرأ بإفراط على شبكة الإنترنت، لا تقوم إلا على هدم الدول وإثارة الفوضى العارمة، ولذا فإن التصدي لها عمل إنساني وواجب وطني وفرض ديني.