أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

ناقوس خطر:

مخاطر تصاعد القومية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية

08 يوليو، 2020


عرض: باسم راشد - باحث في العلوم السياسية

ظل اليمين المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة جدًّا حركة اجتماعية مشغولة بعددٍ من القضايا الاجتماعية والثقافية، مثل: الإجهاض، والمثلية الجنسية؛ لكنه في الحقيقة لم يكن يخوض حربًا ثقافية فحسب، بل إنه يشن حربًا على قواعد ومؤسسات الديمقراطية الأمريكية.

استنادًا إلى أكثر من عقد من التقارير الاستقصائية، كشفت الصحفية الأمريكية "كاثرين ستيوارت" في كتابها الجديد المعنون: "عبدة القوة: من داخل الصعود الخطير للقومية الدينية" عن حقيقة مقلقة، وهي أن القومية المسيحية -كما تسميها- هي بالأساس حركة سياسية تسعى إلى الوصول للسلطة، وفرض رؤيتها على المجتمع الأمريكي بأكمله.

بديل الليبرالية

من خلال استعراضها لتاريخ القومية المسيحية في الولايات المتحدة، أكدت "ستيوارت" أن اللاهوتيين مثل قادة الفكر القومي المسيحي اليوم، كانوا معادين بشدة لمبدأ المساواة والتعددية والتفكير النقدي. كما آمن مؤسسو الحركة بأن الولايات المتحدة أمة مسيحية يختارها الله. بمعنى -وفقًا لستيوارت- أن تكون جمهورية مسيحية أرثوذكسية، وأن تكون المرأة تابعة للرجل، وأنه في مرحلة ما انحرفت أمريكا بشكل رهيب عن مهمتها وسقطت تحت سيطرة النخب الليبرالية. ولا تزال هذه الأفكار في قلب القومية المسيحية اليوم.

لذلك، أكدت "ستيوارت" على أنه من واقع خبرتها في تغطية المسيحية المحافظة لأكثر من عقد فإنها ترى أن الحركة "لا تسعى إلى إضافة صوت آخر إلى الديمقراطية التعددية الأمريكية، بل إلى استبدال مبادئنا ومؤسساتنا الديمقراطية الأساسية بدولة ترتكز على نسخة معينة من المسيحية".

ويتزامن هذا الاستنتاج مع تأكيد المتعصبين للحركة بأن الولايات المتحدة يجب أن تتوافق مع نسختهم الأصولية من الإيمان لتزدهر مرة أخرى بعد انحرافها وسقوطها، ورفض مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة باعتباره قمعًا علمانيًّا. ويؤكدون أن الله يريدهم أن يسيطروا على كل جانب من جوانب الثقافة والمجتمع والحكومة.

ولتحقيق هذا الغرض سيستخدمون القوة التي لديهم لإغراق الحكم بآرائهم، وجعل المحاكم تتحيز لترسيخ امتيازهم، كما سيفرضون النظام الأبوي والجنس غير المتغاير والأيديولوجيا الجنسية، والقضاء على نظام المدارس العامة، وإنهاء الإجهاض باعتباره القضية المحورية التي اتخذتها مختلف الجماعات الإنجيلية شعارًا لها في توجهاتها.

السعي للسلطة

من هذا المنطلق، تؤكد "ستيوارت" أن القومية المسيحية ترفض النظام الليبرالي، بل إنها تطرح نفسها بديلًا له، وتدعم كل من يؤيد أفكارها أو يسير في الاتجاه الذي تريده، حتى إن بعض الكنائس والجماعات المسيحية تدعو المواطنين للتصويت وفقًا للقيم الإنجيلية بهدف التأثير على الناخبين.

وتفرِّق "ستيوارت" -في هذا الإطار- بين القادة والأتباع لفهم منطق هذه الحركة. فجنود الحركة، أي الملايين العديدة الذين أدلوا بأصواتهم لصالح السياسيين المفضلين للحركة، الذين يحضرون مسيراتها ويغمرون خزائنها بالتبرعات الصغيرة، هم المصدر الأساسي للقوة السياسية للحركة، لكنهم ليسوا مصدر أفكارها. قد يعتقدون أنهم يقاتلون من أجل أشياء مثل الزواج التقليدي وحظر الإجهاض.

ولكن بمرور الوقت، وفقًا لستيوارت، قام قادة الحركة والاستراتيجيون بإعادة صياغة قضايا الحرب الثقافية هذه بوعي من أجل الحصول على أصوات شريحة كبيرة من الجمهور الأمريكي والسيطرة عليها، انطلاقًا من إدراكهم بأنه إذا كان بإمكانك جعل الناس يصوتون على مسألة واحدة أو قضيتين فقط، فيمكنك التحكم في تصويتهم. في هذا الصدد، تؤكد "ستيوارت" أن ما يفتقده العديد من المنتقدين لاحتضان القوميين المسيحيين لترامب هو أن طبيعة رئاسته المدفوعة بالولاء هي بالضبط ما تروق لهذه الحركة. 

وبالرغم من أن الكثير من الناس الذين يحضرون الكنائس المحافظة التي تدعو المواطنين للتصويت وفقًا للقيم المسيحية لن يصفوا أنفسهم كأعضاء في الحركة، إلا أن أعدادًا كبيرة منهم تم تشكيل عاداتهم في التصويت من قبل قادتها. لذلك يستخدم القادة هذه القضايا لترسيخ والحفاظ على السلطة السياسية لأنفسهم وحلفائهم، لزيادة تدفق الأموال العامة والخاصة في اتجاههم، ولسن سياسات اقتصادية مواتية للممولين المفضلين لديهم.

وتؤكد "ستيورات" أن طرق استغلال القادة للأتباع متنوعة وفقًا لاحتياجاتهم؛ فالبعض يذهب للكنائس بحثًا عن اليقين والثقة في عالم يزداد فيه التفاوت الاقتصادي وعدم الاستقرار والفوضى، فيستغل قادة الحركة هذا الشغف بمنحهم الثقة والهُوية والشعور بأن وضعهم في العالم آمن. وفي المقابل يحصلون على استسلام المرء لإرادتهم السياسية. فيما يحتاج أتباع آخرون إلى نوع معين من التمكين كأعضاء في مجموعة خاصة أو مفضلة عند الناس.

كما يحتاج بعض الأتباع إلى إحساس الآخرين بالظلم والاستياء الذي يتعرضون له، ويُقدِّم لهم القادة كبش فداء متخيلًا لإلقاء اللوم عليه. وهنا تؤكد "ستيوارت" أن القومية المسيحية، مثل الأشكال الأخرى من القومية الدينية حول العالم وطوال التاريخ، تُقدِّم مجموعة من روايات الاضطهاد التي تمثل المتدينين "الصالحين" على أنهم تحت التهديد وضحايا "الآخر" الشرير.

انتشار واسع 

أكدت "ستيوارت" خلال كتابها أن هذه الحركة القومية المسيحية منتشرة بشكل كبير في مختلف أرجاء الولايات المتحدة وخارجها أيضًا؛ ففي بعض التجمعات في شمال كاليفورنيا، يتعاون رجال الأعمال في قطاع الزراعة مع القساوسة الذين لديهم إمكانية الوصول المباشر إلى "ترامب" في البيت الأبيض لتحقيق مصالحهم وغاياتهم.

وفي ولاية كارولينا الشمالية، يُجنِّد القادة القوميون المسيحيون رجال الدين إلى نشاطهم الحزبي. وفي أريزونا، يقوم مشغلو المدارس المستأجرة الذين لديهم أجندات طائفية بتلقين أطفال المدارس على رغبات الممول. وفي فيرونا في إيطاليا، يجتمع الممثلون الأمريكيون حول ما يسمونه "الحركة المحافظة العالمية" مع قادة اليمين المتطرف الدوليين لإعلان الحرب على الليبرالية العالمية.

وقد استطاعت "ستيوارت" من خلال تحليلها الاستقصائي لتاريخ هذا الحركة وربطها بتطورات الواقع المعاش، تتبع كيف فقدت بيوت العبادة الأمريكية، في العقود الأخيرة، قدرتها على أن تكون بيتًا ترحيبيًّا لمجموعة من القضايا المجتمعية من خلال التحول إلى لسان حال للحزب الجمهوري الأمريكي.

من ناحية أخرى، كشفت "ستيوارت" عن شبكة كثيفة ومترابطة من مراكز الفكر، وجماعات المناصرة، والمنظمات الرعوية المتضمنة في مجتمع سريع التوسع من التحالفات الدولية وتوحد ليس بواسطة أي قيادة مركزية ولكن من خلال رؤية مشتركة مناهضة للديمقراطية وإرادة مشتركة للسلطة.

ويوثق الكتاب أيضًا كيف تم تمويل هذه الحركة من قبل الجهات المانحة الغنية والمؤسسات الأسرية، من أمثال "روبرت ميرسر" و"بيتسي ديفوس" اللذين موَّلا فيما بعد "دونالد ترامب" في الانتخابات الرئاسية. وكشف الكتاب عن شخصيات أخرى كانت سرية للغاية؛ مثل "رالف درولينجر"، الذي يمتلك نفوذًا في قيادة دراسة أسبوعية للكتاب المقدس في البيت الأبيض يحضرها وزراء مجلس الوزراء ونائب الرئيس "مايك بنس" ومسؤولون آخرون.

تمويل غير محدود

تؤكد "ستيوارت" أن لدى الحركة مصادر تمويل متعددة، بما في ذلك الجهات المانحة؛ بما فيها المانحون الصغار، فضلًا عن أنواع مختلفة من الدعم والتمويل العام، وكذلك المانحون الأثرياء.

وينتمي العديد من هؤلاء المتبرعين إلى أسر شديدة الثراء. لذلك ليس من المستغرب أن العديد من المذاهب التي تفضلها الحركة تتعلق بالمال. فعلى سبيل المثال، يقولون إن الكتاب المقدس والله يعارضان ضرائب الدخل التصاعدية، وضرائب مكاسب رأس المال، وقوانين الحد الأدنى للأجور، كما أن الكتاب المقدس، وفقًا لمذاهبهم، يُفضِّل ضرائب منخفضة على حقوق الأغنياء والأدنى للقوى العاملة. كما يجادلون بأن التنظيم البيئي، وتنظيم الأعمال، والتمويل العام لشبكة الأمان الاجتماعي، "غير كتابي" أو "ضد النموذج الكتابي".

بهذه الطريقة، تعتقد "ستيوارت" أن القوميين المسيحيين قد خانوا ما قد يكون أقوى دعوى لهم. فالمسيحية، كما يفهمها معظم الناس، لها علاقة بحب جيراننا. لكن "قادة هذه الحركة قد ألقوا الكثير في أيديهم مع حفنة من الرجعيين الاقتصاديين الأنانيين الذين يقولون لنا إننا لا ندين لأحد بأي شيء".

بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المذاهب، بطبيعة الحال، تحافظ على ثروات الأغنياء. لذا غالبًا ما تسير القومية الدينية جنبًا إلى جنب مع الاستبداد، الذي يستغل في جميع أنحاء العالم في كثير من الأحيان القومية الدينية لقمع المعارضة وإبقاء الأعضاء الضعفاء في مجتمعاتهم في وضع تابع.

وتشير "ستيوارت" -في هذا الإطار- إلى أنه لا توجد منظمة مركزية لهذه الحركة، لكن لا يقلل هذا الأمر من قدرة الحركة على التصرف بشكل فعال وحاسم؛ فوحدة القومية المسيحية كما كانت دائمًا "موجودة في رؤيتها السياسية المميزة".

مخاطر التمدد 

وفقًا لستيورات، حققت القومية المسيحية على مدار الأعوام نجاحات مذهلة، وامتد تأثيرها الآن إلى كل جانب من جوانب الحياة الأمريكية، من البيت الأبيض إلى العاصمة، من المدارس إلى المستشفيات وغيرها. بيد أن استمرار تمدد هذه الحركة القومية من شأنه أن يُهدد الديمقراطية والمبادئ الليبرالية الأساسية التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

يتزامن ذلك مع الأدوار المتصاعدة التي يلعبها المنتمون للحركة، سواء كانوا شركات أو أفرادًا أو حركات دينية، في التأثير على خيارات المواطنين الانتخابية؛ فقد أشارت "ستيوارت" إلى الدور الذي تلعبه الشركات التي يملكها المحافظون المسيحيون في التنقيب عن بيانات الناخبين، وتوضح أن الرهانات الانتخابية لعام 2020 ستكون عالية؛ إذ تقوم منظمات مثل "ائتلاف الإيمان والحرية" بتعبئة الناخبين القوميين المسيحيين المحتملين بناءً على كميات هائلة من البيانات الديموغرافية.

من ناحية أخرى، توضح "ستيورات" في الفصول النهائية للكتاب بشكل مؤكد المخاطر الشخصية والعالمية لوضع السياسات القومية المسيحية موضع التنفيذ، مفصلة بعض التجارب المؤلمة والقاتلة في بعض الأحيان للنساء اللواتي حُرمن من الرعاية الصحية الإنجابية بسبب التوجيهات الأخلاقية والدينية التي تحكم مقدمي الرعاية الصحية الكاثوليك، وأمثلة غيرها على هذا النحو.

لذا دعت "ستيوارت" الأمريكيين إلى الدفاع ضد هذا المفهوم المشوه للحرية الدينية الذي قدمه القوميون المسيحيون، مؤكدة إذا أرادوا ذلك فإنهم لا يحتاجون إلى التوصل إلى مبدأ جديد لمواجهة ادعاءاتهم، بل إلى استعادة الحرية الدينية الحقيقية التي أسسها مؤسسو الولايات المتحدة والتي يعتز بها معظم المواطنين.

ختامًا، أكدت "ستيوارت" أن السؤال الأساسي الذي ما زلنا نكافح بشأنه هو ما إذا كان بإمكاننا بناء جمهورية قائمة على فكرة عالمية، أو ما إذا كان علينا العودة إلى نوع من القومية العرقية والدينية الصغيرة. إن فكرة الجمهورية الأمريكية هي أننا نستطيع أن نجد الوحدة على أساس كوننا بشرًا فقط، وليس على أساس قوميتنا الدينية أو العرقية.

بيانات الكتاب:

Katherine Stewart, The Power Worshippers: Inside The Dangerous Rise Of Religious Nationalism, (London: Bloomsbury Publishing, 2020).