عرض: وفاء الريحان – باحثة في العلوم السياسية
اهتم الباحثون في مجال الحرب الأهلية كثيرًا بدراسة الصفقات بين أطراف الصراع حول مسائل السيطرة على الأراضي والحكم. وعلى جانب آخر، أولوا اهتمامًا أقل للترتيبات المتعلقة بتقاسم الموارد وتوزيعها، رغم أنه تزايد استغلال هذه الترتيبات كأسلحة في الصراعات المعقدة والمتعددة الجوانب.
وفي هذا الإطار، تأتي دراسة "مروة الدوادي" بعنوان "تسليح المياه في الصراع السوري: استراتيجيات الهيمنة والتعاون"، الصادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية في دورية "الشؤون الدولية"، عدد سبتمبر 2020، والتي تتناول عسكرة المياه في الصراعات الداخلية بالتركيز على الحالة السورية.
رؤية نظرية
أوضحت الباحثة أن نماذج الاستخدامات الاستراتيجية المختلفة للمياه أظهرت كيف يمكن أن يكون الوصول إلى المياه أداة سياسية محتملة، وتأخذ النماذج المتعلقة بالعلاقة بين الماء والعنف شكلين متصلين: أحدهما يركز على طبيعة الصراع، والآخر على التسليح.
وعند تحليل دور المياه في الصراع، يتم الاعتماد على نماذج التسليح، والتي تُولِي اهتمامًا كبيرًا لطبيعة الجهات الفاعلة عن الاهتمام بالنتائج السياسية والتكلفة البشرية، حيث تتميز كل من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية بكونها تتصرف بأشكال متشابهة في استخدامهم العنيف للمياه.
وتُحدد الباحثة أربع استراتيجيات مترابطة لتسليح المياه، تقوم على التحكم في الموارد والبنى التحتية، وهي: الهيمنة والشرعية، المياه كهدف عسكري، وكأداة عسكرية، وأداة للتعاون، مع الأخذ في الاعتبار أنه يمكن من خلال الأنواع الأربعة أن يكون الماء سلاحًا هجوميًّا ودفاعيًّا على حد سواء، مما يعزز أهداف الفاعل و/ أو يعيق أهداف القوى المعارضة. وفيما يلي يمكن التعرف على تلك الأنواع:
أولًا: تنشر الجهات الحكومية الموارد المائية والبنى التحتية كأسلحة للسيطرة والشرعية، ففي تفاعلهم مع السكان يصورون المياه كرمز للهوية وآلية لتوحيد السلطة، كما تستخدم الجهات الفاعلة غير الحكومية استراتيجيات مماثلة لإضفاء الشرعية على سيطرتها.
ثانيًا: يتم تسليح المياه كهدف عسكري، عندما تتعرض شبكات المياه للتلف أو التدمير عن طريق قطع المياه والفيضانات المتعمدة، بما يؤدي إلى إلحاق أضرار بالسكان خارج نطاق قدراتها التقليدية.
ثالثًا: يتم تسليح البنية التحتية للمياه كأداة عسكرية، عندما تستخدم دولة أو جهة فاعلة فرعية أصول المياه الخاضعة بالفعل لسيطرتها أو بعد الاستيلاء عليها لإرهاب السكان، أو الحصول على تنازلات من المعارضين أو دعم الأهداف التكتيكية بشكل مباشر في سياق عمل عسكري.
رابعًا: التعاون في مجال المياه في أوقات النزاع هو -في حد ذاته- شكل من أشكال التسليح، ويتم مثلًا من خلال قطع المياه لحصار السكان المدنيين وتحقيق الأهداف العسكرية أو العكس عن طريق التنسيق لتنظيم الاستفادة.
توظيف المياه في الصراع السوري
تستعرض الباحثة في التالي تطبيق تلك الاستراتيجيات الأربع للاستخدام العنيف للمياه في الصراع السوري:
1. كسلاح للهيمنة والشرعية (من حزب البعث إلى "داعش"): رأت الباحثة أن كلًّا من الحكومة السورية وتنظيم "داعش" استفادا من موارد المياه كسلاح. فمنذ الستينيات، نفذت النخب البعثية مشاريع مكثفة لبناء السدود والري، لا سيما في محافظة الجزيرة الريفية الشمالية الشرقية، التي تضم الكثير من السكان الأكراد في البلاد، وأدت تلك المشاريع التي تقف وراءها العوامل الأيديولوجية، إلى نزوح القرويين في منطقة الفرات، واستبعاد الأكراد السوريين من فوائد الإصلاحات الزراعية، وقد سمح اعتماد الجزيرة المستمر على الزراعة لتنظيم "داعش" لاحقًا بتسليح المياه بطريقة مماثلة أثناء احتلاله للشمال الشرقي السوري.
ووفقًا للدراسة، شكَّل استخدام الوصول إلى المياه كشكل من أشكال الشرعية السياسية جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية حزب البعث قبل صعود "حافظ الأسد" إلى السلطة في عام 1970، وقد دمج الخطاب المرتبط بهذه المشاريع بين الأمن المائي وشرعية السلطة في البلاد، وتم تضخيمه لاحقًا من خلال الدعاية في عهد "حافظ الأسد"، ومن ثم أصبح لهذه المبادرات آثار خطيرة على قدرة الدولة على تسليح الموارد الزراعية كأداة للهيمنة السياسية والديموغرافية، مع تأثير خاص على الأكراد السوريين.
على جانب آخر، تجلّت ظاهرة استخدام المياه كمصدر للهيمنة والشرعية بشكل أكبر عندما قام "داعش" بتسليح موارد المياه على المستوى الكلي لترسيخ شرعيته في إطار السعي إلى الهيمنة على المجتمعات المحلية، وسمح استيلاء "داعش" على المراكز الرئيسية لشبكات المياه الإقليمية للتنظيم بالاستفادة من ممارسة النظام السوري التاريخية لقوة البنية التحتية لاكتساب قاعدة شرعية في الشمال الشرقي السوري.
كما كشفت "أوراق داعش" المسربة كيف سيطر التنظيم على توفير خدمات المياه بعد احتلال الرقة في يناير 2014، من خلال تهديد السكان بغرامات وعقوبات كبيرة في حال سرقة الكهرباء والتهرب من الضرائب على المياه. كما منع "داعش" الوصول إلى المياه حتى قبلت المناطق المحتلة حديثًا سلطتها، مما أدى في بعض الأحيان إلى حرمان 5 ملايين نسمة في حلب والرقة من الوصول إلى المياه الصالحة للشرب.
2. كهدف عسكري: يقوم الفاعلون المسلحون في هذا الصدد بتدمير عناصر من نظام المياه، مما تسبب في أضرار تتجاوز قدراتهم العسكرية. على سبيل المثال، في يوليو 2014، توقف ما يقرب من 35% من محطات معالجة المياه في سوريا عن العمل، كما توقفت عمليات ضخ المياه عن العمل في حلب وانخفضت بنسبة 90% في دير الزور.
وفي هذا السياق، يأتي استخدام المياه كأداة هجومية كما في الفيضانات وقطع الإمداد، ويختلف هذا الشكل من التسليح عن الاستهداف لأنه يسمح للدولة أو الجهات الفاعلة باستخدام الأصول المائية التي تحت سيطرتها بالفعل لإكراه السكان، أو الحصول على تنازلات من المعارضين، أو تقديم الدعم التكتيكي للعمل العسكري.
ويمكن للطريقة التي تنشر بها الجهات الفاعلة هذه الأداة أن تُملي كيف تقوم الأطراف المتعارضة أثناء النزاع المدني بتخصيص الموارد والتخطيط لاستراتيجيتها العسكرية. ففي عام 2012، استخدمت قوات النظام السوري وصول المياه وتوزيعها في حصار حمص للسيطرة على السكان الذين يقاومون حكمهم. وفي العراق، غمر تنظيم "داعش" 22 قرية وأوقف تدفق المياه بشكل شبه كامل إلى المدن ذات الأغلبية الشيعية.
3. الاستراتيجية الهجومية والدفاعية: كانت استراتيجية الموارد المائية الرئيسية لـ"داعش" هي الاستيلاء على السدود الكهرومائية الرئيسية على نهري دجلة والفرات، فضلًا عن الجمع بين العمليات العسكرية وإدارة الموارد والمؤسسات في سوريا والعراق لضمان خطوط الإمداد بين البلدين. وعلى جانب آخر، عملت شبكات المياه أيضًا كأداة دفاعية، مما سمح لـ"داعش" باستخدام التهديد بإلحاق الضرر بشبكات المياه الخاضعة لسيطرته لإبطاء تقدم هجمات العدو.
وفي هذا الصدد، كان الاستيلاء على سد الطبقة، في فبراير 2013، أهم إنجاز لـ"داعش"، وقد وفر السد له القدرة على تصريف 11 مليون متر مكعب من المياه في سوريا، بما يعني إمكانية حدوث فيضان، وقطع الكهرباء عن دمشق. وبالفعل، هدد تنظيم "داعش" بالانتقام من أي هجمات على قواته بتدمير السد، بزعم تسليحه بستة صواعق.
4. التعاون كسلاح: لم تؤدِّ الهزيمة الإقليمية لـ"داعش" إلى نهاية تسليح المياه في الحرب السورية، فقد أدى ذلك إلى دخول مرحلة من الصراع، حيث قام الفاعلون بتسليح المياه من خلال التعاون لتوطيد سلطتهم السياسية، ويوفر التعاون بين الجهات المسلحة على المياه شكلًا من أشكال الإجبار، يُمكن للأطراف المتعارضة من خلاله الحصول على تنازلات مفيدة للطرفين من بعضها بعضًا.
وفي يوليو 2019، قطع حزب الاتحاد الديمقراطي مياه الشرب عن مناطق الأكراد الخاضعة لسيطرته لنقلها إلى مناطق سيطرة النظام في القامشلي، وكشف بذلك عن تعاونه مع الحكومة السورية، وعكس القرار ترتيبات مماثلة تم التوسط فيها بين "داعش" والنظام في وقت سابق من الصراع (بين 2013 و2017) تتعلق بإنتاج وتوصيل الطاقة الكهرومائية من سَدَّيْ الطبقة وتشرين الخاضعين لسيطرة "داعش" إلى دمشق وحلب.
على جانب آخر، واصلت الحكومة المركزية دفع رواتب الموظفين الذين يديرون هذه البنى التحتية مع السماح لـ"داعش" بالاحتفاظ بنسبة 60% من الطاقة الإنتاجية من أجل ضمان توصيل الطاقة إلى المواقع العسكرية للنظام. وتضمّن جزء من الترتيب استبعاد خطوط الإمداد عن محطات الطاقة الموجودة في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وبالتالي وفَّر تسليح المياه تعزيز المصالح العسكرية المشتركة للنظام و"داعش" من خلال التعاون السري، على حساب السكان المدنيين.
كما شهد التحول ظهور تركيا كأحدث عضو يستغل عسكرة المياه في الصراع، فمنذ أوائل عام 2020 قطعت السلطات التركية مرارًا المياه عن 460 ألف شخص في محافظة الحسكة في هجومها ضد الأكراد. وفي مارس 2020، قطعت المياه أيضًا عن ثلاثة مخيمات للاجئين وسط أزمة فيروس كورونا، مما أثار تداعيات جديدة على الآثار المضاعفة لتسليح المياه أثناء الأوبئة.
وختامًا، توصلت الباحثة إلى ثلاثة استنتاجات رئيسية حول دور المياه في الصراع، أولًا تشير الأحداث إلى أنه فيما بعد الحرب، ستتزايد إمكانية استخدام المياه كسلاح في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وثانيًا يصبح من المهم التركيز على القدرات الدفاعية الهجومية المزدوجة للمياه، والتي تسمح للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية بإلحاق أضرار تتجاوز قدراتها، وثالثًا نوهت إلى ضرورة المراعاة الكاملة للطبيعة العنيفة والنتائج الاستراتيجية للتعاون المائي بين الأطراف المتعارضة في النزاع. فعند دراسة السياسة المائية، يصبح الصراع والتعاون وجهين لعملة واحدة.
المصدر:
Marwa Daoudy, Water weaponization in the Syrian conflict: strategies of domination and cooperation, International Affairs, Volume 96, Issue 5, September 2020, Pages 1347–1366.