اتسع نطاق التوتر بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا بالتزامن مع فرض الإدارة الأمريكية عقوبات على وزيرين تركيين بسبب سجن القس الأمريكي آندرو برونسون، وهو ما سوف يقوض، على أقل تقدير، من الثقة الدولية في الاقتصاد التركي. وقد تتكبد تركيا خسائر اقتصادية أكبر في حالة ما إذا اتجهت السلطات الأمريكية نحو رفع مستوى العقوبات المفروضة عليها، كما تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حالة عدم إطلاق سراح برونسون. وتحت وطأة التهديدات الأمريكية، سوف تضطر تركيا، على الأرجح، للرضوخ للمطالب الأمريكية، لا سيما في وقت يعاني فيه الاقتصاد من صعوبات عديدة لعل أبرزها استمرار تدهور الليرة أمام العملات الصعبة.
مؤشرات مختلفة:
شهدت العلاقات التركية- الأمريكية توترًا شديدًا في الآونة الأخيرة، على نحو انعكس في عدة مؤشرات يتمثل أبرزها في:
1- عقوبات جديدة: صعّدت الولايات المتحدة الأمريكية من ضغوطها على تركيا مؤخرًا للإفراج عن القس آندرو برونسون، حيث اتجهت الإدارة الأمريكية، في أول أغسطس الجاري، إلى فرض عقوبات على وزيرى العدل والداخلية التركيين عبد الحميد غول وسليمان سويلو، بعد اتهامهما بالمساعدة في اعتقاله.
ومن المتوقع، حسب عدة ترجيحات، أن تمتد العقوبات لتطال كيانات وشركات تركية أخرى، لا سيما في ظل دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتشديد العقوبات على تركيا إذا لم تطلق سراح القس، وسبق أن اتبعت الإدارة الأمريكية النهج نفسه، في فبراير الماضي، بعدما أعلنت تركيا عن نيتها شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي S400.
2- سجن مسئولين أتراك: مثلت قضية اتهام بنك خلق التركي بمساعدة إيران في خرق العقوبات الأمريكية عام 2012 أحد أسباب التوتر القائمة بين واشنطن وأنقرة، خاصة مع قيام السلطات القضائية الأمريكية، في إبريل 2018، بالحكم على النائب السابق لرئيس البنك محمد هاكان أتيلا بالسجن لمدة 32 شهرًا بعد اتهامه بخرق عقوبات واشنطن على إيران والاحتيال المصرفي والمشاركة في خداع الولايات المتحدة الأمريكية. ومن المحتمل أيضًا أن تقدم السلطات الأمريكية على توقيع غرامة بمليارات الدولار على البنك التركي ما إذا تصاعد التوتر بين البلدين في الفترة المقبلة.
3- رفض العقوبات على إيران: تصر أنقرة على مواصلة استيراد النفط والغاز من إيران رغم تطبيق العقوبات الأمريكية على الأخيرة، في 7 أغسطس الجاري، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بقوله أن تركيا تعارض العقوبات الأمريكية على إيران وليست ملزمة بتطبيقها، في الوقت الذي أكد فيه وزير الطاقة التركي فاتح دونميز مواصلة تركيا شراء الغاز الطبيعي من إيران. ولتركيا مصلحة واضحة في استمرار واردات الطاقة من إيران تتمثل في القرب الجغرافي من الأخيرة، وجاذبية أسعار النفط والغاز الإيراني فضلاً عن جودته.
4- حرب تجارية متبادلة: تعد العلاقات التجارية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية أحد المتغيرات الأخرى التي ساهمت في توتر العلاقات بين البلدين، وهو ما يتزامن مع اتجاه الإدارة الأمريكية، في مارس الماضي، إلى زيادة الحمائية التجارية وفرض تعريفات جمركية بـ25% على واردات الصلب و10% على واردات الألومنيوم من دول العالم وبينها تركيا، على نحو دفع الأخيرة للرد بفرض رسوم جمركية بقيمة 267 مليون دولار على قائمة من السلع الأمريكية في يونيو الماضي. ونتيجة لذلك، أعلنت الإدارة الأمريكية عن اتجاهها لمراجعة الإعفاءات المقدمة لتركيا من الرسوم الجمركية على بعض السلع، وهى خطوة قد تضر بصادرات تركية إلى السوق الأمريكية بقيمة 1.7 مليار دولار.
5- خلافات سياسية حول الأكراد: لا زال الدعم الأمريكي المستمر للفصائل العسكرية الكردية في سوريا وأبرزها "قوات حماية الشعب" أحد الخلافات الأساسية بين البلدين، إذ يثير هذا الدعم مخاوف تركيا بشدة خشية أن يزيد من القوة العسكرية للأكراد عمومًا في المنطقة بما فيها "حزب العمال الكردستاني" في شمال شرق تركيا، وهو ما قد يهدد الأوضاع الأمنية والسياسية.
تأثيرات محتملة:
تتزامن التوترات التركية- الأمريكية مع تراجع ملحوظ للاقتصاد التركي، وهو ما أثار شكوك ومخاوف المستثمرين من احتمال تنفيذ الرئيس رجب طيب أردوغان تعهداته بإخضاع المؤسسات الاقتصادية، ومن بينها البنك المركزي، لسلطته خاصة مع انتقاداته المستمرة لإصرار البنك على رفع أسعار الفائدة.
ونتيجة لذلك، تكبدت الليرة خسائر كبيرة تقدر بأكثر من ربع قيمتها منذ بداية العام الجاري وحتى الآن، مسجلة أدنى مستوى لها على الإطلاق في 6 أغسطس الجاري عند مستوى 5.4 ليرة للدولار الواحد، وهو أكبر انخفاض في جلسة واحدة في نحو عشر سنوات، وهو ما دفع المؤسسات الدولية للتحذير من احتمال ارتفاع مستوى التضخم أكثر من المستويات القائمة والبالغة 15.8% في يوليو الماضي، في الوقت الذي حذر فيه بنك الاستثمار جولدمان ساكس من أن مزيدًا من التراجع سوف يؤدي إلى انخفاض القاعدة الرأسمالية للبنوك التركية.
وعلى أقل تقدير، سوف يؤدي التوتر الحالي إلى تقويض الثقة الدولية في الاقتصاد التركي، وربما تتزايد خسائره إذا ما نفذ ترامب تعهداته بتشديد العقوبات على تركيا. وهناك من المؤشرات الدالة على جدية الإدارة الأمريكية في مواصلة هذا الاتجاه، حيث وافقت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، في 26 يوليو الماضي، على مشروع قانون يلزم الولايات المتحدة الأمريكية بمعارضة منح أى قروض لتركيا من جانب المؤسسات الدولية مثل مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي.
وبحسب ترجيحات عديدة، قد تتجه الإدارة الأمريكية أيضًا إلى إعداد قائمة من شخصيات وشركات تركية لفرض عقوبات عليها، وذلك على غرار العقوبات الأمريكية المفروضة على مؤسسات وشركات وشخصيات روسية. وفي ظل هذا التصعيد المحتمل، من المحتمل ألا تقتصر خسائر الاقتصاد التركي على تراجع العلاقات الاستثمارية والتجارية مع واشنطن، إذ قد تتعثر العديد من الشركات التركية وتتراجع قدرتها على الاقتراض دوليًا، بجانب اضطراب الأسواق المالية التركية وانخفاض عملتها بشدة في الفترة المقبلة.
محاولات الاحتواء:
في العادة، استمرت المصالح الاقتصادية بين الطرفين بوتيرة قوية في الماضي، على الرغم من توتر العلاقات السياسية بينهما بين فترة وأخرى، وهو ما يفسر تخطي حجم الاستثمارات الأمريكية بالسوق التركية أكثر من 110 مليار دولار خلال الفترة من (2000-2017)، بجانب وصول المبادلات التجارية بين الطرفين إلى 20.5 مليار دولار. وعلى الجانب السياسي، قد لا تكون لدى الإدارة الأمريكية رغبة في دفع تركيا للاقتراب أكثر من روسيا.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية على استعداد لتقليص شراكتها مع تركيا بسبب أزمة القس، لا يبدو أن تركيا لديها استعداد لخسارة الدعم الأمريكي لها على المستوى الاقتصادي على أقل تقدير، وهو ما دفع وزيرة التجارة التركية روهصار بيكجان مؤخرًا إلى تأكيد أنه لا ينبغي أن يسمح الجانبان التركي والأمريكي لأزمة ليست لها أرضية اقتصادية بأن تعيق التعاون الاقتصادي بين البلدين. وجاء ذلك على هامش لقائها مع ممثلي 30 شركة أمريكية خلال الاجتماع التشاوري للعلاقات الاقتصادية التركية- الأمريكية.
كما تدرك تركيا جيدًا أن تشديد العقوبات الأمريكية عليها يفرض أضرارًا اقتصادية كبيرة في الفترة المقبلة، وهو ما دفعها لإرسال وفد من وزارة الخارجية مؤخرًا إلى واشنطن لبحث قضية القس. وفي نهاية المطاف، ربما يضطر أردوغان إلى التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية لإطلاق سراح برونسون مقابل الحصول على إعفاء من العقوبات الأمريكية، وذلك على غرار اتفاق ضمني توصل إليه مع ألمانيا في الأشهر الماضية للإفراج عن الصحفي الألماني دينيز يوجيل مقابل تطبيع العلاقات الاقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي.
وختامًا، يمكن القول إن تركيا سوف تتجه، على الأرجح، نحو احتواء تأزم علاقاتها السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تجنبًا لتعرض الاقتصاد إلى مزيد من الخسائر خلال الفترة المقبلة.