على الرغم من إجراء خمس جولات علنية من المفاوضات السعودية الإيرانية التي سبقت الإعلان في 10 مارس 2023 عن اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فإن هذا الإعلان حمل في طياته مفاجأتين مهمتين؛ تتعلقان بالتوقيت والوسيط. فقد تم الإعلان عن اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران، دون الحديث عن جولة مفاوضات سادسة، كما تم توقيع الاتفاق الرسمي في بكين بوساطة صينية، عقب محادثات استمرت من 6 إلى 10 مارس 2023، لم يُكشف عنها في حينها، لتقطف بذلك الصين ثمار الجهود التفاوضية التي جرت خلال العامين الماضيين، لاستعادة العلاقات بين الطرفين، بوساطة عراقية وأحياناً عُمانية. وبحسب البيان الثلاثي، فقد جرى الاتفاق السعودي الإيراني بمبادرة من الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لتطوير علاقات حُسن الجوار بين الرياض وطهران.
ويثير ذلك الاتفاق تساؤلات بشأن دوافع إيران ومكاسبها من الاستجابة بشكل سريع للوساطة الصينية لإعادة العلاقات مع السعودية، بالرغم من التحفظات التي عددها الطرفان عقب الجولات التفاوضية التي أُجريت بينهما منذ إبريل 2021، عندما استضاف العراق أول اللقاءات بين مسؤولين أمنيين من البلدين لتقريب وجهات النظر بينهما.
مضمون الاتفاق:
تضمن بيان الاتفاق الثلاثي عدة نقاط، كخطوة أولى لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. فعلى الصعيد الدبلوماسي، اتفق الطرفان على استئناف العلاقات بينهما، ومن ثم إعادة فتح سفارتيهما، وعودة ممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهرين من توقيع الاتفاق. كما تضمن تأكيدهما احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فضلاً عن الاتفاق على أن يعقد وزيرا خارجية البلدين اجتماعاً لتفعيل تلك الأمور، وترتيب تبادل السفراء، ومناقشة سُبل تعزيز العلاقات بينهما.
وفي ظل الأهمية التي يتمتع بها الشقان الأمني والاقتصادي في تعزيز العلاقات السياسية بين الرياض وطهران، فقد تضمن البيان النص على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما المُوقعة في عام 2001، وكذلك الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، المُوقعة في عام 1998.
وإلى جانب تحديد مجالات التعاون بين البلدين، كان من الأهمية بمكان إعادة تأكيد مبادئ وتوجهات عامة يمكنها أن تضمن استدامة العلاقات وتوطيدها، وبالتالي نجاح الاتفاق، حيث نص البيان على التزام الدول الثلاث بـ"احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، و"بذل الجهود كافة لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي".
دوافع طهران:
تحركت إيران إلى توقيع الاتفاق مع السعودية بوساطة صينية، مدفوعة في ذلك بعدد من العوامل التي أسهمت في مجملها في تقريب وجهات النظر مع المملكة، لعل أهمها ما يلي:
1- استثمار التطلع السعودي لدور مختلف في المنطقة بعيداً عن الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تسعى المملكة منذ فترة لتنويع علاقاتها مع القوى الدولية، وليس فقط مع واشنطن. ولعل هذا الاتفاق الثلاثي برعاية صينية دليل بارز على ذلك، على الرغم من محاولة واشنطن التقليل من دور بكين في هذا الاتفاق، بالتأكيد على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، "أن المملكة قد أبقت المسؤولين الأمريكيين على اطلاع على المحادثات مع إيران".
وقد وجدت طهران الفرصة سانحة في الوقت الراهن لإبرام الاتفاق مع الرياض التي تسعى بدورها إلى تسوية صراعات منطقة الشرق الأوسط، وتخفيف حدة أزماتها، بهدف خلق بيئة إقليمية مواتية لرؤية 2030، التي أعلن عنها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وهي خطة اقتصادية تنموية طموحة، لا تعتمد على عائدات النفط، وتستهدف جذب الاستثمارات الدولية إلى المملكة، الأمر الذي يستلزم استقرار المنطقة وإنهاء مسببات التوتر فيها.
2- محاولة إيران لكسر العزلة وتخفيف الضغوط الدولية المفروضة عليها، فقد واجهت طهران خلال الفترة الماضية ضغوطاً دولية متزايدة بسبب التقارير الواردة عن انخراطها في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى ملف حقوق الإنسان في ظل قمع السلطات الأمنية للاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ عدة أشهر متواصلة، فضلاً عن إخفاقها حتى الآن في التوصل لتسوية بشأن الاتفاق النووي مع الغرب، الأمر الذي يدفعها إلى تحقيق إنجاز بحجم إعادة العلاقات مع السعودية، بهدف تسويق النظام الإيراني لنفسه داخلياً وخارجياً.
ومن غير المرجح أن يؤثر الاتفاق في عودة العلاقات مع السعودية في حد ذاته، بشكل مباشر على استقرار الشارع الإيراني، وإنهاء الاحتجاجات المتواترة في الداخل، أو على مسار المفاوضات مع الغرب بشأن الملف النووي على الأقل حالياً، بيد أن بدء النظام الإيراني في "تصفير المشكلات الكبرى" مع الجوار الإقليمي، من شأنه أن يظهر النظام بمظهر القادر على تحقيق إنجازات في ظل الضغوط الداخلية والخارجية التي يواجهها.
كما سيُمكن الاتفاق الحكومة الإيرانية من تقديمه كأحد إنجازاتها، في ظل وجود توجه لدى قطاع من الرأي العام الإيراني يشير إلى عدم الرضى عن تداعيات الدور الإيراني في الإقليم على الداخل الإيراني، وبشكل خاص فيما يتعلق بتوجيه جزء معتبر من المال العام لتمويل أنشطة طهران إقليمياً.
3- إدراك مدى التأزم الذي باتت تعانيه إيران وحلفاؤها في المنطقة، لاسيما في ظل خضوع طهران لعقوبات اقتصادية تزداد قسوة على الداخل الإيراني، وتحد من قدرة البلاد على الحفاظ على نفس وتيرة دعم الحلفاء والشبكات الموالية لها، وهو ما بات يفرض على النظام عدم الاعتماد على هؤلاء الحلفاء كمصدر وحيد للقوة في المنطقة، وإنما الالتفات لعلاقات الجوار الجيدة والوثيقة كمصدر للقوة أيضاً، خصوصاً في ظل ما يعانيه حلفاء طهران في المنطقة حالياً.
فالعراق يعاني من تدهور اقتصادي وفراغ سياسي، وكذلك الحال في سوريا التي يواجه فيها النفوذ الإيراني محاولات دولية وإقليمية ولاسيما من الولايات المتحدة وإسرائيل للحد منه من خلال تقويض تحركات طهران في الداخل السوري، في وقت يتراجع فيه الاهتمام الروسي بالجبهة السورية، بسبب انشغال موسكو بمجريات الحرب الجارية في أوكرانيا. وفي لبنان، يواجه الحليف الأبرز لإيران؛ وهو حزب الله اللبناني، أزمة تمويل حقيقية، جعلته يبحث عن بدائل للتمويل الإيراني. وفي اليمن، تتزايد الضغوطات الداخلية على مليشيا الحوثيين في مناطق سيطرتها، ومنها العاصمة صنعاء، في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية لليمنيين الواقعين تحت سيطرة المليشيا الانقلابية وانتهاكاتها المستمرة.
مكاسب مرجحة:
مع التسليم بأن الاتفاق بين السعودية وإيران من شأنه أن يحقق مصالح مختلف الأطراف، بما فيهم الصين كوسيط، فإن أبرز المكاسب الإيرانية المتوقعة من هذا الاتفاق تتمثل في الآتي:
1- توطيد العلاقات الاستراتيجية مع الصين: لا يخفى أن موافقة إيران ودون تعنتها التقليدي في المفاوضات، أسهمت في تعزيز الدور المتنامي لبكين في الشرق الأوسط، وإثبات وجودها كقوة دبلوماسية ناجحة في المنطقة، لاسيما أن الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات ليس بالأمر الهين، نظراً لتعدد الملفات الخلافية بين البلدين، وتعمق هذه الخلافات خلال السنوات السبع الماضية منذ قطع العلاقات بينهما في عام 2016. وبالتالي كان الاتفاق بمثابة مبادرة ناجحة للصين وبداية لنشاطها الدبلوماسي في المنطقة. وأمام المكسب الذي حققته بكين من الاتفاق، من المرجح أن تتوطد علاقاتها مع كل من الرياض وطهران، في فترة تحتاج فيها الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع حلفائها لمواجهة الضغوط الغربية عليها.
2- خلق بيئة تجارية آمنة لمبادرة "الحزام والطريق" التي تُعول عليها إيران: يمكن القول إن إيجاد وضع إقليمي آمن ومستقر يعد أول متطلبات نجاح مبادرة "الحزام والطريق". وعلى الرغم من أن الاتفاق يصب في مصلحة الأطراف الثلاثة (الصين والسعودية وإيران) فيما يخص هذه المبادرة، فإن استفادة طهران منها تبدو مضاعفة؛ نظراً لاحتياجها الشديد والمُلح للابتعاد عن أذرع العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على تحركاتها التجارية والنفطية. إذ توفر مبادرة "الحزام والطريق" لإيران فرصة الانخراط في علاقات تجارية أقوى مع دول شرق آسيا وإفريقيا.
كما يمنح الاتفاق بين إيران والمملكة، الفرصة لطهران للترويج مجدداً لمبادرة "تحالف الأمل" للسلام في منطقة الخليج، والتي تهدف إلى التمهيد لعمل جماعي لتحقيق أمن الطاقة وحرية الملاحة وتدفق النفط من وإلى مضيق هرمز. وهي المبادرة التي دعا لها الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر 2019.
3- تنسيق أفضل في ملف الطاقة: وخاصة في ظل ما تتمتع السعودية وإيران من ثقل في مجال النفط، كدولتين منتجتين له، ولأنهما عضوان في منظمة "أوبك"، التي تأخذ على عاتقها تنسيق السياسات النفطية للدول الأعضاء وتوحيدها، لضمان استقرار أسواق النفط. وبالرغم من الخلافات السياسية الحادة بين الدولتين خلال السنوات الماضية، فقد استمر التنسيق في ملف الطاقة في إطار "أوبك". ويمكن أن تمثل عودة العلاقات مع المملكة، فرصة لإيران للتوصل إلى تنسيق أوسع داخل "أوبك"، خاصة إذا نجحت مساعي إعادة التفاوض مع الغرب والولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، ومن ثم التوصل إلى اتفاق دائم أو مؤقت، يؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن النفط الإيراني، مما يتيح لطهران استعادة كامل حصتها داخل المنظمة.
4- تحقيق مكاسب اقتصادية داخلية: على الرغم من عدم أرجحية تأثير الاتفاق مع السعودية في الأوضاع الداخلية في إيران، كما سبقت الإشارة، فإن انعكاساً ملحوظاً ظهر على سعر العملة الوطنية للبلاد شهدته السوق الإيرانية، حيث عوض الريال الإيراني بعض الخسائر التي تكبدها خلال الأشهر الماضية بفعل الاحتجاجات وحالة الركود الاقتصادي، والعقوبات الأوروبية، مسجلاً، فور الإعلان عن الاتفاق، ارتفاعاً تجاوز 6%، حيث أشار موقع الصرف الأجنبي الإلكتروني "بونباست دوت كوم" (BONBAST) إلى أن الريال الإيراني سجل يوم السبت 11 مارس الجاري 447 ألفاً مقابل الدولار الأمريكي في السوق الحرة غير الرسمية، مقارنة بـ477 ألفاً في اليوم السابق.
ختاماً، يمكن القول إن مدى تحقق الفرص والمكاسب لإيران بعد اتفاق عودة العلاقات مع السعودية، يعتمد على مدى التوافق بين البلدين وقدرتهما على تجاوز الملفات الخلافية العالقة، وتنفيذ بنود هذا الاتفاق، ثم البناء عليه لتحسين العلاقات الثنائية في الفترة المقبلة.