أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)
  • شريف هريدي يكتب: (مخاطر الانفلات: خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (زلزال انتخاب فاي.. اتجاهات التغيير القادم في السنغال)

معضلة الثنائيات:

"المناطق الرمادية" لإعادة الإعمار في مراحل ما بعد الصراعات العربية

01 أكتوبر، 2019


رغم أن هناك جهودًا وأدوارًا تقوم بها المؤسسات الدولية الرسمية والمنظمات العالمية غير الحكومية والحكومات لإعادة بناء أو إعمار الدول العربية في مراحل ما بعد النزاعات، إلا أن هناك مساحات رمادية تجعل من المحتمل تعثر تلك الجهود، بشكل أو بآخر، في سبيل تعافي الدول بعد سنوات من الدمار تتعلق بمعضلات إعمار الحَجَر أم تأهيل البشر، والتوقيت الملاءم للإعمار (أثناء الصراع أم بعد التسوية)، والنطاق الموضوعي لإعادة الإعمار "اقتصادي فقط أم مسارات أخرى إضافية"، والتمويل الذاتي أم الدعم المالي الخارجي، والقوى الخارجية الشريكة في إعادة الإعمار "غربية أم شرقية" والتي يهمها الاستحواذ على أكبر قدر من "كعكة" عقود الإعمار.

وقد تناولت العديد من الكتب والدراسات والتقارير والمؤتمرات تعقيدات إعادة إعمار الدول المتضررة من الصراعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، على نحو ما هو قائم في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، لدرجة أنها صارت من الموضوعات التي "قُتِلت بحثًا"، إلا أن هناك أبعادًا جديدة تظهر عبر أوضاع داخلية وتفاعلات إقليمية وتحركات دولية، بحيث تفرض معالجة مختلفة تأخذ في الاعتبار النقاط الثلاث، وذلك على النحو التالي:

العوامل الكامنة:

1- إعمار الحَجَر أم تأهيل البشر: ترتبط إحدى المناطق الرمادية في مسألة إعادة إعمار الدول بالإقليم في مراحل ما بعد النزاعات، بالتركيز على إصلاح البنى التحتية من مرافق صحية وتعليمية ومياه الصرف الصحي وخطوط النقل والمواصلات ونقل "مخلفات الحرب" دون بذل جهود لإعادة تأهيل البشر الذين عانوا من ويلات الصراعات، لدرجة أن هناك كتابات عديدة تتحدث عن "الأجيال الضائعة" التي ولدت في أتون تلك الصراعات. وفي هذا السياق، ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، في بيان في 20 سبتمبر الجاري، أن "أكثر من 29 مليون طفل ولدوا في مناطق صراعات خلال عام 2018".  

وأوضحت المنظمة أن "طفلاً على الأقل من بين كل خمسة أطفال رضع في العالم بدأوا حياتهم في بيئات شديدة الخطورة ومليئة بالتوتر، بما في ذلك دول مثل أفغانستان والصومال وجنوب السودان وسوريا واليمن، حيث تفتقر ملايين الأسر للأطعمة المغذية والمياه الصالحة للشرب ومرافق الصرف الصحي أو بيئة آمنة وصحية للنمو والترابط"، وأضافت: "إلى جانب هذه المخاطر الفورية والواضحة، فإن الآثار البعيدة المدى لمثل هذه البداية في الحياة ربما تكون كارثية"، وخلصت المنظمة إلى أن "الآباء في المناطق المتضررة من النزاع يحتاجون بشدة إلى مزيد من الدعم لمساعدتهم وأطفالهم على مواجهة الدمار الذي يواجهونه"، فالصدمات النفسية التي تعرضت لها أسر بكاملها، وخاصة الأطفال، تؤثر بشكل كبير على أنماطهم السلوكية وتجعلهم معرضين للانفصال عن محيطهم الجغرافي. ومن ثم، فإن جهود إعادة الإعمار لا تقتصر على الموارد المالية فقط.

زمن البناء:

2- التوقيت الملاءم للإعمار (أثناء الصراع أم بعد التسوية): تعتمد بعض القوى مقاربة إعادة الإعمار كمدخل للتسوية (خطوة استباقية)، وليس في مرحلة ما بعد التسوية ونهاية العنف وصمت المدافع. ولعل ذلك يفسر الأدوار التي تقوم بها بعض الدول الغربية لإعادة بناء وتأهيل البنية الأساسية في دول الصراعات العربية، مثل بناء ألمانيا لأحد محطات الكهرباء في مصراتة الليبية، فضلاً عن الاستثمارات الواسعة الإيطالية في مناطق عدة داخل ليبيا، على الرغم من استمرار الصراع الليبي على مدى يقترب من تسعة أعوام دون وجود مؤشرات تلوح في الأفق توحي بتسويته.

وينطبق ذلك أيضًا على حالة الصراع في اليمن، حيث تقوم السعودية والإمارات بأدوار متوازية لإعادة إعمار عدد من المناطق التي دمرتها سنوات الصراع، في الوقت الذي يواصل الحوثيون التمرد على الشرعية الدستورية. وفي هذا السياق، شارك البرنامج السعودي للتنمية وإعمار اليمن، في الثلث الأخير من سبتمبر 2019، على هامش أعمال الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، برئاسة المشرف العام على البرنامج السفير محمد بن سعيد آل جابر. 

وقد تم عرض مواد مرئية وحية لمشروعات البرنامج في المحافظات اليمنية، خلال المعرض الذي تمت إقامته بمقر الأمم المتحدة في نيويورك، حيث دعمت 7 قطاعات حيوية في اليمن، هى قطاع الصحة، والتعليم، والكهرباء والطاقة، والزراعة والثروة السمكية، والمياه والسدود، والطرق والموانئ والمطارات، والمباني الحكومية. واحتوى المعرض على فيديوهات من مشروعات "إعمار اليمن"، ومجموعة صور من مستفيدين من جميع الفئات العمرية من مشروعات البرنامج التنموية، والتي أحدثت أثرًا إيجابيًا في معيشة المواطنين اليمنيين، وساهمت في مواجهة تحديات الاقتصاد اليمني.

هيكلة رباعية:

3- النطاق الموضوعي لإعمار الإعمار: قد يتصور البعض أن عملية إعادة الإعمار ذات طابع اقتصادي بالأساس وترتبط بانتظام المخصصات المالية لبناء ما دمرته الصراعات. غير أن ذلك ليس صحيحًا، لأن إعادة الإعمار تتطلب آليات أخرى غير اقتصادية تتمثل في إصلاح قطاعات الأمن وتأهيل قوات الشرطة، وتعزيز المصالحة المجتمعية والحوكمة الرشيدة المرتبطة بعمل معايير لمراحل ما بعد تدهور المؤسسات بهدف بناء قدراتها وتطوير مهامها بشكل تدريجي.

ويبدو أن النظام السوري يركز في تلك المرحلة على البعد الأول بما يخدم رسائله التي تشير إلى نجاحه في السيطرة الميدانية على ما يقرب من ثلثى الأراضي السورية، دون الاهتمام بالمسارات الثلاثة السابق الحديث عنها. وفي هذا السياق، رسمت لوحة ضخمة في مدينة المعارض على طريق دمشق الدولي، وتضمنت أبنية شاهقة شيدت بطريقة تحاكي ما هو قائم في الدول المتقدمة، للإيحاء بأن سوريا في طريقها للتعافي من آثار الحرب. ويأتي ذلك في سياق معرض "إعادة إعمار سوريا" الخامس الذي نظمت أعماله على مدى خمسة أيام، واختتمت فعالياته في 21 سبتمبر الجاري . 

وقد سيطر الطابع الدعائي على المعرض، إذ بات ملحوظًا هيمنة إيران عليه، حيث شاركت بـ90 شركة، في حين شاركت روسيا بـ10 شركات، والتي تنوعت مجالات عملها ما بين معدات وآليات ومواد البناء والتقنيات العمرانية، إلى جانب شركات متخصصة في مجال الطاقة والنفط والصحة والتعليم والزراعة والاتصالات وتقنيات وتكنولوجيا المياه، إضافة إلى شركات تعمل في خدمات التأمين والتطوير العقاري والنقل والسياحة وأنظمة الحماية والأمان. فالنظام يكافئ القوى الإقليمية والدولية الداعمة لبقائه. غير أن هناك أبعادًا عديدة لإعادة الإعمار داخل سوريا، منها إصلاح قطاع الأمن وإعادة هيكلة الجيش النظامي وتعزيز خيار المصالحات المحلية بما يقود في الحاصل الأخير إلى الاقتراب من مصالحة وطنية متماسكة، فضلاً عن مسار الإصلاحات السياسية عبر دعم تشكيل وعمل اللجنة الدستورية.

نقاط التدفق:

4- التمويل الذاتي أم الخارجي: يتمثل أحد التعقيدات التي تواجه إعمار دول ما بعد الصراعات في توافر الموارد المالية المخصصة لها، لا سيما أن مبدأ الملكية الوطنية للحلول، وفقًا لما تحدث عنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في كلمته أمام الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2019، يشير إلى أن "مصر عملت بحكم رئاستها للاتحاد الإفريقي، وبالمشاركة مع الدول الإفريقية، على ترسيخ مبدأ الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية حتى يتسنى اعتماد مقاربة شاملة تستهدف إرساء دعائم التنمية، من خلال رؤية قارية تستند إلى مقومات التاريخ المشترك ووحدة المصير والثقة في قدرتنا على السير قدمًا نحو الاندماج".

وأضاف السيسي: "تعزيزًا لهذا التوجه، فقد تم تدشين آلية جديدة في القاهرة لهذا الغرض، هى مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية، الذي سيركز على إعادة بناء الدول.. في مرحلة ما بعد النزاعات"، مشيرًا إلى أن "دول القارة الإفريقية على يقين تام بأهمية تطوير شراكات حقيقية وفعالة، للتصدي للتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها، وتطوير الموارد البشرية الإفريقية، وتوفير التمويل والدعم السياسي".

"كعكة" العقود:

5- القوى الخارجية الشريكة في إعادة الإعمار "غربية أم شرقية": تواجه عمليات إعادة الإعمار تحديًا يتعلق بصراع القوى الدولية على "كعكة" الاستثمارات في الدول التي شهدت صراعات داخلية مسلحة أو معارك في مواجهة تنظيمات إرهابية عابرة للحدود "الرخوة". ولعل حالة العراق معبرة عن ذلك بعد تحرير محافظاتها من سيطرة تنظيم "داعش". وهنا تجدر الإشارة إلى الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تبرمها الحكومة مع جهات خارجية، وكان آخرها توقيع الحكومتين العراقية والصينية، في 23 سبتمبر الجاري، على ثماني اتفاقيات ومذكرات تفاهم بحضور رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي ورئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانج.

وقد أشار بيان صادر عن رئاسة الحكومة العراقية إلى أن "من بين المذكرات التوقيع على اتفاق إطاري للإنفاق الائتماني المالي ومذكرة تفاهم لإعادة الإعمار الاقتصادي وأخرى تتعلق بمجالات التعاون الاقتصادي والثقافي والفني وتطوير البنى للمواصلات والاتصالات والسكن والطاقة والمجاري". وفي السياق نفسه، أكد عبدالمهدي أن بلاده "مهيأة للاستثمارات وفرص العمل في العراق كثيرة وفي جميع القطاعات والبلاد تشهد تزايدًا في أعداد الشركات والمستثمرين بعد سلسلة قرارات تخص الشراكة بين القطاع العام والخاص والتصويت على تأسيس مجلس الإعمار".

فاتورة ضخمة:

خلاصة القول، إن تعقيدات التعامل مع إعادة إعمار الدول المتضررة من النزاعات تتجاوز الخسائر الاقتصادية وتمتد إلى الشروخ المجتمعية والأبعاد التفسية. ولهذا تفضل بعض الكتابات تعبيرى "التعافي" و"الانتعاش" بما يتضمنه ذلك من إعادة تنشيط الاقتصاد وعودة النازحين واللاجئين وتأهيل الأطفال والشباب الذين تم تجنيدهم في الحرب بشكل خاص، ومشاركة مختلف الأطراف العربية والإقليمية والدولية في تلك العملية لأنه لا يمكن لطرف أن يتحمل بمفرده فاتورة إعادة الإعمار.