مع وصول الأزمة الحالية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة حرجة، خاصة بعد اتجاه الأولى إلى تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي وتهديد أمن الملاحة والناقلات في منطقة الخليج بالتوازي مع رفع مستوى الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من حدودها، بدأت دعوات عديدة للتفاوض مع واشنطن تظهر على الساحة الداخلية الإيرانية. ورغم أن ذلك لا يعبر عن ظاهرة جديدة، باعتبار أن العلاقات مع واشنطن تحديدًا كانت محورًا لتجاذبات سياسية مستمرة بين القوى الرئيسية في الداخل، إلا أن الجديد في الأمر هو أن هذه الدعوات بدأت تتزايد داخل تيار المحافظين الأصوليين، على نحو بدا جليًا في الحوار الذي أجراه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عبر الهاتف مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في 19 يوليو 2019، ودعا فيه إلى إجراء مفاوضات مباشرة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتسوية النزاع الذي امتد أربعين عامًا.
دلالات عديدة:
تطرح التصريحات التي أدلى بها أحمدي نجاد في هذا الحوار دلالات عديدة ترتبط بحدود التمايزات السياسية الداخلية حول المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبالصراع المحموم على الوصول إلى السلطة بين القوى المختلفة.
إذ أنها تشير إلى أن الدعوة إلى التفاوض ليست حكرًا على تيار المعتدلين، الذي يضم أقطابًا من جناحى المحافظين التقليديين والإصلاحيين ويرمز له الرئيس حسن روحاني والرئيس الأسبق محمد خاتمي، بدليل أن المفاوضات السرية ثم العلنية التي أجريت بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية ومهدت المجال فيما بعد للوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، بدأت في نهاية عهد أحمدي نجاد، بما يعني أن أحد أسباب وصول المعتدلين، ممثلين في روحاني، إلى السلطة في عام 2013، كان يكمن في إنضاج الظروف التي تهيئ المجال أمام الإعلان عن الوصول إلى صفقة نووية مع ما يسمى في طهران بـ"الشيطان الأكبر"، وليس الانخراط في مفاوضات معه، باعتبار أن الشق الأهم من تلك المفاوضات سبق أن أُنجِز فعلاً في عهد الإدارة السابقة برئاسة أحمدي نجاد.
وهنا، يمكن القول إن الاتجاه الذي تبنته إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وراهنت من خلاله على أن وصول تيار المعتدلين إلى السلطة في إيران يمكن أن يساعد في إجراء تغيير وإضفاء طابع أكثر اعتدالاً على سياسات إيران يمهد إلى تسوية الخلافات العالقة بين الطرفين وتحسين ثم عودة العلاقات الدبلوماسية، لم يكن مبنيًا على معطيات حقيقية تتوافق مع ما يحدث على الأرض، وهو ما بدا واضحًا في مرحلة ما بعد الوصول للاتفاق النووي، والتي حرصت فيها إيران على الإمعان في ممارسة أدوارها التخريبية في المنطقة وواصلت إجراء تجارب خاصة بالصواريخ الباليستية التي استخدمت بعضها في فترات مختلفة، واستمرت في تقديم الدعم العسكري والمالي للتنظيمات الإرهابية والمسلحة الموجودة في بعض دول الأزمات على غرار حركة الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والميليشيات التي قامت بتكوينها وتدريبها في سوريا والعراق.
بل إن الرئيس حسن روحاني نفسه، الذي يوصف بأنه معتدل، كان حريصًا، في مناسبات عديدة، على إبداء تأييده لهذه السياسات المتشددة، خاصة فيما يتعلق بالدعم المقدم للحلفاء الإقليميين وبنفوذ إيران في المنطقة.
نفوذ المرشد:
تراجع قدرة المعتدلين على إجراء تغيير في سياسات إيران يشير إلى أن النفوذ الأقوى داخل النظام يمتلكه المرشد الذي يستطيع وحده منح الضوء الأخضر للانخراط في هذا المسار. ولذا، فإن الحديث عن أن خامنئي لم يكن متجاوبًا مع الوصول للاتفاق النووي من البداية مع القوى الدولية يفتقد للمصداقية، باعتبار أن الرئيس روحاني وفريق التفاوض النووي لم يكن يستطيعوا الإقدام على تلك الخطوة دون قبوله.
وقد بدا إدراك القوى الدولية لهذا الأمر واضحًا في تعليق أحد المسئولين بالبيت الأبيض، في 19 يوليو الجاري، وهو اليوم نفسه الذي نشرت فيه "نيويورك تايمز" الحوار مع أحمدي نجاد، على العرض الذي طرحه وزير الخارجية محمد جواد ظريف بقبول عمليات تفتيش على المنشآت النووية مقابل رفع العقوبات الأمريكية، حيث قال أن "جواد ظريف لا يملك القرار ولا يملك الصلاحية، وأى عرض للتفاوض يجب أن يأتي من المرشد علي خامنئي".
ومن دون شك، فإن ذلك يشير إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تُعوِّل على وجود المعتدلين في السلطة، من أجل الدفع باتجاه القبول بإجراء مفاوضات للوصول إلى اتفاق جديد يتضمن تسوية للخلافات العالقة حول الملفات المختلفة.
تدوير الزوايا:
هنا تحديدًا يمكن القول إن عدم ممانعة القيادة العليا في النظام في طرح بعض المسئولين، ومن بينهم أحمدي نجاد، الذي ما زال يتولى منصبًا مهمًا هو عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام، دعوة التفاوض مع واشنطن، يشير إلى أنها تتعمد توجيه رسائل بهذا الشأن إلى الخارج لتحقيق هدفين: أولهما، الإيحاء بأن التفاوض ممكن حتى في ظل التصعيد الحالي بين الطرفين، وفي ظل الرفض المتكرر من جانب خامنئي للعروض المتكررة من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا الشأن.
وثانيهما، توجيه الانتباه إلى أن مشكلة إيران لا تكمن في التفاوض مع واشنطن وإنما في توقيت هذا التفاوض. وهنا، تكتسب تصريحات أحمدي نجاد مزيدًا من الأهمية والزخم. إذ أن ذلك يوحي بأن إيران تفضل أن يكون ذلك في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، على أساس أن الأعوام الأربعة التالية على الانتخابات سوف تحسم إلى حد كبير، وفقًا لتلك الرؤية، المسارات المحتملة للأزمة الحالية بين إيران وإدارة ترامب، في حالة ما إذا نجح الرئيس الأمريكي في تجديد فترته الرئاسية.
ومن هنا أيضًا يمكن تفسير إصرار إيران على مواصلة دعم نفوذها في المنطقة، لا سيما في دول الأزمات، بالتعاون مع الميليشيات الموالية لها، وبالتوازي مع تخفيض مستوى التزاماتها النووية، وذلك بهدف تعزيز موقعها التفاوضي قبل الانخراط في دراسة الخيارات المحتملة للتعامل مع واشنطن في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
فضلاً عن ذلك، فإن تلك التصريحات توحي بأن أحمدي نجاد يسعى إلى تعويم الجناح السياسي الذي يقوده على الساحة، بالتوازي مع اقتراب موعد الاستحقاقات السياسية الهامة في إيران والتي تتمثل في الانتخابات التشريعية والرئاسية اللتين سوف يتم إجراءهما عامى 2020 و2021 على التوالي.
وبصرف النظر عن عدم وجود مؤشرات توحي بأن أحمدي نجاد قد يقدم على الترشيح في الانتخابات الرئاسية، خاصة بعد رفض مجلس صيانة الدستور لترشيحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2017، فإن الهدف الأهم بالنسبة للرئيس السابق يكمن في تعزيز فرص جناحه السياسي في الوصول إلى السلطة عبر البرلمان وتقليص نفوذ الأجنحة السياسية المنافسة من داخل تيار المحافظين الأصوليين خاصة الجناح الذي يقوده رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن دعوات التفاوض مع واشنطن سوف تتزايد داخل إيران خلال المرحلة القادمة، على ضوء تصاعد حدة التداعيات التي تفرضها العقوبات الأمريكية ومحاولات النظام تجنب الوصول إلى مرحلة الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع الأخيرة رغم كل الخطوات الاستفزازية التي يتخذها في الرد على إجراءاتها العقابية.