أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

حسابات شائكة:

كيف تفكر تركيا في الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا؟

14 فبراير، 2022


يتصاعد التوتر بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو من جهة أخرى حول أوكرانيا، إذ تتهم القوى الغربية روسيا بحشد أكثر من 100 ألف جندي وأسلحة ثقيلة على حدود أوكرانيا تمهيداً لغزوها، وهو ما تنفيه موسكو. ورداً على ذلك، عززت القوى الغربية انتشارها العسكري في أوروبا الشرقية وأرسلت مزيداً من الأسلحة إلى أوكرانيا لمساعدتها في التصدي لأي غزو روسي محتمل. 

وفي خضم هذا التوتر أجرى الرئيس التركي أردوغان، زيارة إلى كييف، يوم 3 فبراير، حيث التقى نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبحث معه التوتر بين أوكرانيا وروسيا. وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الأوكراني، أكد أردوغان استمرار دعم تركيا لسيادة ووحدة الأراضي الأوكرانية بما في ذلك شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا في عام 2014. وأعلن استعداد تركيا للقيام بما يلزم من أجل إنهاء الأزمة بين أوكرانيا وروسيا، مجدداً مبادرته لعقد لقاء قمة بين رئيسي روسيا وأوكرانيا أو محادثات على المستوى الفني في أنقرة، لتجاوز الأزمة الراهنة بين البلدين.

وبالنظر إلى الموقف التركي، منذ بداية التصعيد حول أوكرانيا في أواخر العام الماضي، نجد أن تركيا تتبنى موقفاً مزدوجاً، ففي الوقت الذي تؤكد فيه رفضها أي غزو عسكري روسي لأوكرانيا مع إبداء الاستعداد لتقديم الدعم لكييف، بصفتها عضواً في التحالف الغربي وحليفاً في الناتو، تطرح أنقرة نفسها وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا لحل الأزمة بينهما. وهو ما يكشف عن حسابات تركيا المعقدة تجاه الأزمة، ويرجع ذلك لمجموعة من الاعتبارات المتعلقة بعلاقات تركيا مع كل من الغرب وأوكرانيا وروسيا، بالإضافة لخشية تركيا من التداعيات السلبية لاندلاع حرب بين أوكرانيا وروسيا على مصالحها.

دعم أوكرانيا:

 أبدى مختلف المسؤولون الأتراك رفضهم لأي غزو روسي لأوكرانيا، وعلى رأسهم الرئيس أردوغان الذي أعرب، في مقابلة تليفزيونية يوم 26 يناير، عن أمله بألا تقدم موسكو على عمل عسكري ضد أوكرانيا، وقال "مثل هذه الخطوة ستكون عملاً أحمق بالنسبة لروسيا والمنطقة". وفي معرض إجابته عن سؤال حول موقف تركيا في حال شنت موسكو هجوماً ضد كييف، قال أردوغان إن "أنقرة دعمت منذ البداية سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، واتخذت موقفاً واضحاً ضد الخطوات الروسية التي تنال من وحدة الأراضي الأوكرانية لا سيما ضمها شبه جزيرة القرم". وأكد أن "تركيا ستواصل، كما كانت دائماً، الوفاء بالتزاماتها كحليف في الناتو، ولا مجال للتردد في هذا الأمر". وهو الموقف الذي كرره أردوغان خلال زيارته الأخيرة لكييف يوم 3 فبراير. 

كما كثفت تركيا دعمها السياسي والاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، فخلال زيارة أردوغان الأخيرة لكييف تم عقد الاجتماع العاشر للمجلس الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، والذي بحث تطوير التعاون بين تركيا وأوكرانيا على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والتجارية. ووقع البلدان 8 اتفاقيات تعاون أبرزها اتفاقية التجارة الحرة، ومذكرة تفاهم بشأن التعاون الفني بين رئاسة الإيرادات بوزارة الخزانة والمالية التركية ودائرة الضرائب الأوكرانية، وبروتوكولاً لتأسيس لجنة جمركية مشتركة. كما وقع البلدان اتفاقية حول التعاون في مجال تكنولوجيا الطيران والفضاء. وخلال مؤتمر صحفي مع نظيره التركي، قال الرئيس الأوكراني، إنه تم توقيع اتفاقية ستوسع بشكل ملموس عمليات إنتاج الطائرات المُسيّرة من إنتاج شركة "بايكار" التركية في أوكرانيا. وكانت وزارة الدفاع الأوكرانية وقعت مع شركة "بايكار" التركية، في سبتمبر 2021، بروتوكولاً لإنشاء مركز مشترك لصيانة وتحديث وتدريب مخصص للطائرات المسيّرة، في منطقة "فاسيلكيف" الأوكرانية. 

وأعلن وزير الدفاع الأوكراني، في 3 فبراير، أن بلاده سلمت قائمة بالأسلحة والمعدات العسكرية التي تحتاجها لضمان الردع والتصدي لأي غزو محتمل، إلى الملحقين العسكريين في سفاراتها بدول أخرى، ومن بينها تركيا، مشيراً إلى أن كييف ستجري مباحثات مع أنقرة بشأن إمكانية اقتناء منظومات دفاعية تركية. من جانبه، أكد رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، أن كييف أبلغت أنقرة رغبتها في شراء المزيد من طائرات "بيرقدار" القتالية المُسيّرة. ويذكر أن أوكرانيا تقتني بالفعل 12 من هذه الطائرة، واستخدمتها بالفعل ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في "دونباس" شرق أوكرانيا، في أكتوبر 2021، وهو ما أثار غضب موسكو. 

محاولات الوساطة:

عرضت تركيا الوساطة في الأزمة الأوكرانية لأول مرة في نوفمبر 2021، عندما أعلن الرئيس أردوغان أنه تقدم بعرض للرئيس بوتين للتوسط بين روسيا وأوكرانيا، موضحاً أنه من الممكن عقد لقاء قمة بين الرئيسين الروسي والأوكراني لاتخاذ خطوة بناءة لوقف التصعيد. وهو ما رفضه الكرملين، آنذاك، قائلاً "إن روسيا ليست طرفاً في النزاع الجاري في إقليم دونباس". كما اقترحت تركيا عقد اجتماع لـ"مجموعة مينسك" الخاصة بشأن التسوية الأوكرانية في إسطنبول، بمشاركة ممثلين عن روسيا وأوكرانيا وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين ذاتياً، في شرق أوكرانيا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

وجدد أردوغان، في أكثر من مناسبة، مبادرته للتوسط بين روسيا وأوكرانيا، كان آخرها خلال زيارته الأخيرة لأوكرانيا في 3 فبراير. وفي الوقت الذي شكر فيه الرئيس الأوكراني نظيره التركي، خلال لقائهما في كييف، على مبادرته للوساطة لإنهاء التوتر القائم بين أوكرانيا وروسيا وتأكيده الاستعداد للقيام بكل ما يمكن في أي مكان وبأي صيغة كانت من أجل تحقيق السلام في أوكرانيا، لا تزال روسيا متحفظة على إمكانية عقد اجتماع يجمع الرئيسين الروسي والأوكراني في أنقرة وفق المبادرة التركية، حيث قال متحدث الكرملين ديمتري بيسكوف، خلال مؤتمر صحفي في موسكو، يوم 4 فبراير، إنه "لا اتفاق على ذلك حتى الآن"، مضيفاً أن "إمكانية عقد مثل هذا الاجتماع لم تتم مناقشتها من الناحية العملية حتى الآن". وفي حين صرح أردوغان، قبل توجهه لأوكرانيا، بأن "الرئيس بوتين أبلغنا بأنه سيزور تركيا بعد زيارته للصين"، قال بيسكوف إنه "لم يتحدد بعد توقيت زيارة بوتين المرتقبة إلى أنقرة". 

حسابات أنقرة:

1- إبقاء العلاقات الاستراتيجية مع أوكرانيا: تتمتع تركيا بعلاقات استراتيجية وثيقة مع أوكرانيا على المستويات المختلفة، فسياسياً، اتفق البلدان في عام 2011 على تأسيس المجلس الاستراتيجي رفيع المستوى، وتمت ترقية العلاقات بي البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. واقتصادياً، بلغ حجم التجارة بين البلدين 7,4 مليار دولار عام 2021، وتخطط الدولتان لرفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 10 مليارات دولار، عقب توقيع اتفاقية التجارة الحرة بينهما.

وعسكرياً، تعد أوكرانيا من أبرز مستوردي الطائرات المُسيّرة التركية وتشترك أيضاً في إنتاجها، فبجانب تصنيع طائرات "بيرقدار" على الأراضي الأوكرانية، تقوم أوكرانيا بإنتاج محركات عدد من الطائرات المُسيّرة التركية مثل "آقنجي". وفي أغسطس 2019، أنشأت تركيا وأوكرانيا شركة مشتركة تحت اسم "Black Sea Shield" متخصصة في الصناعات الجوية، من أجل تصميم وتطوير أجيال جديدة من الطائرات المُسيّرة بعيدة المدى، بالإضافة لتصنيع صواريخ وأنظمة رادار وتوجيه. كما تقوم شركات أوكرانية بتزويد تركيا بمحركات لمروحيتها القتالية (ATAK-2)، والتي من المقرر أن تجري أولى تجارب الطيران في عام 2023. وكان قد أعلن الرئيس الأوكراني، في يوليو 2021، عن وضع هيكل أول فرقاطة أوكرانية حديثة يتم بناءها في تركيا، والتي من المتوقع إنجازها بحلول عام 2023.

2- استغلال الأزمة لإصلاح العلاقات مع الغرب: تسعى تركيا لتوظيف الأزمة الأوكرانية للتأكيد على مركزية دورها بالنسبة للأمن الأوروبي وأهمية موقعها في استراتيجية الولايات المتحدة وحلف الناتو لاحتواء روسيا، وذلك بعدما تسببت سياسات تركيا الإقليمية وتقاربها مع روسيا، على مدار السنوات الماضية، في توتر علاقاتها بالقوى الغربية وخروج أصوات مناديه بطرد تركيا من الناتو، لتبنيها سياسات عدائية تجاه بعض دول الحلف وانتهاجها سلوكيات تتناقض مع استراتيجية الناتو وأهدافه. فتركيا تتحكم في حركة المرور من وإلى البحر الأسود، الذي تشترك في حدوده مع روسيا، عبر مضيقي الدردنيل والبوسفور، حيث تسمح تركيا للسفن التابعة للناتو بالمرور إلى البحر الأسود، وتتحكم في مضيق البوسفور الذي يعد نقطة المرور الرئيسية لروسيا نحو البحر المتوسط. وتاريخياً كان يُنظر لتركيا كخط الدفاع الأول لأوروبا أمام التهديدات السوفييتية.

وتراهن تركيا على أن تبنيها موقفاً داعماً لأوكرانيا ومتماهياً مع الناتو سيؤدي لتحسين علاقاتها بالولايات المتحدة وحل خلافاتها معها، والتي يأتي على رأسها استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات "إف-35" لاقتنائها منظومة "إس-400" الدفاعية الروسية. وتسعى تركيا الآن للاستفادة من الأزمة الأوكرانية في تمرير صفقة لشراء 40 مقاتلة أمريكية جديدة من طراز "إف-16"، مقابل مليار و400 مليون دولار دفعتها في السابق للحصول على مقاتلات "إف-35". وذلك تحت دعوى مواجهة الخطر المتزايد في البحر الأسود من جانب روسيا، غير أن عملية البيع تواجه معارضة من أعضاء الكونجرس الذين ينتقدون علاقات تركيا المتنامية مع روسيا وسياساتها في منطقة شرق المتوسط. 

3- الخوف من إغضاب روسيا: ترجع مبادرة تركيا للتوسط بين روسيا وأوكرانيا إلى رغبة أنقرة في إنهاء الأزمة بين البلدين سلمياً وعدم تطور الأمر إلى حرب تضطر فيها للانحياز إلى أحد الطرفين، والذي سيكون بالتبعية أوكرانيا وحلفاؤها الغربيين باعتبارها عضواً في حلف الناتو، وهو ما سيؤدي لانهيار علاقاتها المتنامية مع روسيا على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. فتركيا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي لسد احتياجاتها من الطاقة، ويزور تركيا عدد كبير من السياح الروس سنوياً، وتعتبر روسيا سوقاً مهماً للمنتجات الزراعية التركية. كما قامت تركيا بشراء نظام الدفاع الروسي "إس-400". 

كما تخشى تركيا من الانعكاسات السلبية لاندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا على التنسيق القائم بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراعات، في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، واشتعال جبهات القتال مجدداً كرد على الانحياز التركي المحتمل للغرب في مواجهة روسيا، خاصة أن هذه المناطق محل تنافس بين روسيا والغرب أيضاً. وهو ما سيشكل تحدياً كبيراً لتركيا التي لن تستطع تحمل تكلفة تفجر هذه الصراعات من جديد.

في الختام، إن التصعيد حول أوكرانيا يشكل فرصة وأزمة لتركيا في آن واحد، ففي الوقت الذي تسعى فيه تركيا للاستفادة من الأزمة في تحسين علاقاتها مع الغرب، فإن أي غزو روسي لأوكرانيا سيضع تركيا أمام اختيار صعب، بين الانحياز لأوكرانيا وحلفائها في الناتو وخسارة علاقاتها مع روسيا، أو الوقوف على الحياد وانهيار علاقاتها مع القوى الغربية. وفي الأحوال كافة، سيتعرض الاقتصاد التركي المتعثر لخسائر كبيرة في حال غزت روسيا أوكرانيا، وفرضت القوى الغربية عقوبات اقتصادية على موسكو. لذلك تسعى تركيا جاهدة للتوسط بين روسيا وأوكرانيا لحل الأزمة دبلوماسياً ومنع اندلاع حرب.

ويبدو أن روسيا لا تزال، حتى الآن، متحفظة على الوساطة التركية في الأزمة، حيث ترى أن أنقرة وسيطاً غير محايد، باعتبارها عضواً في حلف الناتو، ولديها تعاون عسكري وثيق مع أوكرانيا. يضاف لذلك، أن روسيا لديها مطالب أمنية من واشنطن والناتو لخفض التصعيد حول أوكرانيا من الصعب أن تحققها الوساطة التركية، وهي عدم توسع الناتو شرقاً، والتخلي عن نشر أنظمة أسلحة هجومية بالقرب من الحدود الروسية، وعودة البنية التحتية العسكرية للناتو في أوروبا إلى حالة عام 1997.