شهدت العديدُ من المدن التونسية احتجاجات شعبية واسعة في الأشهر الأخيرة للمطالبة بتحسين المستوى المعيشي وتوفير فرص العمل اللائقة والبنى التحتية اللازمة. وقد انطلقت هذه الاحتجاجات من المناطق الحدودية (تطاوين، وسيدي بوزيد) التي تُعاني من تفاوتات تنموية واسعة مقارنةً بالمناطق الساحلية بالبلاد.
وتتزامن هذه الاحتجاجات مع الأداء الضعيف للاقتصاد بسبب تراجع القطاعات الرئيسية، لا سيما السياحة، نتيجة تصاعد التهديدات الإرهابية من ناحية، والاحتجاجات الشعبية ذاتها من ناحية أخرى، يُضاف إلى ذلك تباطؤ قدرة الحكومة على إجراء الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لدفع الاستثمار. وقد أدت الاحتجاجات المستمرة إلى استمرار حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي في البلاد.
وفي هذا السياق، توقف إنتاج أهم القطاعات الاستراتيجية، وهما قطاعا الفوسفات والنفط، حيث تم تجميد أنشطة الشركات المنتجة المحلية والأجنبية على حد سواء، وهو ما تسبب في خسائر اقتصادية كبيرة في الفترة الماضية. وبالإضافة إلى ما سبق، تُمثِّل الاحتجاجات الشعبية ضغطًا إضافيًّا على الحكومة في إقرار كثير من الإصلاحات الاقتصادية خلال الفترة المقبلة.
ولاحتواء هذه الاحتجاجات، تبنت الحكومة آليتين محدودتين لتقليل الفجوة التنموية وتخفيض مستويات الفقر والبطالة: أولاهما، توفير فرص عمل بالشركات المحلية. وثانيتهما، تخصيص أموال إضافية لتوفير البنى التحتية بالمناطق الحدودية.
وبالرغم مما سبق، إلا أن تونس، على ما يبدو، في حاجة لمعالجة اقتصادية شاملة تعزز من المساواة الاقتصادية، وتكافؤ الفرص، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ظاهرة مستمرة:
شهدت عدة مدن تونسية في الأشهر الماضية احتجاجات متكررة، لا سيما بالمناطق الحدودية، وهو ما يتوازى مع اعتراض قطاعات واسعة من المواطنين على الخطط المطروحة من قبل الحكومة في الفترة الماضية لإنعاش الاقتصاد ودفع الاستثمار.
وفي هذا الإطار، شهد مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، الذي يهدف إلى تسوية كثير من قضايا التعدي على الأموال العامة في السنوات الماضية، منذ بدء مناقشته في البرلمان في إبريل 2017، معارضة واسعة من قبل العديد من الأحزاب والمنظمات. وفي 13 مايو الجاري، نظمت احتجاجات شعبية واسعة في العاصمة تونس بهدف الضغط على البرلمان لمنع تمريره.
أما عن الاحتجاجات في المناطق الحدودية، فقد تأزمت الأوضاع في عدد من الولايات، ومن أكثرها ولاية تطاوين في جنوب البلاد المنتجة للنفط، والتي شهدت احتجاجات شعبية في مايو الجاري للمطالبة بحل مشاكلها الملحة، وأهمها البطالة والفقر، لتمتد بعدها إلى ولايات أخرى من بينها الكاف والقيروان وسيدي بوزيد والقصرين.
وبالمثل، شهدت مدينة بن قردان على الحدود مع ليبيا احتجاجات، في يناير 2017، للمطالبة بتنمية المنطقة، وتذليل العراقيل التي تسببت في شلل معبر "رأس جدير" الحدودي مع ليبيا. وفي تصعيد مفاجئ لهذه الاحتجاجات، اندلعت مواجهات بين سكان المدينة وقوات الأمن، وذلك بالتزامن مع تنظيم عدة جمعيات، من بينها الاتحاد العام التونسي للشغل، إضرابًا عامًّا في المدينة.
وتعد ولاية قفصة إحدى الولايات الأخرى التي شهدت توترًا مستمرًّا في الأشهر الماضية، حيث تمثل المركز الرئيسي لإنتاج الفوسفات، وذلك بسبب احتجاج سكان الولاية على تفاقم مشكلة البطالة بها. وفي شهري أغسطس وأكتوبر 2016، توقف إنتاج الفوسفات مرات عديدة بسبب احتجاجات العاطلين عن العمل للمطالبة بتوفير فرص عمل بشركات الفوسفات المحلية.
جذور الأزمة:
تعود جذور الأزمة إلى عددٍ من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الفجوة التنموية: ساهم نمط التنمية الاقتصادية خلال العقد الماضي في خلق تفاوتات كبيرة بين المناطق الساحلية وبقية أنحاء البلاد. وبحسب البنك الدولي، فإن المناطق الساحلية استحوذت على حصة أكثر من 65% من الاستثمارات العامة منذ عام 2000 وحتى الآن، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى 20% في ولايات سيدي بوزيد وسليانة والقصرين وبعض مناطق الجنوب مقارنةً مع 16% على المستوى الوطني. يضاف إلى ذلك ضعف البنى التحتية الأساسية من الطرق والكباري والمستشفيات وغيرها بالمناطق السابقة، وهو ما أدى، من دون شك، إلى تباطؤ التنمية الاقتصادية بها.
2- ضعف الأداء الاقتصادي: على الرغم من جهود الحكومة في الفترة الماضية لإنعاش الاقتصاد، إلا أنها لم تُسهم بدرجة كافية في تلبية طموحات المواطنين بتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية المنشودة. وواقع الأمر أن أداء الاقتصاد لم يكن على ما يرام في السنوات الماضية، بسبب تصاعد التهديدات الإرهابية من ناحية، والإضرابات والاحتجاجات من ناحية أخرى، وهو ما تسبب في تراجع القطاعات الرئيسية مثل السياحة والفوسفات وغيرها، بما تعذر معه تقليص معدلات البطالة والفقر بشكل ملموس.
وفي ضوء الظروف السابقة، حقق الاقتصاد نموًّا محدودًا بنسبة 1% في عام 2016، في مقابل نسبة نمو 1.1% في عام 2015. ويُشير البنك الدولي في توقعاته الأخيرة حول أداء الاقتصاد، إلى أن المحك الرئيسي لاستعادة النمو الاقتصادي المرتفع هو تعافي القطاعات الاستراتيجية، إلى جانب تحسن مناخ الأعمال، واستعادة الاستقرار الاجتماعي والأمني، وحينئذ يُمكن أن يرتفع معدل النمو الاقتصادي تدريجيًّا إلى 2.8% و3.2% في عامي 2018 و2019 على التوالي.
3- نمط الإصلاحات الاقتصادية: تُبدي الكثيرُ من الأطراف، بما فيها الأحزاب والمنظمات غير الحكومية والاتحادات العامة، معارضة واسعة لخطة وآليات الإصلاح الاقتصادي التي طرحتها الحكومة في الفترة الماضية. ومن أكثر هذه الآليات إثارة للجدل بين الأوساط الشعبية، إجراءات التقشف الحكومي وخطط خصخصة بعض المؤسسات الحكومية، إلى جانب مشروع المصالحة الاقتصادية الذي يُناقشه البرلمان في الوقت الراهن.
وترى الأطراف السابقة أن المبادرات التي تطرحها الحكومة الحالية تكرس من الخيارات الاقتصادية للحكومات السابقة، بما لا يصب في صالح تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية المنشودة، علاوةً على أنها تكرس من حالات عدم المساوة، وعدم تكافؤ الفرص الاقتصادية، إلى جانب ضعف الحوكمة الاقتصادية.
تداعيات اقتصادية:
أدت الاحتجاجات المتكررة في تونس على مدار الأشهر الماضية إلى عدد من التداعيات الاقتصادية التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- خسائر اقتصادية: تسببت الاحتجاجات المتكررة في خسائر كبيرة للقطاعات الاستراتيجية بالبلاد، وأهمها الفوسفات والنفط. فعلى صعيد قطاع الفوسفات، أدت التوترات الأمنية والاجتماعية في ولاية قفصة إلى تراجع إنتاج الفوسفات في حدود 68.5% ليصل إلى 2.3 مليون طن في عام 2015 مقابل 7.3 ملايين طن في عام 2010، ليتسبب ذلك في حجم خسائر في القطاع حوالي 2.5 مليار دولار خلال الفترة من عام 2011 وحتى عام 2015.
وبالنسبة لقطاع النفط، فقد أسفرت الاحتجاجات الأخيرة في ولاية تطاوين وغيرها عن توقف عدد من شركات النفط عن الإنتاج، مثل شركة "بيرنكو" للطاقة الأنجلو فرنسية، وشركة "سيرينوس إنرجي" الكندية، كما قامت شركة "أو إم في" النمساوية بتسريح نحو 700 عامل ومتعاقد غير أساسي من عملياتها في جنوب تونس كإجراء احترازي.
وعلى مدار العام الماضي، تأثر إنتاج البلاد من النفط بسبب الاحتجاجات المستمرة وضعف الاستثمارات في القطاع. وبحسب وزيرة الطاقة والمناجم هالة شيخ روحه، فقد هبط إجمالي إنتاج البلاد من النفط إلى 44 ألف برميل يوميًّا في عام 2016 من 100 ألف برميل يوميًّا في عام 2010، وبالتوازي هبطت الإيرادات النفطية إلى 413.96 مليون دولار مقابل 1.24 مليار دولار خلال نفس الفترة الماضية.
2- تباطؤ الإصلاحات الاقتصادية: من دون شك، فإن الاحتجاجات السابقة قد تلعب دورًا مؤثرًا في الضغط على الحكومة والبرلمان لوقف وتجميد كثير من الخطوات لإصلاح الاقتصاد في الفترة المقبلة، وذلك على غرار استجابتها في السابق لضغوط الاتحاد العام للشغل في عام 2016 بعدم تجميد زيادات أجور القطاع العام، حيث هدد الأخير بتنظيم إضراب واسع أكثر من مرة لوقف الإجراءات التقشفية للحكومة.
معالجة محدودة:
بذلت الحكومة جهودًا واسعة لاحتواء الاحتجاجات النابعة من مطالب تنموية، والتي ارتكزت على محورين أساسيين: الأول، توفير فرص عمل لسكان الولايات الحدودية بالشركات المحلية، حيث تعهدت الحكومة، في سبتمبر 2016، بتوفير 2800 فرصة عمل في ولاية قفصة. والثاني، تخصيص أموال إضافية لتنمية المناطق الحدودية. وفي هذا الصدد أقرت الحكومة برنامجًا في عامي 2016 و2017 لتطوير شبكات المياه والصرف الصحي بمدينة بن قردان بقيمة تصل إلى 40.7 مليون دولار.
ورغم هذه الجهود، إلا أن المعضلات السابقة تتطلب من الحكومة طرح معالجة اقتصادية جديدة للمشكلات الراهنة، تضع في أولويتها دعم القطاعات كثيفة العمالة، وتعزيز المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بجانب دعم الاستثمارات الاجتماعية في المناطق الحدودية، وذلك من أجل تقليل الفجوة التنموية وخلق مزيد من الفرص وتقليل مستويات الفقر في البلاد.