تتصاعد أزمة الهجرة إلى أوروبا يوماً بعد يوم، في ظل موجة تدفقات هجرة غير نظامية، ترسو على الشواطئ الأوروبية، قادمة من شمال إفريقيا، وسط انقسام أوروبي بين حكومات الدول خاصة فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا وغيرها. وفي هذا السياق، فقد عقدت أكثر من قمة خلال سبتمبر، سواءً القمة التي عقدت في الفترة من نهاية سبتمبر حتى أوائل أكتوبر 2023، أم قمة "ميد9"، وهو تحالف يضم تسع دول متشاطئة على البحر الأبيض المتوسط وجنوب أوروبا، وكذلك قمتا مالطا وغرناطة.
سياق الأزمة:
تعود الأزمة الحالية المُتعلقة بالهجرة إلى أوروبا، إلى تدفق ما يقرب من 8500 شخص عبر المتوسط إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، والتي يقطنها حوالي 7000 مواطن إيطالي، وهو ما أثار التخبط والخلاف بين الحكومات الأوروبية وبعضها بعضاً على آلية تقاسم الأعباء، وبين الحكومات والأحزاب المُعارضة في كل دولة. وفي سياق ذلك، يمكن الإشارة إلى الآتي:
1. صعود أحزاب اليمين في دول أوروبية: شهدت القارة الأوروبية خلال عامي 2022 و2023 صعوداً واضحاً لتيار اليمين المتطرف تمثل إما في توليه مسؤولية الحكم في دول مثل إيطاليا، أو الاشتراك فيه في فنلندا، أو التحكم في شرعية الحكومات في السويد، وبالطبع كانت -ولا تزال- قضية الهجرة الأجندة الرئيسية لليمين المتطرف. وقد تزامن ذلك مع زيادة حدّة الاضطرابات في الشرق الأوسط ومنطقة الساحل والصحراء في إفريقيا، هذا إلى جانب استمرار تفاقم الأوضاع في سوريا، والصراع في السودان، الأمر الذي أسهم في تضاعف معدلات الهجرة واللجوء إلى الدول الأوروبية. في ظل وجود تيار يميني -سواءً أكان حاكماً أم مشاركاً في الحكم أو ذا نفوذ قوي- مناهض للهجرة ويرفض الدعوات الخاصة بتغيير طريقة التعامل مع ملف اللاجئين.
2. الاتفاق مع تونس: أعلن الاتحاد الأوروبي، في 16 يوليو 2023، عن توصله لاتفاق مع تونس لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية، وبموجب هذا الاتفاق، تحصل تونس على 105 ملايين يورو تخصص لملف الهجرة، ومُساعدة بقيمة 150 مليون يورو لصالح موازنة الدولة التونسية، مع إمكانية منح قروض طويلة الأجل تصل لـ900 مليون يورو. ونتيجة لموقف الترويكا الأوروبية (البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية)، ورفض بعض الأحزاب الاشتراكية، لم تمنح تونس أي جزء من المتفق عليه بموجب الاتفاق. وقد فسر البعض الموقف الأوروبي في ضوء رفض تونس شروط صندوق النقد الدولي، الذي يطالب بإصلاح مؤسسي ورفع الدعم عن الكثير من السلع، ومع تفاقم الأوضاع في لامبيدوزا الإيطالية وغيرها من مراكز استقبال اللاجئين في أوروبا، بدأت الدعوة مُجدداً تتكرر للتواصل مع تونس ومنحها ما اتفق عليه في يوليو 2023.
3. تزايد تدفقات المهاجرين واللاجئين: تُشير التقارير الأوروبية إلى أن 52% من اللاجئين الذين وصلوا إيطاليا خلال الخمسة أشهر الأولى من العام جاءوا من تونس، فيما أتت النسبة المُتبقية من ليبيا، وفي المُجمل بلغت أعداد الوافدين حوالي 136 ألف في الفترة ما بين يونيو 2022 ومايو 2023. كما بلغت أعداد المهاجرين واللاجئين (بداية من يناير وحتى الأسبوع الثالث من سبتمبر 2023) حوالي 130 ألف شخص وصلوا إيطاليا قادمين من البحر المتوسط، خاصة من دول: غينيا، وكوت ديفوار، وتونس. وفي 22 سبتمبر، أعلنت وكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات"، أن طلبات اللجوء زادت في الاتحاد الأوروبي في يونيو بنسبة 25% مقارنة بنفس الفترة العام الماضي، لتبلغ حوالي 83 ألف طلب لجوء. وبحسب "يوروستات"، فإن دول: ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا استقبلت 75% من طلبات اللجوء.
ومن جهة أخرى، فقد نشرت وكالة الأمم المتحدة للاجئين تقارير اللجوء عن شهر سبتمبر 2023، وبحسب الموقع الرسمي للوكالة في 2 أكتوبر 2023، قد بلغ عدد اللاجئين في اليونان 67.407 لاجئين، أما عن إيطاليا، فبلغت الأعداد حتى نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر، تقريباً 133.825 لاجئاً عن طريق البحر، عن الفترة التي بدأت في يناير 2023، وجاءت في مقدمة الدول غينيا 14% تليها كوت ديفوار 13% ثم تونس 11% ومصر7%. وهو ما يعني أن تونس ورقة ضغط مزدوجة فهي ثالث دولة من دول المنشأ (وقد كانت الأولى في نفس الفترة عام 2022 بنسبة 22% تليها مصر بنسبة 21%) والممر الأهم حالياً من دول العبور إلى الشواطئ الأوروبية.
الخلافات والتعقيدات:
انقسمت الدول الأوروبية تجاه تطور أزمة اللاجئين، ولاسيما تلك المُتعلقة بلامبيدوزا، سواءً من حيث الاستجابة أم الموقف العام لتقاسم الأعباء، ولم تتوقف الأزمة عند الجزيرة الإيطالية، بل امتدت في الحدود بين فرنسا وبريطانيا، وألمانيا وبولندا، كما يلي:
1. التوتر بين ألمانيا وإيطاليا: رفضت برلين استقبال وافدين جدد. وفي الوقت الذي تزدحم مراكز الاستقبال في اليونان وإيطاليا، فإن هناك مطالبات داخل ألمانيا بترحيل 304 آلاف لاجئ من بينهم حوالي 248 ألف يحملون إذناً مؤقتاً للإقامة. وقد أدى ذلك الأمر إلى توتر في العلاقة بين ألمانيا وإيطاليا، وتبرر ألمانيا موقفها على خلفية أن إيطاليا لم تلتزم بشروط اتفاقية دبلن، وبالتالي لم تستقبل برلين اللاجئين المفترض قبولهم من جنوب أوروبا، والمقدرين بـ3500 لاجئ، تم استقبال 1700 منهم فقط، وفق آلية التضامن الطوعي. بخلاف موقف ألمانيا تجاه إيطاليا، فإنها تتحرك بمفردها عبر شراكات مع ست دول –من داخل أوروبا وخارجها- للتعاون في مجال الهجرة، حيث بدأت بتوقيع اتفاق مع الهند ديسمبر 2022، ودخل حيز التنفيذ مارس من نفس العام، وقد أجرت مفاوضات في هذا الشأن مع دول مثل جورجيا ومولدوفا وكينيا وكولومبيا وأوزبكستان وقيرغيزستان.
2. الخلاف البريطاني الفرنسي حول قوانين الهجرة: تمثل محافظة دو كاليه الفرنسية، القريبة من بحر المانش نقطة عبور مهمة للاجئين للوصول من فرنسا لبريطانيا، ولطالما مثّلت الحدود البحرية وعمليات تهريب اللاجئين أزمة بين الدولتين، ولكل منهما قانون لمكافحة الهجرة غير الشرعية لا يلقي قبولاً محلياً أو دولياً. فبالنسبة لبريطانيا فقدت انتقدت الأمم المتحدة، في بيان لها في 18 يوليو 2023، مشروع قانون الهجرة البريطاني، على خلفية وجود بنود تضمن منع المهاجرين الذين جاءوا بريطانيا بشكل غير قانوني، من طلب اللجوء. أما عن التشريع الفرنسي فهو أيضاً لا يحظى بتوافق القوى في مجلس النواب الفرنسي وعلى رأسها اليسار والمنظمات الحقوقية، كون مشروع القانون سوف يُثقل كاهل طالبي اللجوء، ولاسيما الذين لا يملكون أوراق خاصة بالهجرة.
ومن الجدير بالذكر، أنه يوجد بين بريطانيا وفرنسا عدّة اتفاقيات لتنظيم ومكافحة الهجرة كان آخرها الاتفاق الذي وقع، في 14 نوفمبر 2022، وبموجبه تدفع الحكومة البريطانية لفرنسا خلال عامي 2022 و2023، حوالي 72.2 مليون يورو، غير أن هذا الاتفاق لا يبدو حتى الآن ناجحاً، فقد وصل من يناير وحتى يونيو 2023 حوالي 10 آلاف لاجئ عبر قناة المانش. حاولت بريطانيا أيضاً استخدام استراتيجية الترحيل لدولة ثالثة خارج أوروبا وهي رواندا، لكن خطط الحكومة قوبلت بالفشل بعد رفضها من قبل محكمة الاستئناف البريطانية في 29 يونيو 2023.
قمم وحلول:
تعددت القمم والمبادرات التي ناقشت أزمة اللاجئين في شهر سبتمبر وبداية أكتوبر 2023، كما يلي:
1. خطة فون ديرلاين: استجابت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في 17 سبتمبر 2023، لطلب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بزيارة جزيرة لامبيدوزا، وهناك أعلنت عن خطة مكونة من 10 نقاط لمواجهة الأزمة، ليس فقط في الجزيرة الإيطالية بل في الاتحاد عموماً، وبرزت أهم نقاط خطة فون ديرلاين في تعزيز الدعم المقدم لإيطاليا عبر التعاون مع خفر السواحل وتفعيل نظام بصمات الأصابع، بالإضافة إلى تسريع الدعم المالي لتونس التي تنطلق منها غالبية المهاجرين، والتحاور مع أبرز الدول التي يأتون منها مثل غينيا وساحل العاج والسنغال وبوركينا فاسو، لإعادتهم في حال لم يستوفوا شروط اللجوء. اللافت للنظر في خطة المفوضية بنقاطها العشر أنها إعادة لتكرار الاتفاقات المرفوضة من بعض الدول الأوروبية والتي تنفذ في معظم الأحيان.
2. قمة مالطا: اجتمع زعماء وممثلو تسع دول تطل على المتوسط وجنوب أوروبا، وهي: كرواتيا وقبرص وفرنسا واليونان وإيطاليا ومالطا والبرتغال وسلوفينيا وإسبانيا، في 29 سبتمبر 2023، في مالطا، لمعالجة أزمة الهجرة، وقد طالبت رئيسة الوزراء الإيطالية بوجود حلول "هيكلية" من الكتلة الأوروبية للتعامل مع أزمة اللاجئين، كما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى "رد أوروبي موحد"، كما حث على التضامن مع إيطاليا، وهو ذات الأمر الذي كرره باقي القادة الذي حضروا القمة.
3. لقاءات أكتوبر: التقى سفراء دول الاتحاد الأوروبي، في 4 أكتوبر 2023، في بروكسل، وتوصلوا لاتفاق حول نص لإصلاح أزمة الهجرة، وذلك قبل القمة التي عقدت في غرناطة بإسبانيا في 6 أكتوبر 2023. ويركز النص بصفة رئيسية على وجود استجابة مشتركة بين دول الاتحاد حال وصول أعداد كبيرة من اللاجئين مثل ما حدث بين عامي 2015 و2016، على أن يسمح بزيادة مدة احتجاز اللاجئين عند الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي لفترة تصل إلى 40 أسبوعاً، مع وجود لائحة إلزامية تضامنية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حين تتعرض إحدى الدول لوضع استثنائي. ورغم أن الاتفاق المشار إليه يمثل تهديداً لأمن اللاجئين وسوف يعرض على البرلمان الأوروبي، لكنه رفضته بولندا والمجر الدولتين اللتين تحكمها أحزاب قومية شعبوية، واستكمالاً للقاء بروكسل، انعقدت قمة غرناطة في 6 أكتوبر 2023، حيث أبدى رئيس الوزراء البولندي رفضه للاتفاق مجدداً مصرحاً: "لسنا خائفين من الإملاءات التي تأتى من بروكسل وبرلين"، واعتبر نظيره المجري فيكتور أوربان أن الاتفاق بمثابة انتهاك باسم القانون.
وفي التقدير يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي لا يملك آلية تضامنية كافية لعلاج أزمة الهجرة غير الشرعية، فمن جانب ليس هناك وفاق على نص مقترح، فالنصوص التي طرحت والقمم التي عقدت طوال شهر سبتمبر وخلال الأسبوع الأول من أكتوبر، أغلبها يدور في فلك ميثاق الهجرة المُقترح في 2020، ومُستجداته في يوليو 2023. ومن جانب آخر تزداد أوضاع الدول المرسلة للاجئين سوءاً في شمال إفريقيا وغربها، والدول الأخرى التي بها صراعات وحروب كسوريا وغيرها من بقاع الأزمات، مما ينذر باستمرار اللجوء والنزوح خارج الأوطان، وفي ظل تنامي صعود اليمين المتطرف تزداد السياسات المهددة لسلامة وأمن اللاجئين.