دخلت النيجر، في السادس والعشرين من يوليو 2023، مرحلة بالغة الخطورة بعد أن قام الحرس الرئاسي باحتجاز الرئيس محمد بازوم، ما مهد لإعلان رئيس الأركان انضمام القوات المسلحة لقوات الحرس الرئاسي في تحركها، ليتم إعلان تولي "المجلس الوطني لحماية الوطن" إدارة شؤون البلاد برئاسة الجنرال عبدالرحمن تشياني، قائد الحرس الرئاسي، وبعضوية خمسة عشر عضواً. وبجانب ردود الأفعال المحلية المتباينة، ونتيجة للأهمية الكبيرة للنيجر في ترتيبات الأمن الإقليمي في الساحل الإفريقي؛ استدعى الحدث استجابات دولية عديدة تباينت مقارباتها لأزمة النيجر من حيث الغايات والأدوات والفاعلية. ويستكشف هذا التحليل المقاربات الدولية والإقليمية التي طُرحت لمعالجة أزمة النيجر بغرض تقييمها واستشراف فرص نجاحها.
المقاربة الأولى: ترقب المكاسب
وفق حسابات المجموعة العسكرية التي أطاحت بالرئيس بازوم، يقوم مسار التحرك على تكرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو وغينيا من الإطاحة بحكومات مُنتخبة وتشكيل مجالس عسكرية تدير شؤون البلاد، مع تدعيم وضعها بخطوات مبكرة تعكس تغييراً جذرياً في التحالفات الخارجية. فالثابت أن العوامل الداخلية كانت هي الحاسمة في ظهور التغيرات الأخيرة في النيجر، بيد أن هناك أطرافاً عديدة تترقب الاستفادة من هذه التغيرات، وفي مقدمتها روسيا التي بادرت بمواقف رسمية نفت فيها ضلوعها في الإطاحة ببازوم، إلا أنها رفضت تدخلات القوى الدولية خاصة بالأداة العسكرية. هذا بجانب الموقف الصيني المُشابه والراغب في إحكام السيطرة على قطاع الطاقة في النيجر بعد تقدم كبير أُعلن عنه في يونيو الماضي في قطاعي البترول واليورانيوم.
وتراهن الأطراف المترقبة على صمود الحكم الجديد في النيجر، وقدرته على تمرير قرارات جذرية بتقييد الحضور الفرنسي عسكرياً واقتصادياً؛ وذلك نتيجة عدد من العوامل أهمها تنامي التيار الشعبي المناهض لعلاقة بازوم الوثيقة بباريس، والذي اكتسب زخماً كبيراً بعد أن قام برلمان النيجر في فبراير 2022 بتمرير تشريع جديد يسمح بوجود قوات أجنبية، والذي حوّل النيجر إلى الوجهة الرئيسية للقوات الفرنسية والأوروبية المُنسحبة من مالي. وهو القرار الذي أطلق سلسلة من الاحتجاجات، قادها اتحاد النقابات العمالية لرفض أشكال الوجود العسكري الأجنبي كافة في النيجر.
كما دعم هذا التوجه مواقف عدد من القوى الإقليمية ذات العلاقات الوثيقة بروسيا والصين، والمُستفيدة من تحجيم الحضور الفرنسي في الساحل الإفريقي. فقد بدا الموقف الجزائري حاسماً بشأن رفض التدخل العسكري، بجانب التضامن الذي تقدمه الحكومات العسكرية في كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا والذي يأتي كنواة لظهور "محور" إقليمي جديد يجمع عدداً من دول الساحل المُتشابهة في بنية الحكم وفي توجهاتها الخارجية.
لكن في الوقت نفسه، تظهر مجموعة من العوامل التي تُعقد فرص نجاح هذا المسار؛ أهمها الوضع الاقتصادي المُعقد للنيجر كواحدة من أكثر دول العالم فقراً، ما يزيد من تضررها من العقوبات الاقتصادية خصوصاً تلك المفروضة من دول الجوار ولاسيما نيجيريا. فضلاً عن تراجع فرص الحصول على دعم دولي مؤثر خاصة من جانب روسيا التي قد لا تتمكن من تكرار تجربتها في مالي بملء الفراغ الأمني الناشئ عن خروج القوات الفرنسية. ففي الوقت الراهن، تبدو موسكو أكثر إنهاكاً من استمرار الحرب الأوكرانية، خاصة بعد تنامي التوترات بين القوات المسلحة الروسية ومجموعة فاغنر، ما قد يُعقد أي تفكير روسي في تقديم عون مؤثر عاجل لحكام النيجر الجدد.
المقاربة الثانية: التدخل العسكري
منذ الساعات الأولى للأزمة الحالية في النيجر، ظهرت مقترحات جادة بشن حملة عسكرية لتحرير الرئيس بازوم واستعادة الحكم الديمقراطي في البلاد، وهي المقترحات التي دعمها في البداية عدد من الدول الرئيسية في منظمة "إيكواس". ويدعم هذا المسار اتجاه فرنسا لتبني مواقف أكثر تشدداً من سوابق إقليمية أخرى بسبب محدودية خياراتها في المرحلة الحالية بعد أن تحولت النيجر في العامين الأخيرين إلى نقطة التجميع الرئيسية للقوات المُنسحبة من مالي وبوركينا فاسو.
وهناك أيضاً الدوافع الكبيرة للتدخل العسكري لدى عدد من دول غرب إفريقيا، وعلى رأسها نيجيريا التي يسعى رئيسها، بولا تينوبو، في الشهور الأولى لرئاسته لتحقيق عدد من المكاسب أبرزها استعادة وضع بلاده كقائد إقليمي. ويقدم التدخل العسكري في النيجر فائدة مزدوجة لتينوبو عبر استعراض التفوق العسكري لنيجيريا إقليمياً، والظهور بمظهر المدافع القوي عن الديمقراطية دولياً. وعلى الرغم من إعلانه عدم نيته الترشح لولاية ثالثة في الانتخابات الرئاسية المُقررة في فبراير 2024، يسعى الرئيس السنغالي، ماكي سال، بموقفه المتشدد من إزاحة بازوم، إلى التصدي لتيار المعارضة الذي يقوده عثمان سونكو، المناهض للحضور الفرنسي في السنغال وغرب إفريقيا.
وبينما تتعدد الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لمنطق التدخل العسكري في النيجر، يواجه هذا المسار عقبات حقيقية؛ أبرزها غياب التوافق داخل منظمة "إيكواس" على مستوى الدول، في ظل معارضة القرار من جانب مالي وغينيا والرأس الأخضر، والموقف غير الحاسم لغانا وليبيريا وسيراليون، فضلاً عن الانقسام على مستوى أجهزة المنظمة بغياب تأييد برلمان "إيكواس" للخيار العسكري وإطلاقه مساراً دبلوماسياً جديداً.
وعلى المستوى اللوجستي، تتضاءل مؤشرات الخيار العسكري تدريجياً، في ظل عدم قدرة فرنسا بمفردها على دعم التدخل عسكرياً ومالياً، هذا بجانب تحولات الموقف النيجيري الذي بدا بمرور الوقت أكثر تردداً بشأن التدخل لأسباب داخلية؛ أبرزها عدم جاهزية القوات المسلحة المُثقلة بأعباء المواجهة المستمرة للإرهاب في الشمال الشرقي، ولنشاط تنظيمات الجريمة المنظمة المتنامي في الوسط والتي خلفت أحدث هجماتها 23 قتيلاً من العسكريين في محيط مدينة زنجيرو منتصف أغسطس 2023، وتنامي حدة نشاط التيارات الانفصالية في الجنوب الشرقي.
ويُضاف إلى ذلك، التغييرات الجذرية في بنية القيادة العسكرية العليا النيجيرية التي أُقرت في الثالث والعشرين من يوليو الماضي، وشملت تعيين كريستوفر جوابين موسى رئيساً لأركان القوات المسلحة، وتعيين تاوريد لاجباجا رئيساً لأركان القوات البرية، بجانب الرأي العام النيجيري غير المؤيد للتدخل العسكري في الولايات الشمالية في ظل التداخل السكاني الكبير بين نيجيريا والنيجر بانتشار جماعتي الهوسا والفولاني على جانبي الحدود، ما تجسد في عدم تأييد مجلس الشيوخ النيجيري لقرار التدخل العسكري دون استنفاد الخيارات الدبلوماسية كافة.
وعلى الرغم من أهمية قرار بنين بتأييد تدخل "إيكواس" عسكرياً، باعتبار قواعدها العسكرية الشمالية تشكل نقطة الانطلاق المثلى لعملية برية تستهدف عاصمة النيجر نيامي، فإنه لا يمكن التعويل على نجاح عملية عسكرية لقوات من السنغال وساحل العاج وبنين في تغيير الأوضاع بالقوة وإعادة تنصيب الرئيس بازوم، حيث يُرجح أن تنتج أوضاعاً فوضوية على الأرض، قد تُحول الساحل الإفريقي لساحة لحروب دولية متعددة الأطراف، وصراعات إثنية ممتدة.
المقاربة الثالثة: المثالية البراغماتية
تشكل النيجر مركزاً رئيسياً للحضور العسكري الأمريكي في إفريقيا، فبجانب قاعدتين مستدامتين في العاصمة نيامي وفي مدينة أغاديز، استفادت الولايات المتحدة من النفاذ لقواعد عسكرية أخرى في أرليت وديركو وديفا ووالام. وهذه الأهمية الكبيرة للنيجر في الحسابات الأمريكية، دفعت واشنطن لتبني سياسة حذرة، وصفها جون بيتر فام، المبعوث الأمريكي السابق للساحل الإفريقي، بأنها تسير وفق منطق "المثالية البراغماتية" "Pragmatic Idealism".
فالولايات المتحدة أكدت دعمها المُبكر للرئيس بازوم، وللديمقراطية في النيجر، وللجهود الدبلوماسية الرامية لاستعادة النظام الدستوري في النيجر في أقرب وقت، إلا أنها في الوقت نفسه تجنبت وصف ما جرى بالانقلاب، واستخدمت مصطلح "الاستيلاء العسكري على السلطة" "Military Takeover". ويأتي هذا الموقف نتيجة رغبة واشنطن في تجنب القطيعة الكاملة مع حكام النيجر الجدد، في ظل استضافة النيجر حالياً 1100 عنصر عسكري أمريكي، مع إنفاق إدارة الرئيس جو بايدن ما يناهز 300 مليون دولار لدعم القطاعين العسكري والأمني في النيجر. وفي حال تبني الولايات المتحدة المنطق المتشدد مع النيجر، ستكون الإدارة الأمريكية مُلزمة بقطع أشكال التعاون كافة مع حكومة النيجر بموجب نص المادة 7008 من قانون المخصصات السنوية لوزارة الخارجية الصادر في ديسمبر 2022، وهو ما تخشى واشنطن أن يتسبب في الإخلال بالتوازن الاستراتيجي في الساحل الإفريقي، ويخلق فراغاً قابلاً للاستغلال من جانب قوى دولية مناوئة أبرزها روسيا.
وعلى هذا الأساس، كثفت الولايات المتحدة من تحركاتها الدبلوماسية بإيفاد فيكتوريا نولاند، القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية، لنيامي من أجل تقييم الأوضاع عن قرب والتفاعل مع المجلس العسكري الحاكم، بالتوازي مع تسمية كاثلين فيتزجيبون سفيرة جديدة لواشنطن في نيامي، ما نفى أي نية أمريكية لقطع التعامل مع النيجر بغض النظر عن طبيعة الأوضاع السياسية الداخلية.
وتضمن هذه المقاربة قدرة الولايات المتحدة على توجيه الأوضاع في النيجر إلى مآلات آمنة، بالاستناد إلى مجموعة من الأدوات التي تجمع بين العقوبات والمكافآت. فلا تزال واشنطن تمتلك أدوات عديدة للضغط، حيث بادرت بالإعلان عن تعليق مساعدات عسكرية تفوق قيمتها 100 مليون دولار، وهو ما يمكن أن يؤثر على قدرة الحكم العسكري في النيجر على الصمود أمام تحديات جسيمة؛ أبرزها النشاط الإرهابي في غرب البلاد، والذي أُضيف إليه تجدد فرص نشوب صراع انفصالي في الشمال مع ظهور محاولات خارجية جادة لتأجيج ملف الطوارق.
لكن في حال استجابة الحكم الجديد في النيجر بصورة إيجابية، يمكن لهذه المقاربة أيضاً أن تساعده على مواجهة تحدياته الأمنية المُلحة باستمرار إمداده بالمساعدات العسكرية والأمنية بصورة مباشرة، أو عبر الوسيط التركي، العضو الرئيسي في حلف "الناتو"، والمرتبط مع النيجر باتفاقية للتعاون العسكري تم توقيعها عام 2020، وبما يضمن ألا يتسبب التخارج العسكري الفرنسي في تحولات استراتيجية مضرة.
من كل ما سبق، يبدو أن القوى الدولية والإقليمية الأكثر اهتماماً بالأوضاع في النيجر والساحل الإفريقي قد تبنت مقاربات متباينة إزاء الأزمة الراهنة، بيد أن المقاربة الأمريكية تبدو أكثر ملاءمة وتوازناً، الأمر الذي يُقلص كثيراً من فرص المقاربات الحدية الأخرى. لكن يظل العامل الحاسم في تحديد مآلات الأزمة القائمة في النيجر هو اتجاه وسرعة استجابة الحكم الجديد للبيئة الخارجية الضاغطة، إذ لا يمكن استبعاد التدخل العسكري نهائياً من دون التقدم في تأسيس شراكة عسكرية مدنية موسعة، على نحو ما تجسد بصورة أولية في إسناد رئاسة الحكومة إلى الاقتصادي علي الأمين زين، والإعلان العاجل عن خطة انتقالية قصيرة الأجل تنتهي بانتخابات تعددية، في تكرار لسابقتين ناجحتين في تاريخ النيجر القريب عامي 1999 و2011.