أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

ناقوس خطر:

الانعكاسات "قصيرة المدى" لخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة

14 أغسطس، 2023


في صدمة جديدة لأكبر اقتصاد في العالم، خفضت وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من "AAA" إلى "AA+" مع نظرة مستقبلية "مستقرة"، في ظل تعقيد المشهد المالي الأمريكي خلال الفترة الماضية، وتدهور معايير الحوكمة، مع توقعات باستمرار التدهور المالي خلال السنوات الثلاث المقبلة. ويأتي هذا الخفض بعد مرور أكثر من عقد زمني على اتخاذ خطوة مماثلة من قِبل وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" في عام 2011 بسبب الخلاف الحاد حينها بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن رفع سقف الدين العام.

وقد أعقب خفض "فيتش" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة صدور عدة قرارات مماثلة قد تعكس تراجع مؤشرات الاقتصاد الأمريكي، ومنها قرار آخر لـ"فيتش"، في 4 أغسطس الجاري، بخفض تصنيف 11 من الأوراق المالية المرتبطة بالائتمان في الولايات المتحدة من "AAA" إلى "AA+"، وكذلك خفض تصنيف شركتي التمويل العقاري "فاني ماي" و"فريدي ماك" إلى "AA+". علاوة على ذلك، أعلنت وكالة "موديز"، في 8 أغسطس الجاري، خفض تصنيف 10 بنوك أمريكية، مع وضع 6 بنوك كبرى قيد المراجعة لاحتمال خفض تصنيفها، كما غيّرت نظرتها المستقبلية إلى "سلبية" لـ11 مصرفاً منها "كابيتال وان" و"سيتيزنز فاينانشال"؛ وذلك في ظل الضغوط المتزايدة التي تشهدها ربحية القطاع المصرفي، وعقب قرار الوكالة في مارس الماضي بخفض النظرة المستقبلية للنظام المصرفي الأمريكي إلى "سلبية" من "مستقرة" مع انهيار 3 بنوك حين ذاك وهي "سيليكون فالي" و"سيلفرجيت" و"سيجنتشر".

دوافع الخفض:

جاء قرار وكالة "فيتش" بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة مدفوعاً بعدة مُبررات تفسر دوافع اتخاذه، ويُمكن توضيحها على النحو التالي:

1- ارتفاع العجز الحكومي الأمريكي: استندت "فيتش" إلى توقعات ارتفاع عجز الموازنة العامة الأمريكية إلى حوالي 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2023 مقارنةً بنحو 3.7% العام الماضي، لتتباطأ وتيرة الارتفاع إلى 6.6% و6.9% خلال عامي 2024 و2025 على الترتيب في ظل تزايد احتمالية عدم اتخاذ أي إجراءات إضافية لضبط الأوضاع المالية العامة قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، بالتزامن مع ضعف الإيرادات الفدرالية وتزايد الانفاق الحكومي وارتفاع أعباء الفائدة. بالإضافة إلى ذلك، من المُتوقع أن تسجل حكومات الولايات والحكومات المحلية عجزاً بنسبة 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، بعد تحقيق فائض طفيف قدره 0.2% من الناتج العام الماضي.

2- تشدد السياسة النقدية: رفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس خلال أشهر مارس ومايو ويوليو 2023، مع توقعات بحدوث زيادة أخرى إلى نطاق 5.5% و5.75% بحلول سبتمبر المقبل. وخلال عام 2022، دفعت الولايات المتحدة فوائد قدرها 475 مليار دولار – حوالي 1.9% من الناتج - ليتضاعف هذا المبلغ إلى 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2033، وفقاً لتوقعات مكتب الميزانية بالكونغرس الأمريكي الذي يشير إلى أن الإنفاق على الفائدة سيحتل المرتبة الأولى في الميزانية الفدرالية بحلول عام 2051 متجاوزاً التأمين الاجتماعي، والرعاية الطبية، وغيرها من النفقات الحكومية.

3- صعود الدين الحكومي: بلغت نسبة الدين العام الأمريكي للناتج المحلي الإجمالي نحو 112.9% خلال العام الجاري، وهو مستوى أعلى من المُسجل قبل الجائحة عند 100.1% لعام 2019، مع توقعات بارتفاعه إلى 118.4% بحلول 2025 بسبب تزايد عبء خدمة الدين الناتج عن رفع الفائدة بشكل متتالٍ بهدف احتواء تسارع معدلات التضخم، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية الناتجة عن شيخوخة السكان.

4- تكرار الخلافات الحزبية حول سقف الدين: دخل قادة الكونغرس والبيت الأبيض في خلاف بداية هذا العام حول صياغة اتفاق لرفع سقف الديون الفدرالية البالغ نحو 31.4 تريليون دولار، والذي وصلت إليه الإدارة الأمريكية في يناير الماضي، ولهذا لجأت إلى الكونغرس ليسمح لها برفع سقف الدين. وهكذا بدأت مناورة سياسية اقتصادية بين قطبي السياسة في الولايات المتحدة انتهت في يونيو الماضي بالاتفاق على تعليق العمل بسقف الدين حتى عام 2025. وقوّض هذا الخلاف وقرارات اللحظة الأخيرة الثقة في الإدارة المالية الأمريكية، كما أنه عزز احتمالية تعرض الاقتصاد الأمريكي لمثل هذه الخلافات كل بضعة أعوام، مما يزيد من مخاطر التخلف عن سداد الديون.

5- ركود اقتصادي مُحتمل: من الممكن أن يؤدي تباطؤ الاستهلاك وضعف الاستثمار إلى دفع أكبر اقتصاد في العالم إلى ركود معتدل خلال الربع الرابع من عام 2023، والربع الأول من عام 2024، حيث تتوقع "فيتش" تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي للولايات المتحدة إلى 1.2% خلال العام الجاري مقارنةً بالنسبة المسجلة بالعام الماضي عند 2.1%، ليبلغ نحو 0.5% فقط بحلول العام المقبل.

تأثيرات قصيرة المدى:

نتجت عن قرار "فيتش" بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة أصداء فورية في الأسواق العالمية، خاصة الأسهم والذهب المرتبطين بشكل مباشر بشهية المخاطرة واللجوء لأصول الملاذ الآمن. وتتمثل أبرز تداعيات هذا القرار في الآتي:

1- معارضة الإدارة الأمريكية: أثار خفض التصنيف الائتماني ردة فعل غاضبة من البيت الأبيض الذي وصف هذا القرار بأنه "تعسفي" ويستند إلى بيانات غير حديثة باعتبار أنه جاء بعد شهرين من التوصل إلى اتفاق سقف الديون. واتهمت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، بأنها قادت نحو تدهور المعايير التي أخذتها "فيتش" في الاعتبار لتحديد تصنيفاتها. كما أبدت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، معارضتها الشديدة لقرار الوكالة، مؤكدة أن سندات الخزانة لا تزال الأصول الآمنة والسائلة الأبرز في العالم، وأن الاقتصاد الأمريكي قوي في جوهره.

2- تذبذب مؤشر الدولار الأمريكي: شهد مؤشر الدولار - الذي يقيس أداء العملة الأمريكية مقابل سلة من 6 عملات - تذبذباً بين الصعود والهبوط عقب صدور قرار "فيتش"؛ إذ تراجع خلال تعاملات يوم 3 أغسطس الجاري من أعلى مستوياته في 4 أسابيع مسجلاً 102.47 نقطة، ليستمر في التراجع حتى 7 أغسطس إلى 102.26 نقطة، ومُحولاً مساره عقب ذلك إلى الارتفاع إلى 102.53 نقطة في 9 أغسطس، وهذا ما يبينه الشكل التالي.


3- انحسار شهية المخاطرة: انخفضت الأسهم الأمريكية فور الإعلان عن خفض التصنيف الائتماني، مع تقييم المستثمرين لتبعات قرارات وكالات التصنيف الائتماني، وفي ظل استمرار موسم إعلان نتائج الأعمال الفصلية. إذ انخفض مؤشر "داو جونز" الصناعي بنسبة 0.45% أو 150 نقطة إلى 35065 نقطة، وانخفض "S&P 500" بنحو 0.55% عند 4478 نقطة، وسجل مؤشر "ناسداك" تراجعاً إلى 13909 نقاط، لتنهي بذلك المؤشرات الثلاثة سلسلة المكاسب التي امتدت لثلاثة أسابيع متتالية. وعلى الصعيد العالمي، انخفض مؤشر "ستوكس 600" الأوروبي بنسبة 1.3% ملامساً أدنى مستوياته منذ 18 يوليو الماضي، كما هبط مؤشر "نيكي" الياباني 2.3% في أكبر هبوط يومي منذ ديسمبر الماضي.

وعلى الرغم من استمرار الضغوط المفروضة على الأسواق المالية والتي سببت تراجعاً في أسعار الأسهم حتى الآن، فإنه يُمكن إرجاع ذلك لأسباب أخرى بخلاف خفض التصنيف الائتماني، مثل ترقب البيانات الاقتصادية وارتفاع المخاوف المتعلقة بآفاق النمو الاقتصادي العالمي، إلى جانب متابعة المستثمرين لنتائج أعمال الشركات.

4- زيادة الإقبال على الأصول الآمنة: تأثرت أسعار الذهب بتراجع مؤشر الدولار الأمريكي وانحسار شهية المخاطرة؛ إذ ارتفعت العقود الآجلة للذهب تسليم ديسمبر 2023 إلى 1976.1 دولار للأوقية في 4 أغسطس الجاري، وذلك في ظل تزعزع الثقة في الاقتصاد الأمريكي وضبابية الآفاق الاقتصادية العالمية، إلا أنه قد تخلى عن جزء من مكاسبه عقب ذلك بيوم واحد كما هو واضح في الشكل التالي. واستقر سعر أوقية الذهب عند 1959.4 دولار للأوقية في 9 أغسطس مما يبين أن المعدن الأصفر لم يستفد من عزوف المستثمرين عن الأصول المنطوية على مخاطر.


5- مواجهة الهيمنة الدولارية: يُمكن أن تستغل الاقتصادات الناشئة خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لكسر هيمنة الأخيرة على الاقتصاد العالمي، عبر الترويج لمبدأ استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري، وخفض حصة الدولار الأمريكي في الاحتياطي النقدي العالمي، والترويج لنُظم المدفوعات الموازية في ضوء التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي تواجه النظام المالي العالمي. بيد أن هذه المحاولات من المُرجح ألا تؤتي ثمارها في الأجلين المتوسط والطويل؛ لأن عملات تلك الدول غير احتياطية، وأسعار صرفها غير مستقرة، ومن الصعب تداولها في الوقت الحالي.

مُجمل القول إن قرار وكالة "فيتش" بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة جاء مدفوعاً بعدد من الأسباب المالية والاقتصادية، إلا أن تداعياته يُمكن وصفها بـ"قصيرة المدى"، حيث تأثرت الأسواق بشكل فوري وطفيف لتعود إلى طبيعتها من جديد عقب أيام من هذا القرار، خاصة في ظل حفاظ وكالتي التصنيف الائتماني الأخريين؛ "موديز" و"ستاندرد آند بورز"، على تصنيف الولايات المتحدة. ولهذا يُمكن وصف قرار "فيتش" بـ"دق ناقوس الخطر" للاقتصاد الأمريكي لإعادة النظر في المخاطر المصحوبة بزيادة معدلات الدين واتساع عجز الموازنة.