يواجه الاقتصاد العالمي الآن ثلاث مشكلات رئيسية؛ أولها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي اندلعت بسبب قيام الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بفرض رسوم جمركية على مجموعة متنوعة من واردات بلاده من الصين، وقيام الصين بالمثل. وثانيها مشكلة الديون التي ارتفعت معدلاتها إلى مستويات قياسية في الدول المتقدمة، وأصبحت سببًا في تزايد مخاوف عدم الاستقرار المالي في الدول الصاعدة، وما يزيد من خطرها تنامي مكون آخر ضمن مكونات الديون، وهو ديون الشركات التي تضاعفت خلال العقد الأخير، لتصل إلى 66 تريليون دولار في وقتنا الحالي. وثالث المشكلات هي معضلة التضخم، إذ في الوقت الذي يجب فيه على الحكومات زيادة الإنفاق وتخفيض أسعار الفائدة من أجل تحفيز الاقتصاد، إلا أنها مطالَبة -في الوقت ذاته- بمحاصرة التضخم الآخذ في الارتفاع، وهو ما لا يتسنى لها إلا بفعل ما هو معاكس لمتطلبات تحفيز الاقتصاد، أو بمعنى آخر تقليص الإنفاق ورفع أسعار الفائدة.
وعلى الرغم من المخاوف المثارة بشأن فرص النمو الاقتصادي العالمي عام 2019، بسبب هذه المشكلات الثلاث؛ فلا يزال لدى حكومات منطقة الشرق الأوسط خيارات وهوامش أوسع للمناورة. ولعل قوة أوضاع المالية العامة هي أحد أهم نقاط تميز اقتصاداتها. وهناك بالطبع جوانب أخرى تميز هذه الاقتصادات، وتُوسّع خيارات الحكومات في التعامل مع تلك التحديات، وتترك أثرًا إيجابيًّا على أدائها، فما هي هذه الجوانب؟ وكيف تستغلها الحكومات بما يخدم اقتصاداتها ويجنبها المشكلات في عام 2019؟
حجم الديون الحكومية:
تبلغ نسبة الديون الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 102.8% في الاقتصادات المتقدمة، في المقابل تساوي نحو 50.4% في الدول الصاعدة والنامية، وتزداد لدى بعض هذه المجموعة الأخيرة مخاطر التخلف عن سداد الديون (وفق صندوق النقد الدولي)؛ إلا أن الديون الحكومية لم تتجاوز 25.9% من الناتج في اقتصادات الشرق الأوسط حتى عام 2014. وبرغم ارتفاعها في السنوات التالية، بفعل تراجع أسعار النفط، فإنها لم تتجاوز 44.7% في عام 2018، لتحافظ دول المنطقة على موقعها، باحتفاظها بأقل نسب ديون حكومية إلى الناتج بين مجموعات الدول محل المقارنة، وذلك كما هو مبين في الشكل رقم (1).
استثمار خيار الاستدانة:
شهدت الفترة الماضية تحركات حثيثة من قبل دول منطقة الشرق الأوسط، لاستثمار ميزة انخفاض نسبة الدين الحكومي إلى الناتج، عبر التوسع في إصدار السندات والصكوك وغيرها من أدوات الدين، ولا سيما الموجهة للأسواق الخارجية، من أجل استثمار خيار الاستدانة لتلبية احتياجات التمويل المتزايدة باقتصاداتها. وقد قدرت مؤسسة "فيش" لإدارة الأصول إجمالي إصدارات الصكوك والسندات بالعملات الأجنبية في دول المنطقة بنحو 84 مليار دولار في عام 2018. وتوقعت المؤسسة تجاوز قيمة الإصدارات هذا المستوى في عام 2019. وشهد شهر يناير الماضي بالفعل إصدارات بقيمة 9.1 مليارات دولار في دول مجلس التعاون الخليجي بمفردها (وفق مؤسسة فيش لإدارة الأصول) ما يُجسد المشهد لبقية العام.
وتشير هذه المعطيات إلى أن اللجوء إلى إصدار السندات والصكوك وغيرها من أدوات الدين يمثل خيارًا مفضلًا لدى حكومات دول المنطقة في الوقت الراهن، وسيظل كذلك في المستقبل. وهذا الأمر يعد منطقيًّا من الناحية الاقتصادية، من جوانب عدة؛ أولها: تمتع دول المنطقة بأقل نسبة دين حكومي إلى الناتج، كما سبق التوضيح (انظر الشكل رقم 1). وثانيها: الإقبال الشديد على أدوات الدين المصدرة من دول المنطقة في الأسواق العالمية، وهذا ما اتضح من خلال الطلب الكبير على الإصدارات التي تمت خلال الفترة الماضية، والتي بلغت نسبة تغطية الاكتتاب بها معدل مرتين ونصف تقريبًا، وهو الأمر الذي يعود إلى أن هذه الأدوات مثلت ملاذًا آمنًا في وقت شهد اضطرابًا بالسوق العالمية لأدوات الدين في عام 2018، ولا سيما في ظل التصنيفات الائتمانية الجيدة لأدوات الدين الحكومي بالمنطقة ككل مقارنة بتصنيفات أدوات الدين بالاقتصادات الناشئة الأخرى.
يُضاف إلى هذه الاعتبارات أيضًا، أن القوام الأهم والأكبر من حيث الحجم في اقتصادات دول المنطقة، والمتمثل في اقتصادات مجلس التعاون الخليجي، يتمتع بمزايا إضافية، تساعد على تعزيز فرص لجوئها إلى أدوات الدين؛ أولها انخفاض مخاطر التعثر المالي (وفق مؤسسة فيش لإدارة الأصول)، نظراً لامتلاكها احتياطيات حكومية كبيرة، برغم تقلبات أسعار النفط في الفترة الأخيرة. وثانيها التطور الإيجابي والنضج الحادث بأسواق سندات هذه الدول. ويمثل إدراج سندات دول المجلس، ضمن مؤشر "جي بي مورغان" اعتبارًا من 31 يناير 2019، دليلًا على ذلك، وعاملًا إيجابيًّا، يُحفّز المستثمرين حول العالم للتوسع في التعامل في هذه السندات أيضًا.
قيد التضخم:
يختلف موقف اقتصادات دول الشرق الأوسط من مشكلة التضخم عما هو عليه الحال بشأن مشكلة المديونية، فعلى الرغم من أنها صاحبة أقل نسبة مديونية حكومية إلى الناتج، فهي تعتبر الأعلى في معدلات التضخم بين مجموعات الدول محل المقارنة. وكما يتضح من الشكل رقم (2)، فإن متوسط معدل التضخم في دول المنطقة بلغ 14.2% عام 2018، في وقت بلغ فيه هذا المتوسط 5.7% و2% بالاقتصادات الصاعدة وبالاقتصادات المتقدمة على الترتيب. كما أنه لم يتجاوز 4.2% في المتوسط العالمي في العام نفسه. كما تُشير توقعات صندوق النقد الدولي، إلى أن معدل التضخم بمنطقة الشرق الأوسط، رغم انخفاضه في الأجل المنظور، سيبقى الأعلى بين مجموعات الدول محل المقارنة، ليبلغ 6.3% بنهاية السنوات الخمس المقبلة، في وقت سيظل فيه في حدود 4.1% بالاقتصادات الصاعدة، و2% بالاقتصادات المتقدمة، ولن يتجاوز 3.3% في المتوسط العالمي الكلي.
ومن ذلك، يُمكن القول إن دول الشرق الأوسط إن كانت تمتلك هامشًا كبيرًا نسبيًّا للتوسع في استخدام أدوات الدين استنادًا إلى مؤشر نسبة الدين الحكومي إلى الناتج، فإن هذا الهامش يتآكل بشكل كبير بفعل ارتفاع معدلات التضخم بالمنطقة، خاصة وأن التوسع في إصدار أدوات الدين تترتب عليه زيادة مستقبلية في معدلات التضخم. ويعود ذلك إلى أن الأموال المتحصل عليها من أدوات الدين تُستخدم إما لتمويل عجز الموازنات الحكومية، أو لتنويع مصادر الإيرادات العامة، أو لتعزيز الأوضاع المالية للشركات الحكومية وشبه الحكومية، وهي جميعها خيارات تصب تجاه زيادة الإنفاق الكلي، ومن ثمّ الارتفاع في مستوى التضخم.
ويشار في هذا الموضع إلى أن الارتفاع الكبير الذي شهده متوسط معدل التضخم بدول المنطقة عام 2018، وبلوغه نحو ضعف مستواه في عام 2017 (انظر الشكل رقم 2)؛ كان مدفوعًا -بشكل كبير- بتوسع دول المنطقة في إصدار أدوات الدين، ما يعني أن استمرار حكومات دول المنطقة في هذا الاتجاه -كما هو متوقع- قد يمثل تحديًا أمام اقتصاداتها، ولا سيما عند الوصول إلى مستويات حرجة للتضخم، لتجد بعض الحكومات نفسها مضطرة آنذاك لتقليص الإنفاق، من أجل تخفيف الضغوط التضخمية، بعيدًا عن أولويات تحفيز النمو الاقتصادي.
ختاماً فإن من نافلة القول تأكيد أن دول منطقة الشرق الأوسط التي لا تعاني مشكلة تضخم كبيرة في الوقت الراهن، لديها القدرة على التوسع في استخدام أدوات الدين من دون محاذير شديدة، لكن الدول التي ترتفع معدلات التضخم بها، لا تمتلك الحرية الكاملة لفعل ذلك، بل عليها استخدام هذا الخيار بحذر شديد، بما يتناسب مع احتياجات معالجة الموازنة العامة وفقط، مع تأجيل أهداف تنويع مصادر الإيرادات وتحسين الأوضاع المالية للشركات ولو مؤقتًا، إلى أن تزول مخاوف التضخم. وفي المجمل، هناك ضرورة لمراعاة دول المنطقة جميعها عدم تجاوز معدلات الديون الحكومية بها مستويات الـ60% من الناتج، وأن يتم استخدام القروض والديون الجديدة في بناء اقتصاد حقيقي بدلًا من تمويل الاستهلاك، لتجنب إضافة أعباء مديونية ثقيلة على اقتصاداتها، وتلافي إضافة وقود جديد لمشكلة التضخم، خاصة وأن التضخم المبالغ فيه يؤدي إلى تآكل مكتسبات النمو، ويزيد مخاطر عدم الاستقرار النقدي والمالي.