أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

تمييز متعدد الأوجه:

الفلاشا نمط للاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل

07 مايو، 2015


بعد أن تسرب شريط فيديو للإعلام الإسرائيلي مطلع الشهر الجاري يصور اعتداء رجال الشرطة على مجند من طائفة الفلاشا، اندلعت مظاهرات احتجاج عنيفة من جانب أبناء الطائفة، وتركزت في مدينتي القدس وتل أبيب.

واعتبرت الصحافة الإسرائيلية أن ما حدث يؤشر على أمرين يعدان بمثابة إنذار للمجتمع والدولة قبل أن تتفاقم الأمور، الأول: هو ظاهرة تنامي اعتداءات رجال الشرطة على المواطنين وتعاملها بعنف بالغ مع المظاهرات الاحتجاجية السلمية التي أشعلتها الحادثة المشار إليها، الأمر الذي يهدد بإهدار حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية التعبير ووضع الديمقراطية الإسرائيلية على المحك.

الأمر الثاني: هو التحول المفاجئ في سلوك طائفة الفلاشا التي كانت تعتبر أكثر طوائف المجتمع الإسرائيلي جنوحاً للمهادنة رغم ما تتعرض له من تمييز اجتماعي منذ هجرتها إلى إسرائيل قبل ما يزيد على 30 عاماً، الأمر الذي يعني أن مؤشر العنف الاجتماعي الكامن قد وصل إلى مستويات تنذر بارتفاع حدة المصادمات بين الدولة ومؤسساتها من جانب وبعض فئات المجتمع من جانب آخر ، مما يعني تهديد الاستقرار الداخلي ووضع مزيد من الأعباء على المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل.

تجدر الإشارة بدابة إلى أنه يعيش أكثر من 135 ألف أثيوبي يهودي في إسرائيل التي هاجروا إليها في موجتين عامي 1984 و1991، وهم يجدون صعوبة في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي رغم المساعدات الحكومية الهائلة.

وقدرت الشرطة عدد المشاركين في التظاهرة التي وقعت في أول مايو بحوالي 3 آلاف شخص، فيما نقلت وسائل الإعلام عن منظمي الاحتجاجات أن عدد المتظاهرين بلغ 10  آلاف. وجاءت الاحتجاجات بعد ثلاثة أيام من تظاهرة غاضبة في مدينة القدس، تخللتها صدامات أُصيب فيها عشرة متظاهرين وثلاثة عناصر من الشرطة بجروح، وكان المحتجون قد دعوا إلى هذه التظاهرات إثر بثّ تسجيل فيديو ظهر فيه رجلا شرطة يضربان جندياً إسرائيلياً من أصل  إثيوبي.

أزمة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي

منذ إنشائها عام ١٩٤٨ عانت الدولة العبرية من حالة تشظي ثقافي واجتماعي عميقة، نجمت عن التباين الواسع بين اليهود الذين أتوا من أوروبا والولايات المتحدة (الإشكناز) وبين اليهود المنحدرين من أصول شرقية (السفارديم). فبينما حين كان الإشكناز أفضل تعليماً وثراءً وميلاً نحو الحداثة والعلمانية، كان اليهود الشرقيون أو السفارديم يعانون من نقص المهارات التعليمية والثقافية، فضلا عن أن أغلبهم أتى للدولة معدماً ومتأثراً بالثقافات المحافظة التي عاش في ظلها فبل الهجرة بما تحتويه من ميل نحو التدين ورفض القيم الحديثة.

وانعكست هذه الاختلافات بين الطائفتين على تمثيل كل منها في المؤسسات السياسية وسوق العمل والمناصب العليا في الإدارات الحكومية وقيادات الجيش والمؤسسات الأمنية. ومع الوقت تعمقت قناعة السفارديم بأن الدولة هي دولة الإشكناز وأنهم مجرد مواطنون من الدرجة الثانية.

وقد نشبت أولى الأزمات الكبرى في عام ١٩٥٩ فيما عرف باسم "تمرد وادي الصليب" في حيفا، حيث اندلعت احتجاجات عنيفة بعد أن اعتدى أحد رجال الشرطة على مواطن من أصل مغربي، وبدأ الحديث  وقتها على استحياء عن التمييز الذي يعانيه السفارديم في المجتمع من قبل الدولة، وإن تكفلت عزلة الدولة عن محيطها، وحالة العداء العربي تجاهها، وعدم تطور وسائل الاتصال  والوسائط الإعلامية بوأد هذه الاحتجاجات سريعاً بدواعي الحفاظ على أمن البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية.

وبعد نحو عقد من هذه الأحداث شكل بعض الشباب اليساري من المنتمين إلى السفارديم حركة حملت اسم "الفهود السوداء" تأسياً بالحركة الأمريكية المعروفة بذات الاسم، والتي أسسها الزنوج في منتصف الستينيات احتجاجاً على السياسات العنصرية التي تتم ممارستها في المجتمع الأمريكي ضد المواطنين من أصول أفريقية، غير أن الحركة الإسرائيلية لم تستمر طويلاً واختفت في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣.

ورغم أن حزب الليكود قد استغل شعور السفارديم بالغبن لكي يتمكن من الفوز بأغلبية مقاعد الكنيست في عام 1977، فإن الليكود ذاته لم يكن سوى حزب إشكنازي بامتياز على الأقل كون قادته جميعاً  - وربما حتى اليوم - من الطائفة الإشكنازية، ولم يفلح خطابه الداعي للمساواة في إخفاء هذا الطابع؛ ومن ثم ظهرت حركة شاس (حزب ديني متشدد يمثل الطوائف الشرقية) في الثمانينيات من القرن الماضي، وادعت أنها لا تمثل اليهود الحريديم (المتشددين دينياً)، بل تعبر عن تطلعات أبناء الطوائف الشرقية كلها نحو إزالة التمييز الذي يعانونه.

وقد نجحت شاس بالفعل في استقطاب أصوات الفئات الفقيرة، وأغلبها من اليهود السفارديم، لكنها مالت في النهاية للتحالف مع الأحزاب الحاكمة التي طالما تساهلت معها في مطالبها الخاصة بدعم المصالح الخاصة باليهود المتدينين حصراً.

الفلاشا كجزء من الحركات الاحتجاجية

في إطار هذه الخلفية، يمكن فهم جزء من خصائص ظاهرة تحول اليهود الفلاشا نحو العنف في مواجهة الدولة العبرية، والذي يجب تمييزه عن الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في إسرائيل في صيف عام ٢٠١١ والتي عرفت في حينها باسم "احتجاجات الخيام"، فعنف طائفة الفلاشا يتعلق بتمييز عنصري تجاهها من المجتمع والدولة.

ويتمثل هذا التمييز في سياسات العزلة التي فرضت عليهم، والتي وصلت إلى حد الازدراء كما أوضحتها واقعة التخلص من أكياس الدم التي كان الفلاشا يتبرعون بها في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، بإلقائها في القمامة سراً. وقد اتهمت الطائفة وزارة الصحة في حينها بأن دوافعها للتخلص من أكياس الدماء المأخوذة من اليهود الفلاشا ليس الادعاء الكاذب بأنها تحتوي على أمراض وغير صالحة للاستخدام الطبي، ولكن بسبب المشاعر العنصرية التي يكنها الإشكناز البيض ضد السفارديم عامة وأصحاب البشرة السمراء منهم خاصة.

أما الاحتجاجات التي بدأت في صيف عام ٢٠١١ (أطلق عليها لاحقاً اسم حركة G14 ) - كون أنها بدأت تأخذ زخمها الكبير في 14 يوليو من ذلك العام - فقد كانت احتجاجات واسعة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء المساكن، وفي البداية لم يتجاوز عدد أفراد مجموعة الشبان والشابات الذين كانوا في بداية العشرينات من أعمارهم وبادروا إلي نصب الخيام في تل أبيب (15 شخصاً لم يسبق لهم أن انتموا لأحزاب سياسية)، لكن خلال فترة وجيزة من نشاط حركة الاحتجاج، ظهرت عدة آلاف من الخيام في 61 مدينة وبلدة إسرائيلية.

وقد انحصر اهتمام قادة حركة الاحتجاج بالجوانب الاقتصادية - الاجتماعية لسياسات الحكومات المتعاقبة، خاصة حكومة نتنياهو، منتقدين تحالف السلطة السياسية مع رجال الأعمال، وصاغت الحركة وثيقة تحت عنوان "العدالة الاجتماعية.. نحو برنامج عمل اقتصادي – اجتماعي جديد"، وهاجمت فيها  سياسات "اقتصاد السوق" و"السوق الحر"، وسياسة الخصخصة التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في العقود الأخيرة، وطالبت بتغيير المسارات الاقتصادية – الاجتماعية التي اتبعتها هذه الحكومات والعودة إلى سياسة "دولة الرفاه" القائمة على العدالة الاجتماعية.

لقد كان رد الحكومة الإسرائيلية على حركات الاحتجاج التي قامت على خلفية رفض السياسات الاقتصادية، أو تلك التي تمحورت حول رفض التمييز العنصري واحداً، حيث انتهجت سياسة القبضة الحديدية في مواجهة هذه الاحتجاجات كما حدث أثناء فض المظاهرات التي اجتاحت عدة مدن إسرائيلية في شهر يونيو عام 2012 احتجاجاً على غلاء المعيشة؛ فواجهتها قوات الشرطة بعنف بالغ وبحملة اعتقالات واسعة بين صفوف المتظاهرين.

وقد علقت عضو الكنيست زهافا غلئون، عن حركة ميرتس، في ذلك الوقت على الأحداث  بقولها: "إن عشرات النشطاء الاجتماعيين أكدوا أن الشرطة حاولت حتى قبل اندلاع المظاهرات استدعائهم والتحقيق معهم عن خططهم المستقبلية"، متهمة الشرطة الإسرائيلية بأنها "تحول إسرائيل إلى دولة بوليسية  وإلى "جمهورية موز " تمنع المواطنين من ممارسة حقهم في التظاهر السلمي".

وقد عبر ذلك بوضوح عن تخوفات حقيقية من تزايد النزعة البوليسية في السياسة الإسرائيلية، كما عبر عنه تعليق كتبه يوسي كلاين في هآرتس يوم 8 مايو الجاري عن التخوف الثاني، وهو دفع بعض الفئات الاجتماعية التي اتسمت ردود فعلها تاريخياً بالسلمية نحو الاحتجاجات العنيفة كما حدث مع الفلاشا بقوله: "تقع المسؤولية في الأحداث الأخيرة على النظام، الذي يطلب من المهاجرين التخلي عن القليل مما كان لهم وقبول القليل الذي نبدي نحن الاستعداد لإعطائه لهم.. طلبنا منهم التنازل عن ثقافتهم وهويتهم في صالح ثقافة وهوية نحن أنفسنا ليس لدينا أي فكرة عن ملامحها.. نحن نطلب منهم ببساطة ألا يكونوا سود البشرة!!"

أسباب خارجية لظاهرة العنف 

لا تكتمل عملية تفسير ظاهرة تنامي الاحتجاجات العنيفة في إسرائيل ضد السلطة ومبادلة الشرطة عنف المحتجين بعنف أكبر منه فقط بالأسباب الداخلية المتمثّلة في سياسات التمييز ضد الطوائف الشرقية والسياسات الاقتصادية التي زادت من حدة معاناة الفقراء وشرائح من الطبقة المتوسطة، بل يمكن الحديث أيضاً عن ظاهرة "الدومينو" المعرفة التي جعلتها ثقافة العولمة أكثر وضوحاً، فما أن تقع حادثة في أي مكان في العالم إلا ويتم استنساخها سريعاً في بلاد أخرى تختلف عنها في الثقافة والظروف الاجتماعية – الاقتصادية.

وعلى سبيل المثال لاحظ الباحثون الإسرائيليون مدى تماهي حركة احتجاجات الخيام مع الحركة المماثلة في مصر في ٢٥ يناير  ٢٠0١ إلى حد تقليد بعض أساليب الاحتجاج ورفع نفس الشعارات.

وبالمثل لا يمكن استبعاد تفجر عنف يهود الفلاشا ضد الشرطة الإسرائيلية كجزء من ظاهرة احتجاج الأمريكيين من أصول أفريقية على عنف الشرطة الأمريكية ضدهم، والذي أدى إلى مقتل ثلاثة شباب منهم خلال عام واحد.

أيضاً، فقد تسببت الحملة الشديدة، رسمياً وشعبياً، ضد المتسللين الأفارقة إلى إسرائيل في إزالة الخط الفاصل بين الفلاشا (المواطنون بحكم القانون) وبين نظرائهم الأفارقة الذين يتسللون إلى إسرائيل هرباً من الظروف القاسية في بلدانهم؛ إذ تشير الإحصاءات الأخيرة في إسرائيل (نوفمبر ٢٠١٤) إلى أن عدد المتسللين إلى داخل إسرائيل بشكل غير قانوني قد بلغ ٤٧١٣٧ شخص، وأصولهم كالتالي: (١٩٪ من السودان، ٧٣٪ من إريتريا، ٧٪ من دول أفريقية أخرى، ،١٪ من باقي دول العالم). ويقطن معظم هؤلاء في المناطق الجنوبية من تل أبيب أو يتسللون لمدن أخرى مثل القدس، ويعانون من التمييز العنصري والعزل الاجتماعي باعتبارهم مسؤولين عن ارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار الأمراض الخطيرة صحياً والتي جلبوها معهم من بلادهم الأصلية.

خلاصة ونتائج 

تتباين أسباب اندلاع احتجاجات عنيفة ضد السلطة السياسية في إسرائيل على فترات متقطعة، ما بين احتجاجات لأسباب اقتصادية وأخرى لأسباب اجتماعية تتعلق بالتمييز العنصري ضد اليهود الشرقيين عامة وبعض الطوائف المنتمية إليها خاصة، إلا أن هذه الاحتجاجات بدأت تأخذ منحى خطير، كاشفة عن تحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي الذي بات أكثر انقساماً وأقل استعداداً للخضوع لابتزاز الحكومات المتعاقبة التي تطالبهم بتقبل الأوضاع السيئة التي يعيشون فيها اقتصادياً واجتماعياً، حتى لا تفسد اعتراضاتهم جهود الدولة لمواجهة الأخطار الخارجية خاصة مع اندلاع الفوضى في الدول المحيطة بإسرائيل وتنامي خطر التنظيمات الإرهابية التي باتت على حدود الدولة العبرية.

ومثلما عجزت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن معالجة مشكلات الاندماج ، فإن الفئات التي تعاني من التمييز قد فشلت بدورها في ترجمة احتجاجاتها الاجتماعية إلى حركة سياسية فاعلة تكون قادرة على تغيير السياسات التمييزية التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

وفي كل الأحوال لا يمكن فصل إسرائيل عن محيطها وعن العالم الواسع الذي يشهد توالد حركات احتجاجية عنيفة ومفاجأة تظهر حقيقة واحدة، وهي أن تزايد الفروقات الطبقية التي تساعد على تقوية الثقافات العنصرية من شأنها أن تقوض استقرار المجتمعات؛ الأمر الذي يفرض إجراء دراسات عميقة واتباع سياسات أكثر فاعلية لمواجهة الخلل الذي يُنتج هذه الاحتجاجات.