تصاعدت حملات وصدرت تشريعات وسنت قوانين مناهضة لارتداء أغطية الوجه سواء كانت النقاب أو البرقع أو الخمار، خلال السنوات الماضية، والتي قادتها أجهزة أمنية وجهات محلية وجمعيات أهلية وشخصيات نيابية، في عدد من دول الإقليم، لدواعٍ أمنية وسياسية ومجتمعية وثقافية واقتصادية، حيث يعد التحقق من هوية الفرد أمرًا ضروريًا في الأماكن العامة ومقرات العمل وهيئات التدريس، لا سيما في ظل التحولات السائلة المتسارعة التي تشهدها دول الشرق الأوسط. غير أن هناك معوقات تحول دون التطبيق الجزئي لمنع النقاب، وتتمثل في معارضة القطاعات المجتمعية وازدياد حدة المواجهات الاجتماعية ومهاجمة التيارات السلفية وموقف المؤسسة الدينية الرسمية والتضييق على حقوق الإنسان.
ويظل هناك خلاف طوال الوقت بين الأئمة في الدول الشرق أوسطية الإسلامية حول الحكم الشرعي للنقاب في الإسلام ومدى وجوب تغطية المرأة لوجهها من عدمه. ولا توجد مؤشرات للقياس توحي بتحول في تراجع هذا الجدل في بعض الدول مثل مصر وتونس والمغرب وسوريا والعراق وتركيا وإيران وأفغانستان، والذي يشبه ثورة البراكين تبرز أحيانًا وتخفت أحيانًا أخرى.
حالات متباينة:
أصدرت وزارة الداخلية المغربية قرارًا بمنع خياطة وتسويق وبيع البرقع الأفغاني في المحلات التجارية، وبدء تنفيذ هذا القرار في 9 يناير 2017، في الأسواق والمتاجر، حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وثائق وقعتها السلطات المحلية في عدة مدن تطلب من أصحاب المحال التجارية التخلص من كل ما لديهم من قطع البرقع خلال 48 ساعة من تاريخ تسلم الإشعار، وإلا تعرضوا للحجز المباشر.
غير أنه لم يتضح ما إذا كان هذا القرار يشمل منع إنتاج وتسويق النقاب الذي يقترب في شكله من البرقع، مع الأخذ في الاعتبار أن عدة مواقع إخبارية مغربية نقلت قيام أفراد تابعين لوزارة الداخلية في مدن طنجة وتطوان ومرتيل وسلا ومكناس وتارودانت، بطلب وقف إنتاج وبيع أنواع من النقاب في المحلات.
كما نص مشروع قانون في البرلمان التونسي، في مارس 2016، والذي تقدمت به كتلة "الحرة" المنشقة عن حزب "نداء تونس"، على منع تغطية الوجه في الأماكن العامة، وعلى فرض عقوبات تصل إلى السجن خمسة عشر عامًا وغرامة قدرها 1200 دولار لمخالفة ذلك. أما الشخص الذي يجبر آخر على ارتداء النقاب فتصل عقوبته إلى السجن مدة عام.
وشُنت في مصر، خلال مارس 2016، حملة تطالب بمنع ارتداء النقاب، في مؤسسات الدولة، بما فيها المدارس والمصالح الحكومية والجامعات والمستشفيات العامة، وأطلق عليها "امنعوا النقاب" أثناء العمل فقط وليس في الشوارع والطرقات العامة، وفقًا لمؤسس الحملة محمد عطية. وقام أعضاء الحملة بتنظيم جولات ميدانية في بعض محافظات الجمهورية، من قرى ونجوع، لتنظيم مؤتمرات وندوات من أجل التعريف بالأهداف الرئيسية للحملة وتكوين قاعدة انتشار لها.
وقد عقدت الحملة جلسات مع الاتحادات الطلابية في الجامعات المصرية، لإقناعها بفكرة وهدف الحملة، ودعم القرار الذي أصدره رئيس جامعة القاهرة الدكتور جابر نصار بمنع ارتداء النقاب لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة، وكافة العاملات في المستشفيات التابعة لها. كما حاولت الحملة مخاطبة أعضاء في مجلس النواب، لطرح فكرة معارضة ارتداء النقاب، وإقناعهم بها، بهدف تبنيها داخل المجلس، وسن تشريع قانوني يمنع ارتداء النقاب أثناء العمل.
دوافع حاكمة:
هناك مجموعة من العوامل التي تدفع الدول أو الفواعل المسلحة ما دون الدولة، إلى الاتجاه نحو منع ارتداء النقاب، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- التحقق من الهوية الشخصية: هناك اتجاه في الكتابات يرى أن الهدف من منع النقاب هو إبراز الهوية، على نحو ما عكسه قرار وزير التعليم العالي السوري غياث بركات، في يوليو 2010، بإصدار تعليمات بمنع المنتقبات من التسجيل في الجامعات الحكومية والخاصة والمعاهد، حيث يؤثر ذلك على سير الامتحانات، لا سيما بعد انتشاره في عدد من الجامعات. إذ لوحظ ارتداء بعض الطالبات السوريات النقاب خلال فترة الامتحانات فقط بهدف الغش، مما دفع المسئولين للطلب من المراقبات التأكد من هويتهن. وفي مرحلة لاحقة، تم إلغاء هذا القرار.
2- القيام بالعمليات الإرهابية: هدفت حملة "امنعوا النقاب" في مصر إلى الحد من محاولات التنظيمات الإرهابية توظيف غطاء الوجه في القيام بالعمليات الإرهابية التي استهدفت رجال الشرطة والجيش، ومواقع مدنية، وسفارات أجنبية، مما يستوجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع أى محاولات قد تؤثر على أمن واستقرار الدولة، ويعد النقاب إحدى الوسائل التي يحتمل استغلالها في تنفيذ عملية إرهابية. كما يتمثل أحد أسباب طرح مشروع قانون حظر النقاب في الأماكن العامة في تونس في منع تغطية الوجه، خاصة أن التنظيمات الإرهابية يمكنها استغلال النقاب في تنفيذ أعمال إرهابية، إذ أثبتت التحقيقات الأمنية أن الإرهابيين استخدموا تلك الوسيلة في ارتكاب عمليات سابقة عبر التسلل داخل المدن وخاصة العاصمة قادمين من مناطق محددة وخاصة جبل الشعانبي في غرب البلاد.
3- التوظيف في الجرائم الجنائية: يعود قرار حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وفقًا لاتجاهات عديدة، إلى استخدامه من قبل أفراد في ارتكاب جرائم. فعلى سبيل المثال، لم يقتصر مشروع القانون في البرلمان التونسي على النقاب حصرًا بل تضمن منع إخفاء الوجه لأن ذلك ربما يكون غطاءً لارتكاب جرائم، وهو ما تشير إليه بوضوح صفحات الحوادث في الصحف العربية.
4- توجيه اهتمام الرأى العام نحو قضايا ثانوية: خاصة في الفترات التي تحتاج فيها بعض دول الإقليم إلى التركيز على أولويات عاجلة مثل مطالب التشغيل ودعم الاستثمار وتطوير المناطق الفقيرة، حيث يقترن منع إنتاج وتسويق النقاب المغربي مع تعثر تشكيل الحكومة المغربية برئاسة عبدالإله بن كيران والتي امتدت إلى أكثر من ثلاثة أشهر منذ حصول حزب "العدالة والتنمية" على المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية التي أجريت في أكتوبر 2016. وقد تشكل رأى عام إلكتروني في هذا السياق، حيث ظهر هاشتاج "# لا-لمنع- النقاب" احتجاجًا على قرار السلطات المغربية بمنع خياطة البرقع وتسويقه.
5- تطبيق نموذج الخلافة الإسلامية: يحاول تنظيم "داعش" بعد سيطرته على أجزاء من العراق وسوريا، منذ منتصف عام 2014، فرض نموذج "الدويلة الإسلامية"، وفقًا لتصوره، على قاطني تلك المناطق، حيث تعد قواعد الملبس واحدة من الخطوات الرئيسية التي يقوم بها "داعش" بعد الاستيلاء على بعض المدن. وفي هذا السياق، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 22 فبراير 2015، أن "تنظيم داعش جلد رجل 100 جلدة، في قرية السرب بالريف الغربي لمدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا، بتهمة السماح للزوجات بعدم ارتداء النقاب".
وفي مواضع أخرى، منع تنظيم "داعش" النساء من ارتداء النقاب داخل مراكز الأمن التابعة له في مدن العراق الشمالية لأسباب أمنية في سبتمبر 2016، على عكس الأوامر التي كان يفرضها على نساءه في فترات سابقة بإجبارهن على ارتداء الملابس التي تخفي كامل وجوههن، وفي حال امتناع النساء عن القيام بذلك يتم توقيع عقوبات عليهن بالضرب، بل إن الأمر وصل، في بعض الحالات، إلى حد القتل.
معوقات ضاغطة:
في مقابل ذلك، هناك تعقيدات تواجه حظر ارتداء النقاب في عدد من دول الإقليم، على نحو ما توضحه النقاط التالية:
1- معارضة القطاعات المجتمعية: تعتبر قطاعات من الرأى العام في بعض دول الإقليم النقاب جزءًا من الشريعة الإسلامية، بما يعني أن منعه يمثل انتهاكًا صارخًا للإسلام، على الرغم من أن ذلك ليس صحيحًا. فالنقاب مجرد "عادة وليس عبادة" لدى غالبية سكان بعض الدول، ولا يمت إلى الدين بصلة. وقد دخلت الحكومة المصرية في نزاع مماثل في عام 1992 عندما أقرت حظر النقاب في المدارس، لكنها تراجعت لاحقًا بقرار من الرئيس الأسبق حسني مبارك.
2- ازدياد حدة المواجهات الاجتماعية: إن المواقف الداعمة لحظر ارتداء النقاب سوف يقابلها مواقف وحملات مضادة. فقد تقدمت عدد من عضوات هيئة التدريس بجامعة القاهرة، في أكتوبر 2015، بتوصيات إلى محاميهن الدكتور أحمد مهران مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية وحقوق الإنسان، لدعم الطعن الذي تقدمن به أمام محكمة القضاء الإداري لوقف قرار الدكتور جابر نصار رئيس الجامعة بمنعهن من التدريس وإلقاء المحاضرات والدروس العلمية والنظرية أو الحضور في المعامل.
3- مهاجمة التيارات السلفية: بدأ يتبلور اتجاه مناهض لقرار وزارة الداخلية المغربية بمنع إنتاج وتسويق البرقع، تقوده التيارات السلفية، أو على الأقل النشطاء منهم، حيث يرون أن هذا القرار سيحدث انقسامًا في المجتمع، لأنه لا يمكن إجبار النساء على عدم تغطية وجوههن وأجسادهن. وفي هذا السياق، قامت مواقع سلفية مغربية مقربة من فكر تنظيم "داعش" بالرد على قرار وزارة الداخلية بطرق عدة، من بينها توجيه خطابات تحريضية يكتبها مغاربة ومشارقة بالتخفي وراء حسابات مجهولة، تنتقد الحكومة، بل إن بعض التعليقات الإلكترونية تشير إلى أن هذا القرار "لم يفعله اليهود وأقدمت عليه المغرب بلد المسلمين".
وقد سبق أن هاجم بعض الطلاب المحسوبين على التيار السلفي في تونس عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة (في شمال العاصمة) في 3 ديسمبر 2011 وحاصروا مكتبه واحتجزوه لعدة ساعات للمطالبة برفع الحظر عن النقاب داخل الجامعة، وهو ما وسع رقعة الاحتجاجات. ووفقًا لرؤى التيار المعارض لحظر ارتداء النقاب داخل المؤسسات الجامعية التونسية، يمكن اعتماد البصمة الإلكترونية للتثبت من هويات المنقبات قبل دخولهن الجامعة.
4- موقف المؤسسة الدينية الرسمية: قد تتخذ المؤسسات الدينية في بعض دول الإقليم توجهًا داعمًا أو صامتًا بشأن الموقف من ارتداء النقاب. وقد عبرت عن هذا التوجه الدكتورة آمنة نصير عضو مجلس النواب المصري وأستاذ فلسفة العقيدة بجامعة الأزهر في تصريحات صحفية مختلفة بقولها أن "دخول الحكومة حرب النقاب دون شجاعة مساندة من قبل المؤسسات الدينية سيضع أمامها الكثير من الصعاب".
5- التضييق على حقوق الإنسان: يستغل الرأى العام المناهض لحظر ارتداء النقاب مسألة التدخل الحكومي في الحريات الشخصية، وأن المرأة المنقبة منتقصة الحقوق، لرفض هذه النوعية من القرارات. ففي هذا الإطار، اعتبر مرصد الشمال لحقوق الإنسان في المغرب، في بيان صادر في 9 يناير الجاري، أن "منع وزارة الداخلية المغربية لباس البرقع انتهاك للقانون الدولي الإنساني"، وأضاف أنه "قرار تعسفي وانتهاك غير مباشر لحق النساء في حرية التعبير وارتداء اللباس الذي يعد تعبيرًا عن هويتهن أو معتقداتهن الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية".
اتجاه تصاعدي:
خلاصة القول إن هناك اتجاهًا إقليميًا متصاعدًا ضد ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وهو ما طال الدول التي تتواجد بها تنظيمات متشددة، حيث تظاهر عدد من الرجال الأفغان في العاصمة كابل – الذين ينتمون لمنظمة "متطوعي السلام الأفغان" – بالقرب من لجنة أفغانستان المستقلة لحقوق الإنسان في 8 مارس 2015، احتجاجًا على انتهاكات حقوق المرأة في البلاد وتزايد حالات العنف ضدها. وهنا تشير الكثير من الأدبيات إلى تراجع حقوق المرأة الأفغانية بعد وصول حركة "طالبان" إلى الحكم في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي، بحيث يعد ارتداء النساء النقاب إلزاميًا في أفغانستان.
ومع نظرية النفاذية، بدأ انتشار الملبس الأفغاني عبر الحدود إلى دول أخرى في الإقليم، وتحول، في بعض الأحيان، إلى شعار سياسي، وتكونت جماعات مصالح دينية وسياسية واقتصادية معبرة ومدافعة عنه تتجاوز ما يطلق عليه "إشكالية الحشمة"، وهو ما يتعين إدراكه والتعامل معه من الآن فصاعدًا، لأن المسألة لا تتعلق بغطاء الوجه أو الرأس وإنما بالبناء الفكري الذي يكمن خلفه.