أصدر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، في 11 مارس 2024، تقريره السنوي عن التهديدات العالمية الأكثر إلحاحاً للمصالح الوطنية الأمريكية لعام 2024، والذي ركز على استمرار تصاعد التهديد الصيني لمكانة الولايات المتحدة في العالم، وعلى نهج روسيا المُواجه للغرب، وأبرز الخطر الإقليمي الذي تمثله إيران وشبكة وكلائها على مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة، فضلاً عن التهديدات عبر الوطنية التي باتت تخلق مخاطر مضاعفة ومتتالية على الأمن القومي الأمريكي خاصةً في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، والهجرة غير النظامية، واحتمالات التدخل الصيني والروسي للتأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2024.
وأثار هذا التقرير، فور صدوره، العديد من ردود الفعل، خاصةً فيما ارتبط بتحليله لتداعيات الحرب الإسرائيلية في غزة على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتحذيره من تصاعد مخاطر الإرهاب العالمي كنتيجة لها، وإشارة قادة أجهزة الاستخبارات الذين أسهموا في إصدار التقرير إلى مغبة عدم موافقة مجلس النواب الأمريكي على صفقة المساعدات الإضافية لكييف، والتي تبلغ 60 مليار دولار باعتبار ذلك "خطأً جسيماً وتاريخياً للولايات المتحدة" سوف يؤثر في مسار الحرب الروسية في أوكرانيا، وفي صورة واشنطن بين حلفائها.
وبالرغم من أن التقرير يبرز الرؤى الجماعية والتوافق بين مجتمع الاستخبارات الأمريكي حول مصادر هذه التهديدات ودرجة تشابكها وخطورتها بالنسبة للولايات المتحدة؛ استناداً إلى المعلومات المتوافرة حتى 22 يناير 2024، فإنه يشكل إطار عمل استرشادي، مع غيره من التقارير المماثلة التي تصدرها الدول الكبرى، لحالة الاستقرار العالمي والإقليمي التي يمكن أن يستدل بها صُناع ومتخذو القرار في الدول الأخرى عند تحليل وضعية البيئة الدولية والإقليمية، وعند رسم سياساتها ومسارات تحركها على المستوى الخارجي.
وفي ضوء ذلك؛ يعرض هذا التحليل لأبرز ما جاء في تقرير الاستخبارات الأمريكية من تهديدات على الأمن القومي الأمريكي، وما ارتبط به من تعقيبات أدلت بها كل من أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، وويليام بيرنز، مدير الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، وكريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، والجنرال تيموثي دي هوف، مدير وكالة الأمن القومي، والفريق جيفري كروس، مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية، أثناء جلسة "تقييم التهديد السنوي لعام 2024" التي عقدتها لجنتا الاستخبارات بمجلسي الشيوخ والنواب يوم 11 مارس الجاري.
الوضع العالمي:
مع أن التقرير لم يخصص جزءاً منفرداً لتشخيص الوضع العالمي، فإنه يمكن الاستدلال من خلال قراءة صفحاته الـ41 على ما يلي:
1- استمرار وضعية النظام العالمي الهش، وهو نفس توصيف تقرير مؤتمر ميونخ للأمن الصادر في فبراير 2024؛ وذلك بسبب تسريع المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى، ونشوء الصراعات الإقليمية المتعددة التي ترتب آثاراً بعيدة المدى على غرار حرب غزة الحالية، وازدياد كثافة التحديات عبر الوطنية بصورة لا يمكن التنبؤ بها، فضلاً عن استمرار التأثير العالمي للتكنولوجيات الجديدة وأوجه الهشاشة في قطاع الصحة العامة، والتغيرات البيئية على استقرار العالم. وتزيد هذه الوضعية الهشة في ظل الضغوط الاقتصادية العالمية، ومواجهة العديد من الدول لأعباء الديون المتزايدة، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن استمرار الحرب في أوكرانيا.
2- ضرورة البحث عن حلول عالمية تعاونية، وخاصةً في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية التي يُرجح التقرير أن تسفر في عام 2024 عن مزيد من الإنجازات المهمة، وكذلك لمواجهة تأثيرات تغير المناخ على البلدان منخفضة النمو، والتي تعاني أكثر من غيرها من الطقس القاسي، والكوارث الإنسانية، واحتمالات زيادة تدفقات الهجرة ومخاطر الأوبئة في المستقبل، فضلاً عن انعدام الأمن الغذائي والمائي بالرغم من تراجع أسعار المواد الغذائية العالمية مقارنةً بعام 2022. وينبه التقرير إلى أن أهم المهددات التي تعوق هذا التعاون هو نهج الدول المنافسة مثل: الصين وروسيا في نشر المعلومات المُضللة حول القضايا العالمية في محاولة لإيجاد رواية ذات مصداقية تساند تصوراتها، على حد وصفه.
3- إعطاء قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية، إذ أشار التقرير إلى قيام كل من تنظيمي القاعدة وداعش بتوجيه أنصارهما لشن هجمات ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية، وإلى عمل الصراع في غزة كمُحفز للأفراد على القيام بأعمال إرهابية سواء تلك "المُعادية للسامية" أم التي تندرج في إطار "الإسلاموفوبيا" في جميع أنحاء العالم. وأكدت هذا المعنى مديرة الاستخبارات الوطنية، أفريل هينز، خلال جلسة الاستماع السنوية التي عقدتها لجنة الاستخبارات بالكونغرس لمناقشة التقرير؛ إذ أشارت إلى احتمالية أن يحمل الصراع في غزة "تهديدات إرهابية قد تستمر لأجيال"، وذلك بالرغم من أنه من السابق لأوانه معرفة امتدادات ذلك العنف وتأثيراته.
تهديدات الخصوم:
أبقى تقرير 2024 على نفس منهجية التقارير السابقة من حيث تحديد عناصر القوة والضعف في الدول المهددة للأمن القومي الأمريكي، إلا أنه تميز بصياغة هذه التهديدات بصورة أكثر وضوحاً ومن خلال إعطائها مسميات براقة مثل: الصين الطموحة والقلقة، وروسيا المُواجهة.
1- الصين "الطموحة والقلقة": خصص التقرير الجزء الأكبر من صفحاته للحديث عن الصين مقارنةً بغيرها من الدول، وهو ما يبرز تزايد إدراك مجتمع الاستخبارات الأمريكي لتصاعد حجم التهديد الصيني. فمن ناحية؛ أقر التقرير بقدرة بكين على التنافس المباشر مع واشنطن وحلفائها، وتغيير النظام العالمي القائم على القواعد، خاصةً فيما يتعلق بمسألة سعيها إلى ضم تايوان، والسيطرة على بحر الصين الجنوبي، ومحاولة تقويض النفوذ الأمريكي، ودق الأوتاد بين واشنطن وشركائها، وتعزيز المعايير العالمية التي تفضل "نظامها الاستبدادي"، على حد وصف التقرير، من خلال منتديات الأمن والتنمية البديلة التي تطرحها، فضلاً عن تطويرها لقدرات ذات صلة بالحرب الكيميائية والبيولوجية، وقيامها بعمليات عسكرية مشتركة تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة والقوات الشريكة والمتحالفة معها، ولاسيما في غرب المحيط الهادئ.
ومن ناحية أخرى؛ أكد التقرير أن هناك عدة عوامل تحد من قدرة الصين على مواصلة هذا الطموح وتشكل مصدراً لقلق قادتها، أهمها افتقار جيش التحرير الشعبي إلى الخبرات القتالية الحديثة، والتأثير المستمر لما وصفه التقرير بـ"الفساد" على قدرات الجيش وموثوقيته، واللذان يعوقان عملية تحوله إلى جيش عالمي بحلول 2049، والتباطؤ شبه المؤكد في نمو الاقتصاد الصيني بسبب التحديات الديمغرافية، وسياسات بكين التقييدية في مجال التجارة وعمل شركات التكنولوجيا، إضافة إلى اتجاه بعض الدول والشركات إلى تسريع التخلص من المخاطر الصينية في القطاعات الرئيسية والحد من صادرات التكنولوجيا الحساسة إليها.
2- روسيا "المواجهة": بالرغم من تأثيرات الحرب الأوكرانية على روسيا، فإن التقرير يعتبرها "خصماً مرناً" قادراً على تقويض مصالح الولايات المتحدة والغرب من خلال شراكات موسكو العسكرية والاقتصادية المتزايدة مع بكين، وبدرجة أقل مع إيران وكوريا الشمالية، واتباعها "نهجاً تصادمياً واستفزازياً" لتأكيد وضعها كقوة عظمى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتزايد تهديدها باستخدام الخيار النووي كأداة للردع الاستراتيجي، بجانب تطوير أسلحتها الكيماوية والبيولوجية.
ومع أن التقرير يؤكد عدم رغبة روسيا في خوض صراع عسكري مباشر مع الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ويعترف بالنجاح الروسي في تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض في أوكرانيا منذ أواخر عام 2023، وبالمزايا النسبية التي حققتها صناعة الدفاع الروسية من جراء الحرب؛ فإن التقرير يقر بمواجهة موسكو لتحديات تضعف من نهجها المواجه للغرب. وتتمثل هذه التحديات على المديين القصير والمتوسط، في قدرة الرئيس فلاديمير بوتين على الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية ودعم النخب الروسية لحكمه خاصةً في ضوء الضغط الاقتصادي وأعباء الحرب في أوكرانيا، وكذلك في تخصيص مزيد من الموارد ورأس المال السياسي للحفاظ على تحالفات موسكو في دول الاتحاد السوفيتي السابقة. وتكاد تنحصر هذه التحديات على المدى الطويل في نقص الاستثمارات الأجنبية خاصةً في قطاع الطاقة.
3- استمرار التهديد الإيراني: وذلك في ظل سعي طهران المستمر لترسيخ وضعها الناشئ كقوة إقليمية بفضل شبكة وكلائها في المنطقة، واستمرارها في برنامجها النووي، وتعزيز مبيعاتها العسكرية لروسيا، وأنشطتها التي وصفها التقرير بـ"الخبيثة وذات التأثير الواسع"، والتي تهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها ونفوذها في الشرق الأوسط، واستغلالها أزمة غزة للإعلان عن دورها كـ"بطلة للقضية الفلسطينية"، ولثني دول المنطقة الأخرى عن تدفئة علاقاتها مع إسرائيل. ويشير التقرير إلى أنه يحد من ذلك الدور، التحديات الداخلية التي يواجهها النظام الإيراني، والعقوبات الدولية المفروضة عليه، بجانب سوء إدارة النخبة الحاكمة للنظام، والتباطؤ المتوقع في نمو الاقتصاد الصيني؛ إذ تُعد بكين أكبر مشترٍ للنفط الإيراني، وكذلك مواجهة طهران تحديات متزايدة في السنوات المقبلة بسبب تغير المناخ وندرة المياه. وينوه التقرير إلى تحدي احتمالية وفاة المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي بلغ عمره الـ85 سنة، وأثر ذلك على استقرار النظام الذي يتميز بتنوع فصائل النخبة، وخوضه عملية انتقال واحدة بعد وفاة الخميني.
4- بقاء تهديد كوريا الشمالية: خاصةً مع سعي الرئيس كيم جونغ أون لمواصلة بناء قدرات بيونغ يانغ العسكرية النووية والتقليدية التي تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها على المستوى الإقليمي، وعدم استعداده للتفاوض حول ملف بلاده النووي الذي يعتبره ضامناً لأمن النظام ومصدراً لفخره الوطني. وتتمثل آليات النظام الكوري الشمالي لتحقيق ذلك في تعزيز علاقاته مع كل من روسيا والصين، وفي الانخراط بشكل متزايد في الأنشطة غير المشروعة مثل: السرقة الإلكترونية واستيراد وتصدير السلع المحظورة من قِبل الأمم المتحدة. ويعاني النظام في سبيل تحقيق أهدافه من تحدٍّ رئيسي، يتمثل في قدرته على الموازنة بين رغبته في السيطرة المطلقة على الدولة وبين تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، خاصةً مع ازدياد "حملاته القمعية" تجاه المعارضين وسوء الإدارة الخطر لملف الزراعة.
5- التأثير متعدد الأوجه لحرب أوكرانيا: تمزج الحرب الروسية في أوكرانيا بين جميع التهديدات السابقة؛ نتيجة لاعتماد روسيا على الدعم الصيني الاقتصادي والأمني لمواجهة العقوبات الغربية، وعلى شراء الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية لتعويض نقص العُتاد الذي تعانيه في ساحة القتال. ويتمثل التهديد الأبرز، وفقاً لمجتمع الاستخبارات الأمريكي، في عدم موافقة مجلس النواب الأمريكي على صفقة المساعدات المالية لكييف؛ إذ إن من شأن ذلك، وفقاً لويليام بيرنز مدير الاستخبارات المركزية خلال جلسة الاستماع أمام لجنتي الاستخبارات بالكونغرس، ليس فقط تمكين روسيا من تحقيق مزيد من السيطرة على الأراضي الاوكرانية، بل خلق شكوك لدى حلفاء وشركاء الولايات المتحدة في منطقة الإندوباسيفيك في جدوى شراكتها الاستراتيجية مع واشنطن، وتغذية طموحات بكين في ضم تايوان وفي السيطرة على بحر الصين الجنوبي.
تهديدات الصراعات:
تستدعي هذه التهديدات اهتماماً "فورياً" من الولايات المتحدة بالنظر إلى تأثيراتها الوقتية والسريعة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- الخشية من تحول حرب غزة إلى مواجهة شاملة، سواء تم ذلك بشكل مقصود أم عفوي، وذلك بالرغم من محاولات كل من إسرائيل وإيران لتجنب تحويل الأزمة إلى صراع مباشر على نطاق واسع. ويتوقع التقرير قيام حزب الله اللبناني بالنظر في مجموعة من الخيارات الانتقامية اعتماداً على تصرفات إسرائيل في لبنان، واستمرار الهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، وحدوث تصعيد أوسع في هجمات الحوثييين على السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر.
2- التخوف من حدوث تصعيد سريع غير مقصود بين بعض الدول المتاخمة حدودياً نتيجة لسوء التقدير. ويشمل ذلك الحدود المتنازع عليها بين الهند والصين التي لم تشهد أي اشتباكات كبرى منذ عام 2020، والنزاع في بحر الصين الجنوبي بين الصين والفلبين حول بعض الجزر المُتنازع عليها مثل: جزر سكند توماس التي اندلعت بشأنها احتكاكات بحرية في ديسمبر 2023، وبين الصين واليابان بشأن جزر سينكاكو. وكذلك بين الهند وباكستان اللذين لم يستغلا فترة الهدوء الهش بعد تجديد وقف إطلاق النار على طول خط السيطرة في أوائل عام 2021 في إعادة بناء علاقاتهما الثنائية، وبين أرمينيا وأذربيجان بسبب عدم وجود معاهدة سلام ثنائية وعدم وجود آلية لإنفاذ وقف إطلاق النار بين البلدين، وذلك بالرغم من نجاح باكو في السيطرة على إقليم ناغورنو كاراباخ المُتنازع عليه.
3- استمرار الاضطرابات الإثنية في غرب البلقان وأفغانستان وإثيوبيا، مع تفاوت مستقبل هذه الصراعات من دولة لأخرى. ففي حين توجد إمكانية أكبر لتطورها إلى صراعات عنيفة في البلقان وإثيوبيا مع احتمال قيام الفاعلين الخارجيين بتأجيج وتيرة الصراعات داخلها واستغلالها لزيادة أو حماية نفوذهم الإقليمي، فإن الوضع يختلف في أفغانستان التي ستحاول فيها القوى الإقليمية احتواء المشكلات مع تطوير ترتيبات عبر إقليمية للتعامل مع حركة طالبان مع المُضي بحذر في طلبات الحركة للاعتراف الرسمي بها.
4- تزايد احتمالية وقوع انقلابات في دول الساحل بغرب إفريقيا؛ وذلك بسبب التوترات المدنية العسكرية المستمرة، وتزايد استياء الجمهور من فشل النخب الحاكمة في تحسين الحوكمة ومستويات المعيشة، وزيادة الشركاء الأجانب الراغبين في التغاضي عن الحكم العسكري للتركيز على المصالح الأمنية الضيقة مثل: وقف تدفقات المهاجرين، واحتواء المنافسين الجيوسياسيين. ويُرجح التقرير استفادة روسيا من هذه الاضطرابات عبر تقديمها دعماً خطابياً، وفي بعض الحالات دعماً على الأرض للأطراف التي تسعى للإطاحة بالأنظمة القائمة.
5- ثبات الوضع الراهن في دول أمريكا اللاتينية، ففي هايتي، يستمر عجز الحكومة (استقالت بعد صدور التقرير) عن مواجهة عنف العصابات المسلحة خاصةً في العاصمة بورت أو برنس التي تصفها المنظمة الدولية للهجرة بأنها "مدينة تحت الحصار"، وذلك بسبب نقص الموارد وتحديات الفساد وافتقاد التدريب المهني اللازم، ومعارضة العصابات لنشر أي قوات أجنبية. وفي فنزويلا، يتوقع التقرير احتفاظ الرئيس نيكولاس مادورو بمنصبه في انتخابات الرئاسة في يوليو 2024؛ بسبب سيطرته على مؤسسات الدولة المؤثرة في العملية الانتخابية، ودعم الصين وإيران وروسيا لنظامه في التهرب من العقوبات.
التهديدات عبر الوطنية:
يهتم مجتمع الاستخبارات الأمريكي بهذا النوع من التهديدات بسبب تشابكها مع التهديدات الموجهة من الفاعلين الحكوميين، وتوقع ازدياد حدتها في السنوات المقبلة. ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- الفضاءات المتنازع عليها، مثل: التكنولوجيا المزعجة (Disruptive technology)، وأسلحة الدمار الشامل، وهي فضاءات تسهم في ازدهار الاقتصاد الأمريكي، ولكنها تخلق في الوقت نفسه تحديات من الدول المنافسة مثل: الصين وروسيا. فعلى سبيل المثال؛ تُعد الشركات الصينية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي الرائدة على مستوى العالم من حيث التعرف على الصوت والصورة وتحليلات الفيديو وتقنيات المراقبة الجماعية، وتستخدم روسيا الذكاء الاصطناعي للتزييف العميق وتطوير القدرة على خداع الخبراء. ويرجح التقرير أن يكون الأفراد في مناطق الحرب والبيئات السياسية غير المستقرة هم الأهداف المثالية لمثل هذا التأثير الروسي الخبيث. وفي مجال التكنولوجيا الحيوية، تزداد المنافسة الدولية بين الولايات المتحدة والصين في مجالات مثل: الطب الدقيق والبيولوجيا التركيبية والبيانات الضخمة.
2- المجالات المشتركة، وتشمل التغير البيئي والطقس القاسي، والتهديدات الخاصة بالأمن الصحي، والهجرة الناتجة عن الصراع والعنف وعدم الاستقرار السياسي والظروف الاقتصادية السيئة والكوارث الطبيعية خاصةً تجاه نصف الكرة الغربي. وتؤثر الهجرة بصورة رئيسية في الأمن القومي الأمريكي؛ إذ تُلقي دول مثل: كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا باللوم على العقوبات والسياسات الأمريكية في الهجرة غير النظامية من بلدانها. وسيكون من الأرجح أن يؤدي تخفيف نيكاراغوا لمتطلبات منح الفيزا للمواطنين من هايتي إلى زيادة جديدة في الهجرة غير النظامية المتجهة إلى الولايات المتحدة. وفي هذا السياق؛ أعرب كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، خلال جلسة الاستماع في الكونغرس بشأن التقرير، عن قلقه من "تداعيات استهداف الإرهاب المحتمل لنقاط الضعف على الحدود"، مشيراً إلى أن التهديد قد ذهب "إلى مستوى جديد تماماً".
3- الفاعلون من غير الدول، ويشمل ذلك خطر الجريمة المنظمة عبر الوطنية، والاتجار بالبشر، والإرهاب العالمي، والشركات الأمنية والعسكرية الخاصة. ففيما يتعلق بالإرهاب؛ يشير التقرير إلى تحول مركز الثقل في "الجهاد العالمي ذي المرجعية السنية" إلى إفريقيا، وإلى اهتمام الإرهابيين بشن هجمات باستخدام المواد الكيميائية والبيولوجية والمشعة ضد الأشخاص والحلفاء والمصالح الأمريكية، ويشمل ذلك حركة الشباب في الصومال وشمال شرق كينيا، وفروع داعش في الصحراء الكبرى وغرب إفريقيا التي تنشط في نيجيريا ومنطقة الساحل، فضلاً عن داعش خراسان في أفغانستان، وحزب الله في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الأنشطة عبر الوطنية للمتطرفين العنيفين ذوي الدوافع العنصرية أو العرقية، خاصةً أولئك الذين ينادون بتفوق الجنس الأبيض، والذين يشكلون تهديداً للمواطنين الأمريكيين سواء من خلال الهجمات الفردية أم عبر الخلايا الصغيرة.
وضع الشرق الأوسط:
إذا كانت التهديدات السابقة تتعلق بصورة مباشرة بالأمن القومي الأمريكي، فإن عدداً منها يرتبط ارتباطاً مباشراً بالأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. فبالإضافة إلى السياسات الإيرانية ونشاط وكلائها في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، أشار التقرير في ثناياه إلى ما يلي:
1- بقاء حركة حماس، فبالرغم من أن الهدف الإسرائيلي المُعلن بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023 هو القضاء التام على حركة حماس، فإن التقرير يشير إلى تمتع الحركة بدعم شعبي واسع، ويتوقع بقاءها لسنوات مقبلة، واستمرارها في فرض مقاومة مسلحة طويلة الأمد على إسرائيل التي سوف يكافح جيشها "من أجل تحييد البنية التحتية تحت الأرض لحماس، والتي تسمح لعناصرها بالاختباء، واستعادة قوتهم، ومفاجأة القوات الإسرائيلية". ويرجح التقرير أن يعتمد مستقبل حماس بعد حرب غزة على قرارات إسرائيل بشأن كيفية التعامل مع القطاع في أعقاب انتهاء حملتها العسكرية، وكذلك حجم ونطاق دعمها للسلطة الفلسطينية التي تكن عداءً للحركة، على حد تعبير التقرير.
2- احتمالية غياب نتنياهو عن المشهد السياسي الإسرائيلي؛ إذ أشار التقرير إلى تعرض قدرة نتنياهو على البقاء كزعيم للخطر مع ازدياد الشعور بعدم قدرته على الحكم بين الإسرائيليين، وتوقع خروج احتجاجات كبيرة تطالب باستقالته وإجراء انتخابات جديدة. ومع أن التقرير لم يحسم مدى تطرف الحكومة القادمة، فإنه أشار إلى احتمال تشكيل حكومة مختلفة وأكثر اعتدالاً وفقاً للمعايير الأمريكية. وقد أثار هذا التقرير تعليقات غاضبة من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى درجة دفعته إلى نشر تصريح على لسان مصدر مسؤول في جريدة "تايمز أوف إسرائيل"، يوم 12 مارس الجاري، مفاده أن ذلك التقرير يُعد محاولة للإطاحة بنتنياهو، وأن مواطني إسرائيل هم الذين فقط ينتخبون حكومتها.
3- احتمالية تحول السودان مرة أخرى ليصبح بيئة خصبة لعمل الشبكات الإرهابية والإجرامية، وذلك بفعل استمرار الأزمة السودانية الحالية، واحتمالية قيام جهات خارجية بتقديم مزيد من الدعم العسكري لطرفي الصراع سواء القوات المسلحة السودانية أم قوات الدعم السريع، وهو الأمر الذي من المُرجح عند حدوثه أن يعوق أي تقدم في أي محادثات سلام مستقبلية.
4- تزايد توجه بعض دول المنطقة مثل تركيا للاعتماد على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة؛ بهدف تعزيز مصالحها في الخارج أو حمايتها، وذلك ضمن سياق عالمي من المُرجح أن يشهد زيادة في الاعتماد على خدمات هذه الشركات، ولاسيما لدول مثل: الصين وروسيا، وتحديداً الأخيرة التي تنشط في الشرق الأوسط وإفريقيا. وينوه التقرير إلى أنه في مقدور أي دولة بناء وتطوير أنشطة أي شركة عسكرية أو أمنية خاصة على نطاق صغير في غضون عام إلى عامين، وإن اختلف ذلك بالطبع عن شركة "فاغنر" التي عملت كقوة بالوكالة عن روسيا.
وفي إطار التعليق الختامي على التقرير السنوي لمجتمع الاستخبارات الأمريكي عن التهديدات العالمية لعام 2024، تمكن الإشارة إلى أن غالبية ما جاء به من استنتاجات، تتفق مع الرؤى الغربية السائدة بشأن سلوك القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، والتي بالضرورة تقابلها رؤى مغايرة تطرحها القوى الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة، وإن كانت خطورته الأساسية أن كثيراً مما جاء به سيتم اختباره أولاً في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها مصدراً لكثير من الصراعات المباشرة وغير المباشرة حول العالم.