أخبار المركز
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (سيطرة تبادلية: السيناريوهات المُحتملة لانتخابات الكونغرس الأمريكي 2024)
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"

المعضلة السورية:

هل تمثل "مقبرة" للطموحات التركية الإقليمية؟

20 ديسمبر، 2014


إعداد: أحمد عبدالعليم

في خضم التفاعلات المتشابكة والمعقدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وما استتبعه ذلك من تأثيرات مختلفة على دول المنطقة، خاصةً مع ظهور تنظيم "داعش"؛ تبدو تركيا في موقف بالغ التعقيد، فهي من ناحية متأثرة بشكل سلبي من تداعيات أحدث الثورات العربية، ومن ناحية أخرى متأثرة بالموقف المتأزم في كلٍ من سوريا والعراق، وما يمكن أن يصدراه من مشكلات لتركيا نظراً لأن هاتين الدولتين تتشاركان الحدود معها.

ويظل النزاع السوري هو المعضلة الأبرز التي تواجه أنقرة، خاصة أن المشهد الجديد الآخذ في التشكل خلال السنوات الثلاث الأخيرة لم يَعد تُجدي معه "سياسة تصفير المشكلات" التي انتهجتها تركيا خلال سنوات ما قبل الثورات العربية، وحاولت من خلالها تأسيس شراكة إيجابية مع مختلف دول المنطقة، ففي ظل تلك المعطيات الجديدة تحاول تركيا الخروج بأقل الخسائر، والبحث عن سياسة خارجية متوازنة تكفل لها تحقيق مصالحها.

في هذا الإطار، تأتي دراسة "هنري باركي "Henri J. Barkey أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي الأمريكية، المعنونة: "المعضلة السورية لتركيا"، والتي يسعى من خلالها إلى توضيح أوجه تأثير النزاع السوري على تركيا إقليمياً ودولياً، ومدى قدرة أنقرة على تبني سياسة خارجية تتسم بقدر من المرونة والتوازن.

تركيا ومعضلة الأكراد

يبدأ "هنري باركي" دراسته بتناول القتال الحادث بين "داعش" وبين مدينة كوباني السورية الكردية على الحدود مع تركيا، حيث إنه في الأسابيع الأولى من شهر أكتوبر 2014، وقف قادة الجيش التركي مدعومين بالدبابات يراقبون عن كثب المعركة الدائرة في كوباني، ورفضت أنقرة خيار التدخل لأنها فضّلت سقوط المدينة الكردية نظراً للعداء التاريخي بين تركيا والأكراد، وهو خيار جعلها لا تدخل في مواجهة مع "داعش" القريبة من حدودها.

من جانب آخر، كان "داعش" أفرج عن 49 رهينة كان قد اختطفهم من مقر القنصلية التركية في الموصل (شمال العراق) من دون أن يصيبهم بأذى، في خطوة فسّرها البعض بريبة وشك عما يمكن أن تكون قد أبرمته أنقرة من صفقة مع "داعش" من أجل إطلاق سراح هؤلاء الرهائن.

وفي ظل هذه الأحداث تواجه تركيا - نتيجة الوضع القائم في كوباني - مشكلة تعاطف أكراد تركيا مع أكراد كوباني في مواجهة "داعش"، كما تواجه مشكلة أخرى، تتمثل في قرار بعض الأتراك القتال بجانب "داعش" والانضمام للجهاديين.

ويرى الكاتب أن تصاعد وتيرة هذه الأحداث يؤكد أن أنقرة وواشنطن كانتا غافلتين عن التحول الإقليمي الذي سببته الأزمة السورية، والذي امتد إلى العراق ولبنان، بالإضافة إلى الصراعات الطائفية والإثنية التي قد تحتاج سنوات أو عقوداً من أجل تجاوزها، حيث مثّلت أزمة كوباني شكلاً جديداً من أشكال الصراع في الشرق الأوسط في ظل وجود عدد كبير من الأكراد في بلدان المنطقة، وهو ما عزَّز التطلعات القومية لدى الأكراد.

ويبدو استمرار الرئيس السوري "بشار الأسد" على رأس السلطة بمنزلة انتكاسة لتركيا التي تحاول بكل جهدها إسقاطه، فبعد ثلاث سنوات من الحرب الأهلية وجهد أنقرة الكبير في محاولة إسقاط "الأسد" عن طريق دعم الجماعات المسلحة ضده، تواجه أنقرة فشلاً ذريعاً، خاصة في ظل رفض واشنطن إنشاء مناطق حظر طيران في سوريا، ولذلك اتجه "أردوغان" في ظل صمود "الأسد" وتعنت الولايات المتحدة إلى المراهنة على جماعات المعارضة الجهادية؛ وهو ما أدى إلى انهيار سياسة تركيا الخارجية مع عدد من دول المنطقة، خاصة في ظل تداعيات الثورات العربية وانهيار بعض الأنظمة وسقوط الحليف الإخواني لتركيا في مصر، كل هذه الأمور جعلت الخيارات السياسية والاستراتيجية لتركيا معقدة للغاية.

نهاية "سياسة تصفير المشكلات"

يتطرق "هنري باركي" إلى أن تركيا وسوريا كانتا قد حققتا تقدماً ملموساً في علاقاتهما بعد سنوات من التوتر بفضل السياسة الخارجية التركية التي انتهجها وزير خارجية تركيا آنذاك داوود أوغلو، والمعنية بتصفير مشكلات تركيا مع دول المنطقة، حيث أنهت هذه السياسة سنوات من الخلاف بين البلدين، وصلت إلى ذروتها في تسعينيات القرن الماضي، نتيجة دعم سوريا حزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا.

لكن السياسة الخارجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، هدفت إلى بناء نفوذ تركي في منطقة الشرق الأوسط وخارجه، وارتكزت بالأساس على اقتصاد نشط قادر على التعامل مع الجميع، إلى جانب روابط قوية مع كل من أوروبا والولايات المتحدة، وعلاقات وثيقة مع الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، انطلاقاً من التقارب التاريخي والثقافي؛ وبالتالي فإن الحزب الحاكم سعى من أجل جعل تركيا قوة عالمية بقيادة طموحة، خاصةً بعد أن عزّز من سيطرته عام 2007، وأصبح "أردوغان" زعيماً بلا منازع في تركيا.

وبعد الثورات العربية وما تبعها من سقوط الأنظمة في (تونس، ليبيا، ومصر)، وما حدث من أزمة في سوريا، وجدت تركيا نفسها في موقف صعب للغاية، خاصةً في التعامل مع سوريا، حيث طلبت تركيا في البداية من "الأسد" عمل بعض التغييرات في نهج الحكم، إلا أنه ومع تصاعد أعمال العنف ضده، بدأت أنقرة تطالب الرئيس السوري بالاستقالة الفورية، بل وساعدت بشكل سريع في تنظيم المعارضة ضده من خلال استضافة مؤتمرات المعارضة في اسطنبول، ومع الوقت توصلت تركيا لوسيلة أكثر فاعلية في محاربة "الأسد" وهي مواجهته عن طريق الجهاديين، وبالفعل غضّت الطرف عن تحركات الجهاديين على الحدود باتجاه سوريا، بل وأمدّتهم بالعتاد والأسلحة، وهو ما يثير قلق الغرب والولايات المتحدة.

تأثيرات النزاع السوري على تركيا

تتناول الدراسة الآثار الناجمة عن النزاع السوري، وهو نزاع له عواقب وخيمة ومباشرة على تركيا، وذلك على عدة مستويات مختلفة وبدرجات متفاوتة من التعقيد. لكن يظل الأثر الأبرز هو أزمة تدفق عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى تركيا، والذين فروا من الحرب في البلاد، حيث يُقدر عددهم بحوالي مليون لاجئ سوري. وقد حاولت أنقرة التعامل مع هذه الأزمة بتوفير مخيمات للاجئين وتسهيلات أخرى لها تكلفة عالية. هذا علاوة على أن عدداً كبيراً من السوريين قد اندمجوا في المجتمع التركي، وبدأوا في عمل مشاريعهم الخاصة، وبعضهم اتجه إلى العمل بأجور منخفضة وبعضهم اتجه إلى التسول.

وقد سببت أزمة اللاجئين أربع مشكلات للدولة التركية، أولها التكلفة الهائلة من استضافتهم، حيث أنفقت أنقرة حوالي 4 مليارات دولار حتى الآن، وقد تلقت حوالي مليون دولار من الأمم المتحدة وبعض الدول. الأمر الثاني هو حدوث احتكاكات وتوترات بين الأتراك من جانب والسوريين من جانب آخر، مما حدا ببعض الأتراك إلى تنظيم تظاهرات ضد اللاجئين السوريين، بل وطردهم من المنازل والمحال التجارية، وهو ما أجّج مشاعر الأتراك تجاه العرب بشكل عام.

من جهة ثالثة، من غير المحتمل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم حتى لو أقدم النظام السوري على عمل تسوية لوجود أزمة ثقة بينهم وبين النظام القائم. وأخيراً يُشكّل اللاجئون مشكلة أمنية لأنهم ومن دون قصد قد يصبحون غطاء لتحركات مقاتلي "داعش" ووكلاء الحكومة السورية الذين يعملون كطابور خامس في تركيا.

ومن ضمن الآثار السلبية للوضع السوري على تركيا الإضرار بطرق التجارة والشاحنات التركية التي لم تعد قادرة على اجتياز سوريا للوصول إلى دول الخليج العربية.

ويظل الأثر الأكبر للنزاع السوري على وضع تركيا الإقليمي والدولي هو تماشي السياسة التركية مع قطر الداعمة لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يضع أنقرة في موقف حرج مع عدد كبير من دول المنطقة، خاصة بعض دول الخليج، بالإضافة لموقف العداء الواضح إزاء مصر.

كذلك، فإن تركيا تواجة أزمة مع الولايات المتحدة، على الرغم من أن الجانبين في حاجة إلى بعضهما البعض لإدارة الأزمات في المنطقة، حيث إن واشنطن تعارض نهج أنقرة القائم بضرورة الإطاحة بالأسد كأولوية قبل أي شيء، ومن ناحيتها تعارض تركيا نهج الولايات المتحدة القائم على ضرورة مواجهة "داعش" كأولوية، ولذلك امتنعت تركيا عن الانضمام للتحالف الدولي ضد "داعش"، كما أن نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن" قد أعلن عن إحباطه إزاء دعم تركيا لبعض الجهاديين، وهو ما حدا بتركيا إلى الاستجابة بشكل نسبي للضغوط الأمريكية بعدم تسهيل عبور الجهاديين إلى سوريا وتعطيل أي أنشطة تخص "داعش"، وكذلك قررت تركيا السماح للبشمركة العراقية بالعبور من أراضيها إلى سوريا من أجل كسر الحصار في بلدة كوباني، وهو طلب كانت قد تقدمت به الولايات المتحدة في وقت سابق لتركيا.

سوريا ونهاية طموحات تركيا الإقليمية

يطرح "هنري باركي" تساؤلين مهمين، يتعلق أولهما بكيفية إدارة تركيا للأزمات الموجودة على حدودها لوقت أطول، خاصةً الأزمة السورية، وعن مدى قدرتها على التعامل مع الوضع المتشابك والمعقد في المنطقة، والذي لم يعد يتسع للحياد وبات فيه اتخاذ أي موقف أو توجُّه هو بالضرورة في غير صالح مواقف وتوجهات دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط.

التساؤل الآخر يرتبط بالتوقيت الذي يمكن أن تصل فيه أنقرة لنقطة الانهيار، خاصة في ظل تصاعد مشكلة اللاجئين، وضغط الحلفاء، وفقدان القوة في القضية الكردية في ظل تشكل فاعلين جدد في المنطقة، بالإضافة إلى تساهل تركيا مع بعض الجماعات الجهادية ودعمها المستمر للإخوان، وهو ما أدى إلى سوء علاقتها بكل من مصر والمملكة العربية السعودية، حيث إن الحكومة التركية يتم النظر إليها من قِبل الغرب بنوع من الشك والريبة، وهي نظرة لا تختلف عن نظرة عدد كبير من دول المنطقة، كما أنه في ظل بقاء "الأسد" واستمرار النزاع القائم في سوريا فإن التوتر بين تركيا والغرب سيظل قائماً.

ختاماً، تخلص الدراسة إلى أن سوريا باتت معضلة كبيرة بالنسبة لتركيا، فأردوغان راهن من البداية على سقوط "الأسد"، لكنه لم يسقط ومازال يقاوم بل ويتقدم في مناطق مختلفة، وكذلك فإن سوريا أصبحت تصدر مشكلات لتركيا على نطاق أوسع، خاصةً فيما يتعلق بمشكلة اللاجئين، وبدت أنقرة مع الوقت تخسر رهاناتها في التأثير والقدرة على النفوذ في دول الثورات بشكل يخدم طموحاتها الإقليمية، لاسيما بعد سقوط  نظام الإخوان في مصر، التي كانت قد أوشكت أن تصبح تابعة لتركيا بسيدها العثماني الجديد، وبالتالي فإن الحلم التركي بالازدهار والتوسع بات صعب التحقُّق بالشكل المأمول.

* عرض موجز لدراسة: "المعضلة السورية لتركيا"، والمنشورة في ديسمبر 2014 عن دورية Survival: Global Politics and Strategy، الصادرة عن معهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS).

المصدر:

Henri J. Barkey, Turkey's Syria Predicament, Survival: Global Politics and Strategy, Volume 56, Number 6) London, International Institute for Strategic Studies, December 2014 – January 2015) pp 113 -134.