بادرت إيران بالإعلان عن استعدادها لاستقبال الفتيات الأفغانيات الراغبات في تلقي تعليمهن الجامعي، عقب اتخاذ حركة طالبان قراراً بإغلاق الجامعات الحكومية والخاصة أمام الفتيات في عموم أفغانستان، إلى أجل غير مسمى، بحجة عدم الالتزام بالزي الإسلامي والقيم الإسلامية، وذلك حسب تصريح وزير التعليم العالي في حكومة طالبان، ندا محمد نديم.
ويأتي قرار طهران بتقديم تسهيلات للأفغانيات لدخول الجامعات الإيرانية، في وقت يمارس فيه النظام الإيراني انتهاكات واضحة بشأن حقوق المرأة وحريتها، على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ حوالي 4 أشهر. ويطرح ذلك تساؤلات حول أهداف النظام الإيراني من هذا القرار الذي يعني ضمنياً استقبال عدد إضافي من النازحين واللاجئين الأفغان، وهو ما سعت إيران لتقليصه بترحيل ما يقرب من 100 ألف نازح، ووقف استقبال نازحين جدد داخل البلاد، كما شددت إجراءات تصاريح الحصول على الإقامة، وضيقت سُبل العيش على العديد من اللاجئين غير الثبوتيين، حسب العديد من التقارير الحقوقية.
توقيت حرج:
في خطوة مفاجئة أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية، في 24 ديسمبر الماضي، استعداد بلادها لمساعدة الفتيات الأفغانيات بعد تعليق حركة طالبان تعليم الطالبات في الجامعات الأفغانية، موضحة أن هذا الأمر قد يتم عبر طرق مختلفة منها التعليم الحضوري، والتعليم عن بُعد. وجاء ذلك في بيان للوزارة أعربت فيه عن أسفها لتعليق تعليم الفتيات في الجامعات الأفغانية، آملةً في أن تزيل طالبان العقبات بسرعة وتمهد الطريق أمام تعليمهن.
كما أكد مساعد وزير العلوم الإيراني، علي رضا عنايتي، رفع ميزانية جامعة طهران للمنح الدراسية للطلاب من أفغانستان بما يعادل خمسة أضعاف، خاصةً للفتيات خلال العام الدراسي الحالي. وأشار عنايتي إلى إعلان عدد من الجامعات الإيرانية عن استعدادها لقبول الطالبات الأفغانيات إلى أن يتم رفع القيود عنهن، ومنها جامعة الزهراء في طهران التي أبدت استعدادها قبول 50 طالبة، وجامعة حضرة المعصومة في قم بقبول 300 طالبة حضورياً، و1000 طالبة بنظام التعليم عن بُعد.
وقد جاء ذلك القرار الإيراني في ظل ملابسات عدة، أولها: توتر العلاقة بين النظام الإيراني وحركة طالبان الأفغانية، مع تصاعد حدة التوتر في أكثر من ملف خلافي خلال الفترة الماضية، لعل أبرزها الاشتباكات الحدودية المتكررة بسبب النزاع المائي التاريخي بين البلدين، وسوء معاملة اللاجئين الأفغان في إيران خلال الفترة الماضية. ودعا الانتقاد الإيراني لقرار طالبان حول منع تعليم المرأة في أفغانستان، قادة الحركة للتعليق على هذا الانتقاد، بدعوة النظام الإيراني إلى "الاهتمام بمشاكله"، حيث نشر حساب وزارة خارجية طالبان على موقع "تويتر" رداً مفاده "الأفضل لهم إقناع النساء المحتجات في بلادهم، وألا يحاولوا، باسم التعاطف، لفت النظر عن مشاكلهم الداخلية إلى بلدنا". وثانيها: تعرض النظام الإيراني لانتقادات داخلية وخارجية غير مسبوقة، عبّر عنها الداخل باحتجاجات هي الأعنف في تاريخ البلاد، وعبّر عنها الخارج بفرض عقوبات دولية على مؤسسات وكيانات متورطة في قمع المتظاهرين.
تناقض طهران:
يحمل إعلان طهران استعدادها لمساعدة الأفغانيات في الحصول على التعليم، تناقضاً واضحاً مع ممارسات النظام الإيراني الفعلية على الأرض، سواء على صعيد التعامل مع اللاجئين والنازحين الأفغان، أو مع حقوق المرأة في إيران والقيود المتزايدة التي يسعى لفرضها عليها. ويمكن الإشارة إلى هذا التناقض الإيراني من خلال ما يلي:
1- ترحيل إيران نازحين واستعدادها لاستقبال مبتعثات جدد: تعد إيران واحدة من أكبر الدول المُستقبلة للاجئين الأفغان، حيث يبلغ عدد الأفغان فيها حوالي 4 ملايين لاجئ ونازح، يعيش منهم نحو 2.3 مليون من دون أوراق ثبوتية، ويقطن أغلب اللاجئين الأفغان في المدن الإيرانية الكبرى مثل أصفهان وخراسان وطهران وكرمان، لا سيما الأخيرة التي تؤوي ما يزيد على 300 ألف أفغاني، وبما يمثل 10% من تعداد سكانها.
ومنح النظام الإيراني عدة مزايا للاجئين الأفغان، منها توفير التأمين الصحي، وإمكانية الدراسة داخل الجامعات والمدارس الإيرانية. بيد أن الأزمات المستمرة التي يعانيها الاقتصاد الإيراني جراء العقوبات المفروضة عليه، وعدم التزام المؤسسات الدولية المعنية بمساعدة النظام الإيراني في تحسين الظروف المعيشية للاجئين، فضلاً عن تداعيات جائحة كورونا على الداخل الإيراني؛ قد أسهمت في تغيير سياسة النظام تجاه هؤلاء اللاجئين، وبصفة خاصة مع تزايد أعداد النازحين عقب سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، حيث منعت إيران دخول مزيد من النازحين إلى البلاد، مكتفية بتسكينهم لفترة قصيرة في مخيمات حدودية تمهيداً لعودتهم مرة أخرى إلى مدنهم وقراهم في الداخل الأفغاني.
ونظراً لتزايد هذه الضغوط الاقتصادية، بدأت موجات من العنف تظهر تجاه اللاجئين الأفغان، وتصاعدت دعوات إعادتهم إلى بلادهم، وبصفة خاصة بعد تورط أفغان في حوادث اغتيال رجال دين سُنة وشيعة في إيران، حيث انتشرت مقاطع فيديو توضح سوء معاملة إيرانيين للاجئين أفغان وتوجيه الإهانة لهم، الأمر الذي دفع حركة طالبان إلى إبداء اعتراضها على سوء معاملة اللاجئين في إيران.
وعلى الجانب الآخر، فإن قرار طهران استقبال مزيد من الطالبات الأفغانيات وتقديم مساعدات لهن في الحصول على أماكن للإقامة وتسهيلات في أوراق الالتحاق بالجامعات، يعني توافد أعداد أخرى من اللاجئات والطالبات. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها أفغانستان، لا يُتوقع أن تكون كل الطالبات الأفغانيات المتقدمات بطلبات للحصول على فرص الالتحاق بالجامعات الإيرانية، قادرات على تحمل تكلفة الإقامة والتعلم في إيران من دون الانضمام لبرامج الدعم التي ما زالت توفرها الدولة للمقيمين الأفغان في البلاد.
2- قمع الإيرانيات في مقابل الحرص على تعليم الأفغانيات: على الرغم من أن النظام الإيراني لا يمنع الفتيات الإيرانيات من التعليم، بل يشجع على تلقي التعليم الجامعي وبعد الجامعي لكل فئات المجتمع، فإنه يفرض قيوداً أخرى على المرأة في إيران تتصل بمظهرها، وكيفية اختلاطها في الحياة العامة، إذ يحظر عليها الوجود في حفلات عامة مختلطة، وحضور المباريات الرياضية، والخروج من دون حجاب.
وشهدت الأشهر الماضية مزيداً من التقييد على النساء في إيران، وذلك بفرض أحد أكثر القوانين إثارة للجدل في البلاد، والذي ظل حبيساً في الأدراج لسنوات طويلة، وهو قانون الحجاب والعفة الذي أقره الرئيس إبراهيم رئيسي في 15 أغسطس 2022، وأعقبته تظاهرات لم تتوقف حتى الآن في الشوارع الإيرانية، بدأت بالاعتراض علي فرض الحجاب وتعريض غير الملتزمات به لعقوبة الحبس، والخضوع لجلسات إرشادية من قِبل شرطة الأخلاق التي تشكلت بموجب القانون لمراقبة حجاب النساء في الأماكن العامة، ووصلت إلى الاحتجاج على وفاة الفتاة مهسا أميني عقب اعتقالها من قِبل شرطة الأخلاق بثلاثة أيام، ثم المطالبة بتغيير النظام الإيراني.
وبالتالي جاء قرار إيران بفتح أبواب جامعاتها للفتيات الأفغانيات ليعرض النظام الإيراني للاستهجان في الداخل والخارج؛ نظراً لكيله بمكيالين تجاه المرأة، حيث يصطف خلف الأفغانيات إزاء منعهن من التعليم، بينما يمارس أشد أنماط القمع تجاه المرأة الإيرانية.
هدفان أساسيان:
على الأرجح، يسعى النظام الإيراني من خلال قراره بشأن مساعدة الأفغانيات في تلقي تعليمهن الجامعي في إيران، إلى تحقيق العديد من الأهداف، وأبرزها ما يلي:
1- تبييض وجه النظام الإيراني فيما يخص حقوق المرأة: إذ يعد ملف حقوق الإنسان وحرية المرأة من أكثر الملفات الخلافية بين إيران والغرب، وأكثرها إثارة للانتقادات الدولية. وتزايدت هذه الانتقادات بشكل كبير عقب إقرار قانون الحجاب والعفة، وممارسة وحدة شرطة الأخلاق عملها في الشارع الإيراني بعنف شديد تجاه الفتيات غير الملتزمات بالحجاب المناسب. وجدير بالذكر أن العديد من مقاطع الفيديو قد وثقت هذا العنف قبل وفاة مهسا أميني، حيث ظهر مقطع فيديو عقب أيام قليلة من إقرار قانون الحجاب، يظهر عربة شرطة تابعة لوحدة شرطة الأخلاق بمدينة رشت، تُلقي بسيدة لا تُحكم الحجاب على رأسها على قارعة الطريق، وهو الفيديو الذي أثار انتقادات واسعة لوحدة شرطة الأخلاق التي تسببت ممارساتها في اندلاع أطول موجة احتجاجات تشهدها إيران منذ الثورة الإسلامية، ولم يستطع النظام الحاكم إخمادها حتى الآن.
ويبدو أن النظام الإيراني قد وجد فرصة لتبييض وجهه تجاه الانتقادات الموجهة له على خلفية القيود التي يفرضها على المرأة في الداخل، وذلك من خلال الإعلان عن قبول مزيد من الطالبات الأفغانيات في الجامعات الإيرانية، وربما سعى أيضاً لتوجيه الانتباه ناحية الفرص التعليمية التي تحظى بها المرأة الإيرانية، وكذلك إلهاء الرأي العام الداخلي بمشكلات الخارج وإلقاء الضوء عليها لتشتيت الانتباه عما يحدث في الداخل الإيراني.
2- استقطاب الداخل الأفغاني: مثلما سعت إيران لاستقطاب اللاجئين الأفغان على أراضيها، والاستعانة بهم في تكوين ميليشيات مسلحة تابعة لمؤسسة الحرس الثوري للمحاربة في سوريا، على غرار فيلق "فاطميون"؛ فهي تعمل أيضاً على استقطاب فئات من الداخل الأفغاني، سعياً للحفاظ على النفوذ الإيراني في أفغانستان. وقد بدأت في ذلك من خلال قوافل مساعدات إنسانية للمناطق الشيعية المنكوبة بهجمات تنظيم داعش عليها، ومن خلال مؤسسات خيرية استطاعت أن تجد لها موطئ قدم في أغلب المحافظات الأفغانية، منذ عدة سنوات.
وبحسب مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بعنوان "في أفغانستان، الولايات المتحدة تخرج، وإيران تدخل" (In Afghanistan, U.S. Exits, and Iran Comes In)، بتاريخ 5 أغسطس 2017، يمكن ملاحظة مدى النفوذ الإيراني الناعم في مدينة هرات الأفغانية الواقعة على الحدود الإيرانية المباشرة، والتي يُطلق عليها "إيران الصغرى"، حيث تنتشر فيها المدارس والمكتبات الإيرانية، والعديد من المحال التجارية المملوكة من إيرانيين؛ نظراً لكونها إحدى البوابات الحدودية الرئيسية بين البلدين، كما يغلب على زي النساء في هذه المدينة الشادور الإيراني.
وهكذا، فإن قرار حركة طالبان بحظر تعليم الفتيات في الجامعات، ربما أتاح المجال أمام إيران لاستقطاب المزيد من العائلات الأفغانية القادرة والراغبة في ابتعاث بناتها إلى إيران للحصول على فرصة تعليم جامعي. ولعل هذا الاستقطاب قد تجلت ملامحه من خلال إعداد فتيات أفغانيات أغنية باللغة الفارسية تحمل عنوان "برای دختر همسایه" أي "من أجل ابنة الجار"، كمحاولة لإثناء الفتيات الإيرانيات المحتجات عما وصفته الأغنية بمحاولات السيطرة عليهن من قِبل الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، بأفكار ووعود وصفتها الأغنية بـ "الواهية"، قد تؤدي بإيران للمصير نفسه الذي تعانيه أفغانستان الآن. إذ تبدأ الأغنية بمقطع من حديث الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، عن حقوق المرأة في أفغانستان، فيما تُفجر منازل الأفغان، وتُحرم المرأة من العيش بأمان تحت القصف المستمر، ومن فرص التعليم بعد هدم المدارس. وتنتهي الأغنية بمقطع من حديث الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن حقوق المرأة في إيران، وضرورة دعم التظاهرات الداعية إلى حريتها.
ختاماً، يمكن القول إن تناقض النظام الإيراني بين ما يعلنه من قرارات وما يمارسه من سياسات على الأرض، كما ظهر في إعلانه مساعدة الأفغانيات على تلقي تعليمهن الجامعي في إيران، هو أمر ليس بالجديد، حيث ينتهج النظام الإيراني ذلك النوع من البرجماتية التي تحقق أهدافه حتى وإن بدت أنماط سلوكه متضاربة.