على الرغم من التحديات الراهنة التي يواجهها النظام الإيراني في الداخل والخارج، ما بين ضغوط اقتصادية طاحنة، وأزمة التوافق حول الاتفاق النووي مع الغرب، ومن ثم استمرار تعرض البلاد لحزم العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والاحتجاجات الفئوية والشعبية على سوء الأوضاع المعيشية؛ فقد خلق النظام لنفسه معركة جديدة، بفرض الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مؤخراً قانون "الحجاب والعفة" الذي يضع قيوداً على ملابس المرأة ومظهرها الخارجي في الأماكن العامة، ومقرات العمل.
وجاء ذلك القرار في أعقاب إلزام رئيسي، في اجتماع المجلس الأعلى للثورة الثقافية، مسؤولي الدوائر الحكومية بفرض الحجاب على النساء العاملات في هذه الدوائر، وتشكيل فرق تفتيش تابعة لوزارة الداخلية تجوب دوائر الدولة، بهدف الرقابة على حجاب الموظفات. وهو ما تسبب في موجة من الاحتجاجات في أكثر من مدينة إيرانية نظمتها مجموعة من النساء ضد هذه الإجراءات الجديدة، لتتحول قضية "الحجاب الشرعي" وما يُسمى "الحجاب السيئ" إلى المعركة الأكثر سخونة وإثارة للجدل في الداخل الإيراني، وينتقل الاهتمام بها إلى وسائل الإعلام الأجنبية ووسائل التواصل الاجتماعي.
جدل مُتجدد:
تُعد قضية الحجاب في إيران من أشد القضايا إثارة للجدل وأكثرها امتداداً واستمراراً، ففي عهد الشاهنشاهية اُستخدم "الشادور" للتعبير عن عدم الرضا عن التوجهات الغربية والانفتاحية للشاه رضا بهلوي، لاسيما عقب إصداره قانوناً ينص على نزع الحجاب، وجعله تاريخ إصدار هذا القانون يوماً احتفالياً أسماه "يوم حرية المرأة"، ما اعتبره المجتمع تضييقاً على حريته، وتمييزاً ضد فئة من الشعب، وهو ما دعا بعض النساء غير المحجبات لارتدائه خلال التظاهرات المنددة بالقانون. ولم تقتصر التظاهرات ضد الشاه على فئة المحجبات فقط، بل إنه وبالرجوع إلى الصور الفوتوغرافية التي وثقت الثورة والاحتجاجات ضد الشاه في الميادين، يُلاحظ أنها تُظهر النساء والفتيات بمظهر غربي إلى جانب الرجال، بعكس المظهر الذي تُجبر النساء على الظهور به الآن. كما أنه في وقت نجاح الثورة الإسلامية في إيران، لم يكن الحجاب أحد المظاهر الدينية والاجتماعية الغالبة على النساء خلال هذه الحقبة.
وقد عادت قضية "الالتزام بالحجاب" إلى الواجهة في إيران مُجدداً، عقب فرض قانون "الحجاب والعفة" من قِبل الرئيس الإيراني الحالي، وهو القانون القديم الذي ظل حبيس الأدراج لسنوات طويلة، قبل أن يُثار الحديث بشأنه في يوليو 2022، ويُفرض بشكل رسمي كقانون مُلزم، تستلزم مخالفته العقوبة، وذلك بالتزامن مع نشاط ملحوظ لفرق التفتيش، ووجود مُكثف لشرطة الآداب والأخلاق بدورياتها المنتشرة في الشوارع الإيرانية بهدف التصدي للمظاهر التي تصفها السلطات بأنها "غير إسلامية"، و"تشبه بالغرب"؛ مما أدى إلى إثارة ردود فعل مختلفة على خلفية هذه الإجراءات، وإطلاق حملات تدعمها، وأخرى ترفضها، فيما تسعى السلطات إلى تنظيم حملات إعلامية رسمية لمكافحة ما تسميه بالمظاهر غير الإسلامية في المجتمع.
وفي هذا السياق، شهد شهر يوليو الماضي إطلاق حملة "لنزع غطاء الرأس في إيران"، وتحديداً في "اليوم الوطني للحجاب والعفة" الذي يُصادف 12 يوليو من كل عام، من قِبل إيرانيات يرفضن "الحجاب الإجباري"، حيث قامت بعضهن بتصوير مقاطع فيديو لنزعهن أغطية رؤوسهن في مختلف الشوارع الإيرانية، ونشرنها على شبكات التواصل الاجتماعي في الداخل، وقنوات تابعة للمعارضة الإيرانية في الخارج، من خلال نشر هاشتاج: "لا للحجاب". وقد لاقت الحملة انتشاراً واسعاً، بينما أثارت ردود فعل متباينة في الداخل الإيراني بين مؤيدين ومعارضين لها، إذ نشبت العديد من الاشتباكات بين النساء المؤيدات والمعارضات للحملة في وسائل المواصلات والأماكن العامة.
وتجدر الإشارة إلى أن أبرز حملة مُناهضة للحجاب شهدتها إيران عقب الثورة الإسلامية، كانت في مايو 2014 من خلال انطلاق حركة احتجاجية أسستها الصحفية والناشطة مسيح علي نجاد تحت اسم "حريتي السرية" أو "My Stealthy Freedom" ضد الحجاب الإجباري في إيران، أطلقتها من منفاها الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية سجنها في عام 2009 بسبب انتقادها للبرلمان الإيراني.
وقد قادت نجاد الحملة من الولايات المتحدة على حسابها عبر تطبيق "فيسبوك" الذي يتابعه أكثر من مليوني شخص، فيما انضم إليها آلاف النساء على مدار السنوات الماضية، وأطلقت الناشطة حركتها من خلال صورة لها وهي تقود سيارتها من دون حجاب في طريق جبلي، نشرتها على حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بها. وحققت هذه الحركة انتشاراً كبيراً في العالم الافتراضي، وهو ما دفع المناصرات لها إلى تنظيم تظاهرات غير مسبوقة في شوارع إيران. فيما أقدمت نجاد على تحويل حركتها إلى منظمة حقوقية تحمل ذات الاسم "my stealthy freedom"، تدعو إلى حرية المرأة والتحرر من الحجاب الإجباري في إيران. وتلقى هذه المنظمة دعماً واضحاً من الغرب وتُقَدم إليها تبرعات كبيرة لتمويل نشاطها عبر شبكة الإنترنت، فضلاً عن الدعم المباشر الذي تقدمه المنظمة للنساء الإيرانيات خارج البلاد.
ونتج عن التظاهرات، التي جاءت مستجيبة لدعوات حملة "my stealthy freedom"، حسب العديد من التقارير الدولية، حملات أمنية اعتقلت خلالها السلطات الإيرانية حوالي 35 امرأة في عام 2014، فضلاً عن حجز آلاف السيارات لنساء كن يقدن دون ارتداء غطاء الرأس، أو بغطاء رأس "سيئ"، كما تعرضت ما يقرب من 3.6 مليون امرأة للتحذير من تعرضهن لغرامة مالية وحبس خلال عام 2015 بسبب عدم ارتداء الحجاب.
توظيف مُستمر:
خضعت قضية الحجاب في إيران لتغيرات عدة أسهم في تشكيلها مدى تراخي الحاكم أو تشدده تجاه الالتزام به، فيُلاحظ أن فترات حكم الإصلاحيين عادة ما يتراجع فيها الالتزام بارتداء الحجاب الشرعي، لاسيما مع المواقف المرنة التي يبديها الإصلاحيون من قضية الإجبار على ارتدائه وفرض نمط معين له. وتجدر الإشارة إلى أن الصورة التي نشرها الرئيس السابق حسن روحاني على حسابه الخاص على موقع "تويتر" في يناير 2017 برفقة شاب وفتاتين لا ترتديان الحجاب، فتحت المجال أمام الحديث عن استقطاب روحاني لفئة بعيدة عن السلطة والنظام الإيراني المُتشدد قبيل الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بفترة ولاية ثانية. بينما على سبيل المثال، شهدت إيران خلال فترة رئاسة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد أكثر الحقب تعصباً في ملاحقة ومعاقبة غير الملتزمات بالحجاب، بل إن الأمر امتد بشكل أوسع خلال فترة حكم أحمدي نجاد ليشمل ملاحقة الشباب ذوي الشعر الطويل، ومرتدي الملابس الغربية، وتعريضهم للإيذاء البدني والسجن والغرامة من قِبل شرطة الأخلاق.
ويُمكن القول إن توظيف قضية الحجاب في إيران قد اتخذ بُعدين أساسيين، تمثل الأول في البُعد الديني الذي يُعبر عن هوية النظام وأيديولوجيته، والآخر هو البُعد السياسي الذي يسعى للحفاظ على مصالح النخبة واستقرارها، وذلك على النحو التالي:
1- البُعد الديني: اختار النظام الذي تم ترسيخه عقب نجاح الثورة الإسلامية في إيران أن يعكس زي المرأة الإيرانية هوية النظام الإسلامية، حيث فرض الحجاب الإلزامي في 7 مارس 1979 على النساء، غير أن الاحتجاجات التي نتجت عن هذا القرار في ذلك الحين قد أجبرت رجال الدين على إبداء مرونة في تنفيذه، والاتجاه إلى تدريج العمل به، من خلال البدء في فرضه عام 1981 على النساء العاملات في الدوائر الحكومية، وعلى النساء الزائرات للمقرات الحكومية، ثم الطالبات الجامعيات، ثم سائر النساء في البلاد حتى غير المسلمات في عام 1983.
واعتبر النظام الإيراني أن فرض سيطرته الدينية على المجتمع، وفي القلب منه مظهر النساء الإيرانيات، أحد أهم أهدافه للحفاظ على الهوية الدينية للنظام والمجتمع على حدٍ سواء. كما اتخذ المظهر الديني كوسيلة لتمايز المجتمع الإيراني عن محيطه الجغرافي، حيث ساد "الشادور" كحجاب شرعي لسنوات عقب الثورة، وهو زي انفردت به الإيرانيات في تلك الحقبة قبل انتقاله إلى العراق لترتديه النساء اللائي يعتنقن المذهب الشيعي. أيضاً اعتبر النظام الإيراني الحجاب و"الشادور" أحد مظاهر تغلب المجتمع الإيراني على محاولات تدخل الغرب لإفشال نظام الحكم الجديد في إيران، وأحد مظاهر قوته ونفوذه في الداخل الإيراني.
ولا يزال هذا الاعتقاد مُسيطراً على أذهان وأفكار أغلب رجال الدين الأصوليين في إيران حتى الآن، على الرغم من التحولات التي شهدها المجتمع الإيراني خلال الـ 43 عاماً الماضية. وقد انعكس هذا الاعتقاد بوضوح - على سبيل المثال - في تصريح المرجع الديني جعفر السبحاني، رئيس معهد علم الكلام الإسلامي التابع لمؤسسة الإمام الصادق الثقافية التربوية، في أغسطس 2020، قائلاً: "إن تراجع وانخفاض عدد المحجبات في إيران يُشكل خطراً على هوية الدولة، وينبغي أن تُؤخذ قواعد الحجاب والمعايير الدينية في الجامعات على محمل الجد، ويجب أن نكون قادرين على إقناع المجتمع بأن الحجاب هو العامل الأهم في مواجهة حرب العدو الناعمة".
2- البُعد السياسي: سُرعان ما انتقل قرار إلزام الحجاب في المجتمع الإيراني إلى مستوى الرغبة في بسط نفوذ النظام الحاكم وتوجهاته على المجتمع بشكل عام، واستهداف المخالفين لهذه التوجهات من خلال عقوبات تفرضها القوانين الخاصة في هذا الشأن، حيث تغولت لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولجان تفتيش الأخلاق في الشوارع، وأصبحت مُحدداً من مُحددات ممارسة السلطة في البلاد. فمن خلال فيديو انتشر في شهر أغسطس 2022 ظهرت فيه عربة شرطة بمدينة رشت شمال غربي إيران، تُلقي بسيدة غير محجبة في قارعة الطريق عقاباً لها على عدم ارتدائها الحجاب، يتضح أن الأمر بات متروكاً للممارسات الفردية لضباط الشرطة، وأن ثمة تفويضاً بممارسة القمع بحق من لا يستجيب لقرارات النظام خارج نطاق القانون.
وقد امتد التضييق على النساء من قِبل السلطات الأمنية ليشمل أيضاً استهداف الأماكن العامة التي تستقبل غير المحجبات أو اللائي لا ترتدين حجاباً مناسباً، حيث تم إغلاق عدد من المقاهي لهذا السبب، كما تم منع الموظفات غير المحجبات بحجاب مناسب من دخول مقار عملهن في الدوائر الحكومية. علاوة على انتقال هذا التضييق أيضاً من مستوى السلطة إلى المستويات الشعبية، وهو ما عبّر عنه مقطع فيديو لفتاة تصور رجالاً يحرضون ضدها سائقي التاكسي لعدم توصيلها كونها غير محجبة بحجاب ملائم - كما وصفه الرجال الذين ظهروا في المقطع - إلى أن انتهى الفيديو بشجار بين هؤلاء الرجال وآخرين يعترضون على سلوكهم، لينتشر هاشتاج "LetUsTalk#" الذي حذر من فكرة أن النظام الإيراني بات يسعي لإثارة فئات الشعب ضد بعضها، وتقسيمه إلى مؤيد ومدافع عن الدين ومعارض لوجوده ومظاهره.
ومثلما تم توظيف قضية فرض الحجاب سياسياً من قِبل النظام الإيراني، فتحت حملات الاعتراض على الحجاب الإلزامي الطريق أمام تعبير الناشطين والمعارضين عن احتجاجات أوسع تهتم بحرية التعبير بشكل عام في إيران، في الوقت الذي تأتي فيه هذه الحملات في أعقاب احتجاجات فئوية من قِبل مُعلمين ومتقاعدين وعمال وموظفين حكوميين، فضلاً عن تظاهرات أخرى بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية ونقص الخدمات وشح المياه؛ ما دفع التيار الإصلاحي إلى القول إن ما يحدث الآن هو بمنزلة سكب الزيت على النار، وإن خطوة الإجبار على الحجاب في هذا التوقيت مُحبطة.
وفي النهاية، يمكن القول إن ثمة رأياً يُبرر توقيت فرض قانون "الحجاب والعفة" من قِبل النظام الإيراني مفادة أن النظام يريد أن يُبسط سيطرته على الشارع الإيراني بمزيد من القمع، وبقوانين رادعة للمخالفين، ضمن حملة تضييق أوسع نطاقاً على المعارضة، في سبيل التخويف من استمرار الاحتجاجات، من ناحية، والتأكيد، من ناحية أخرى، أنه بالرغم من الضغوط الخارجية التي تواجه النظام وتُلقي بآثارها على الداخل الإيراني، فإن النظام الحاكم ما زال قادراً على اتخاذ قرارات صعبة في توقيت حساس، كرسالة للخارج والداخل في الوقت نفسه.