شهد أغسطس وسبتمبر 2021 حالة من الزخم على المستوى الدولي بشأن تداعيات تغير المناخ على كوكب الأرض، خاصة في ضوء موجة الفيضانات المدمرة التي ضربت مناطق مختلفة من العالم، ومن أبرزها دول في أوروبا الغربية والصين. وعلى الرغم من الاستعداد الدولي لعقد مؤتمر المناخ للأمم المتحدة (COP26) في أوائل نوفمبر المقبل في مدينة جلاسكو الأسكتلندية، فإن التداعيات الكارثية للتغيرات المناخية كانت تدق ناقوس الخطر في صيف 2021، لتحذر المجتمع الدولي بأن شبحاً جديداً بات يخيم على العالم ويهدد بفناء ملايين البشر، يتخطى في قدرته أي مشكلات وأزمات سياسية أو اقتصادية.
وفي هذا السياق، يظهر مفهوم "الأمن المناخي" (Climate Security)، باعتباره حجر الزاوية لفهم المخاطر الأمنية الناتجة بشكل مباشر أو غير مباشر عن التغيرات المناخية، والتي أصبحت حقيقة لا يمكن إنكارها. وشهد المجتمع الدولي خلال الشهرين الماضيين حدثين يمكن أن يعززا من هذا المفهوم؛ الحدث الأول يتمثل في إصدار تقرير "اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" (IPCC) في 9 أغسطس الماضي، والذي كشف عن أن التغيرات الأخيرة في النظام المناخي أصبحت غير مسبوقة منذ قرون، وأن كوكب الأرض يتجه نحو الاحترار الكارثي بمقدار 2,7 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. ولذا، فإن الكوكب بحاجة إلى خفض الانبعاثات بنسبة 45٪ بحلول عام 2030 للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن. أما الحدث الثاني والأقرب إلى تعميق مفهوم الأمن المناخي فهو وضع قضية تغير المناخ على جدول أعمال مجلس الأمن برئاسة أيرلندا في سبتمبر الماضي، حيث توصلت إحدى جلساته إلى نتيجة مفادها أنه لا توجد منطقة محصنة في العالم ضد الكوارث المناخية.
وفي ضوء هذه التحركات، وبالتزامن أيضاً مع مناقشة معرض "إكسبو 2020 دبي" لقضية التغيرات المناخية، يمكن إلقاء نظرة عامة على الآثار الأمنية لتغير المناخ، وكذلك تأثيراته على مؤشرات السلامة الحضرية للدول.
تغير المناخ والأمن:
إن قضية تغير المناخ واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بمخاطر التدهور البيئي، والذي أصبح يُفهم بشكل متزايد منذ تسعينيات القرن الماضي على أنه مشكلة أمنية تتطلب حلولاً سياسية بجانب الحلول العلمية. ووفقاً للدراسات العلمية والتقارير الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، فإن تغير المناخ أصبح محفزاً للندرة Scarcity، وعاملاً للضغط على النظام البيئي، حيث إنه أدى إلى تغيرات في هطول الأمطار ودرجات الحرارة، وبالتالي إعادة تشكيل الخريطة الإنتاجية للغذاء بشكل غير متوازن، أو تفاقم ندرة الغذاء والمياه والطاقة في مناطق متفرقة من العالم، فضلاً عن ارتفاع منسوب المحيطات والبحار، وتآكل طبقة الأوزون، وفقدان التنوع الحيوي، وانتشار الأمراض المُعدية.
وفي هذا السياق، بات تغير المناخ مساهماً بشكل كبير في تفاقم ظاهرة تحركات السكان غير النظامية وغير المستقرة، والتي قد يكون بعضها داخلياً، ولكن آثارها قد تمتد إلى خارج الحدود الوطنية أو في حالة الكوارث الطبيعية الأكثر خطورة والتي تؤدي إلى نقص الموارد بطريقة حادة، وفي هذه الحالة تنتج عنه تدفقات جماعية للسكان خارج الحدود الوطنية للدول.
وقد حدد المجلس الاستشاري الألماني المعني بالتغير العالمي للمناخ 4 مسارات يُحتمل أن تربط تغير المناخ بالصراع؛ وهذه المسارات هي: 1) تدهور موارد المياه العذبة؛ 2) انعدام الأمن الغذائي؛ 3) زيادة وتيرة الكوارث الطبيعية وشدتها؛ 4) وزيادة أنماط الهجرة أو تغييرها. وفي هذا الصدد، يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أن التغيرات المناخية أصبحت تؤثر سلباً على قدرات المجتمعات التكيفية، وبالتالي المساهمة في زعزعة استقرارها، ما يؤدي إلى مخاطر أمنية لا حصر لها. ولذا، كان يتعين إدخال "الأمن" كعنصر محوري للتعامل مع مثل هذه المخاطر التي يمكن أن تهدد الدول وهوية الجماعات، وتخلق تربة خصبة للتطرف والفقر والصراعات الدامية.
وارتباطاً بذلك السياق، طور "شيفران" (Scheffran) نموذجاً متكاملاً لفهم العلاقة السببية بين تغير المناخ والموارد الطبيعية، والأمن الإنساني، والتداعيات المجتمعية. ويمكن رصد هذه العلاقة فيما يلي:
1- إن التغيرات في النظام المناخي، مثل الزيادات في تركيز الغازات الدفيئة وارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار، تؤثر على النظم البيئية والموارد الطبيعية (مثل التربة والمياه والنظم الإيكولوجية والغابات والتنوع البيولوجي) من خلال سلسلة من التفاعلات المعقدة.
2- يمكن أن يكون لمثل هذه التغيرات في الموارد الطبيعية آثار ضارة على البشر وقدراتهم، ما قد يثير ردود فعل بشرية يمكن أن تؤثر على النظم الاجتماعية.
3- اعتماداً على مدى ضعف وهشاشة الأنظمة، يزداد التوتر الاجتماعي والاقتصادي؛ نتيجة لانعدام الأمن الغذائي والمائي، والمشاكل الصحية، والهجرة، والتدهور الاقتصادي، وضعف المؤسسات، وتضاؤل النمو الاقتصادي، وتآكل المجتمعات.
4- كل هذه المظاهر تؤدي إلى عدم الاستقرار المجتمعي، ومن ثم بروز أشكال متعددة من العنف، مثل القيام بأعمال الشغب أو انتشار حركات التمرد، والتظاهرات، وانتشار الجريمة المنظمة، وتنامي تجارة المخدرات وغيرها من أعمال غير شرعية.
5- قد تتيح حلقة التغذية المرتدة للبشر والمجتمعات، التكيف مع الوضع المتغير وتخفيف الضغط المناخي من خلال الاستراتيجيات والمؤسسات وآليات الحوكمة التي قد تُطبق من خلال التكنولوجيا أو رأس المال البشري والاجتماعي لضبط الاقتصاد ونظام الطاقة مع الظروف البيئية المتغيرة.
تهديد السلامة الحضرية:
إن عدم التوصل إلى قواعد محددة يعزز من قدرة مجالات عمل الأمن المناخي، سيؤدي إلى تدهور مؤشرات السلامة الحضرية، والتي أبرزها "المعهد الملكي للشؤون الدولية" (Chatham House) في تقريره الصادر في سبتمبر الماضي، حيث يوجد 6 مجالات في هذا الشأن مُعرضة للخطر بسبب التغيرات المناخية، وهي كالتالي:
1- الاضطرابات الاقتصادية والتجارية: ستؤثر موجات الحر وحرائق الغابات والفيضانات والجفاف سلباً على الأمن الغذائي والبنية التحتية للطاقة والمياه، وهو ما يُضر بقطاعات الصناعة والأعمال التجارية. وبالتالي، فإنه من المرجح أن تشهد أسواق الأسهم تحولات مفاجئة نتيجة لتدمير البنية التحتية والمحاصيل، ما يؤدي إلى بيع الأصول، وانخفاض أسعار الأسهم، ونقص في صناديق المعاشات التقاعدية، وفي النهاية تقويض الأسواق المالية. ومن ناحية أخرى، فإنه من المحتمل أن تتأثر التجارة الدولية بانعدام الأمن المناخي، فعلى سبيل المثال، أجبر فيضان نهر اليانغتسي في الصين عام 2020، بسبب أعلى هطول للأمطار منذ 60 عاماً، السلطات على تدمير سد معرض لخطر الانهيار وتعطيل سفن الشحن.
2- ضغوطات الهجرة والنزوح الجماعي: ستؤدي الضغوط الناتجة عن التغيرات المناخية، على الأرجح إلى خسائر في الأرواح، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وزيادة الضغوط على المؤسسات العامة والبنية التحتية، وبالتالي، تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يتوقع الخبراء الدوليون أن يؤدي ذلك إلى مزيد من نزوح المواطنين ومن ثم تنامي مظاهر الهجرة والنزوح الجماعي واللجوء البيئي. فعلى الصعيد العالمي، بلغ متوسط عدد الأشخاص النازحين داخل بلدانهم سنوياً في الفترة ما بين 2008 وحتى 2020 نحو 21,8 مليون شخص؛ وذلك بسبب الكوارث المرتبطة بالطقس، والمتمثلة في الحرارة الشديدة، والجفاف، والفيضانات، والعواصف، وحرائق غابات.
3- انعدام الأمن الغذائي: سيكون لدى التغيرات المناخية أثر على تنامي ظاهرة نقص الغذاء، فمن المتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية إلى ظهور العديد من الأمراض الحيوانية والنباتية التي ستساهم في نقص المحاصيل، وبالتالي ارتفاع معدلات المجاعات وسوء التغذية، فضلاً عن زيادة أسعار السلع والمنتجات الغذائية. وعلاوة على ذلك، ستعمل التغيرات المناخية على حدوث تغييرات في سُبل العيش وبصفة خاصة نمط عيش المزارعين؛ فمن المرجح أن يبيع هؤلاء المزارعون مواشيهم وأراضيهم. كل هذه المظاهر ستؤدي إلى تفاقم الفقر والتوترات المجتمعية والهجرة والصراع.
4- الأزمات الصحية: يؤدي تغير المناخ إلى زيادة انتشار الأمراض المُعدية الناشئة والأمراض المنقولة، إذ يُعطل النظم البيئية ويزيد من مخاطر انتقال الأمراض. فعلى سبيل المثال ذكرت مجلة لانسيت (The Lancet) في عام 2019 أن مسببات الأمراض آخذة في الازدياد بسبب التغيرات المناخية. وفي سياق متصل، يشير خبراء الصحة العامة إلى إشكالية أخرى تتمثل في افتقار السكان النازحين إلى المرافق الصحية والطبية الكافية. ولذا، فإن الإشكالية الكبرى، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، هي أن تغير المناخ من المرجح أن يؤدي إلى نزوح حوالي 140 مليون شخص بحلول عام 2050، من داخل أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية (يمثلون معاً حوالي 55% من سكان العالم النامي)، وبالتالي سيكون هؤلاء الأفراد أكثر عُرضة لجلب الأمراض وانتشارها.
5- مخاطر بشأن مستقبل أمن الطاقة: يشعر الخبراء بالقلق إزاء مجموعتين منفصلتين من مخاطر أمن الطاقة؛ حيث يتعلق الخطر الأول بالكهرباء، فمن المرجح أن تؤدي زيادة "جزر الحرارة الحضرية"، فضلاً عن انخفاض مياه التبريد داخل محطات الطاقة الحرارية، إلى زيادة الطلب ونقص العرض، ويخشى الخبراء أن يتفاقم هذا السيناريو بفعل ضوابط التصدير، ما يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي. ويرتبط الخطر الثاني بتدهور جودة الهواء مما يؤدي إلى زيادة القيود على النقل وبالتالي انخفاض الطلب على النفط. ويخشى الخبراء أن يؤدي ذلك إلى فشل شركات النفط، وحدوث صدمات في أسعار النفط. فعلى سبيل المثال، كان النقص العالمي الأخير في رقائق أشباه الموصلات يرجع جزئياً إلى إغلاق مصانع الإنتاج بسبب انقطاع التيار الكهربائي أثناء موجة البرد غير الطبيعية في تكساس في فبراير 2021.
6- تهديد الأمن القومي والعالمي: هذه تعد أسمى مؤشرات السلامة الحضرية، فعندما يتعرض الأمن القومي للخطر، فهذا يعني أن البلدان تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي، أي أن المجتمعات تُصبح غير مستقرة بسبب هشاشة وضعف الأنظمة السياسية. وعلاوة على ذلك، فإنه من المتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية إلى آثار تشمل صعود الجماعات المتطرفة، والعنف، والصراع بين المواطنين والدول، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى احتمالية نشوب صراعات بين الدول التي تتنافس لتأمين الموارد لمواطنيها. ويسلط تقرير "الاتجاهات العالمية 2040" الصادر عن "مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي"، في مارس 2021، الضوء على آثار التغيرات المناخية واحتمالية أنها ستعمل على تفاقم المخاطر على الأمن الإنساني ومن ثم القومي، ولذا ستكون الدول مُجبرة على اتخاذ خيارات صعبة ومقايضات، وربما سيتم توزيع الأعباء بشكل غير متساو، مما يزيد من حدة المنافسة، ويساهم في زعزعة الاستقرار، ويجهد الجاهزية العسكرية، ويشجع الحركات السياسية وحركات التمرد والإرهاب على تهديد أمن الدول وبقائها.
أمننة التغيرات المناخية:
بالنظر إلى التداعيات الأمنية المذكورة أعلاه، لا يمكن إنكار أن تغير المناخ أصبح يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه من مصادر تهديد أمن الدول والأقاليم، وأحد أكثر التهديدات المحتملة على الأمن العالمي في القرن الحادي والعشرين. فمما لا شك فيه أن ندرة الموارد، والتحولات السكانية الهائلة، والكوارث الطبيعية، وانتشار الأوبئة والأمراض المُعدية، وكذلك الجفاف وارتفاع منسوب مياه البحر والاحتباس الحراري وذوبان الجليد؛ هي بعض العواقب المتوقعة لتغير المناخ، والتي من شأنها أن تدفع العالم نحو مزيد من الصراعات وعدم الاستقرار، ما يهدد الأمن الإنساني والأمن القومي للدول.
وفي هذا السياق، أشار رواد مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية إلى ضرورة "أمننة البيئة"، ويعني هذا أن يتم التعامل مع البيئة ومختلف قضاياها ومشكلاتها باعتبارها تحمل تهديداً للأمن القومي للدول وكذلك أمن مواطنيها. ونظراً لأن الأمن المناخي يمكن اعتباره جزءاً من الأمن البيئي، خاصة أن التغيرات المناخية أحد المسببات الرئيسة للتدهور البيئي، فإنه يمكن أمننة التغيرات المناخية، أي إضفاء الطابع الأمني على قضية تغير المناخ، وجعلها على رأس أولويات أجندة الأمن القومي للبلاد. وفي هذا الصدد، يتم تحويل قضية التغيرات المناخية من "عالم السياسة الدنيا" Low Politics (والتي تحددها قواعد الديمقراطية والشفافية وإجراءات اتخاذ القرار) إلى "عالم السياسة العليا" High Politics (والتي تتميز بالاضطرارية والأولوية المُلحة).
وبمجرد أن يتم إضفاء الطابع الأمني على قضية تغير المناخ، يمكن أن تفرض السلطة الحاكمة تدابير استثنائية وقوانين إزاء كيفية التعامل مع تهديدات تغير المناخ، مثل المراقبة المستمرة، وتقييد التنقل، وغلق الحدود، والحجز المكاني، وسحب الجنسية أو الطرد، ويمكن أن تفرض قوانين رقابية على المنشآت الصناعية للحد من التلوث المتسبب في تغير المناخ.
ختاماً، يمكن القول إنه في ظل بيئة محفوفة بالمخاطر وعدم اليقين بشأن نجاح مستقبل مفاوضات جلاسكو خلال الشهر القادم حول تخليص الاقتصادات من الكربون ورسم مسار البشرية بعيداً عن الاحترار العالمي، فإن "الأمن المناخي" يبقى أحد التدابير التي يمكن أن تُحفز المجتمع الدولي لإدخال التغيرات المناخية دائرة الاستثناء والطوارئ لمواجهة آثار التغيرات المناخية بشكل فعلي وواقعي.