ناقشت في المقالة السابقة الآثار السلبية لوباء كورونا على العولمة من المنظور الاقتصادي، وتناقش هذه المقالة الآثار المحتملة لهذا الوباء على نطاق إقليمي أضيق وهو الاتحاد الأوروبي الذي ظل لمدة طويلة نموذجاً يُحتذى لعمليات التكامل الدولي، ثم جاء الوباء ليمثل تحدياً حقيقياً لجدارته بعد أن بدا عاجزاً عن مد يد العون لأعضائه الأكثر تضرراً بالوباء، مما طرح تساؤلات مشروعة حول جدواه ومستقبله. وقد تعددت مؤشرات عجز الاتحاد في مواجهة الكارثة، إذ رفضت ألمانيا ودول شمال أوروبية أخرى مناشدة تسع دول، من بينها إيطاليا الأكثر تضرراً، من أجل تسهيل الاقتراض الجماعي لتخفيف الأضرار الاقتصادية للوباء. كما قررت ألمانيا حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج، وصادرت جمهورية التشيك شحنة مساعدات طبية كانت قادمة من الصين إلى إيطاليا. ورغم ما ذُكر من أن هذه المصادرة تمت بالخطأ وأن جمهورية التشيك تعهدت برد الشحنة إلى إيطاليا، فإن الواقعة لم تخل من دلالة. وبصفة عامة فقد رأى البعض أن دعم الاتحاد الأوروبي لأعضائه المنكوبين لم يكن بالمستوى المتوقع مطلقاً.
ومما فاقم التداعيات السلبية لهذا الوضع أن المساعدات، وبالذات لإيطاليا، جاءت من خارج الاتحاد، من دول كالصين وروسيا وكوبا، وحتى لو كانت هذه المساعدات قد قُدمت بدوافع سياسية، فما حدث هو أن الاتحاد الأوروبي عجز وغيره مد يد المساعدة، والدلالة واضحة. وفي هذا السياق شنت الصحف الإيطالية هجوماً عنيفاً على الاتحاد الأوروبي غداة قرار بإرجاء تدابير قوية في مواجهة التداعيات الاقتصادية للوباء ونسبت صحيفة إيطالية لرئيس الوزراء الإيطالي وصفه أوروبا بأنها ميتة وأن عليها أن تذهب إلى الجحيم. واعتبرت صحيفة «كورييري ديلا سيرا» أن افتقاد الاتحاد الأوروبي اتفاقاً لمواجهة الوباء سوف يعني «أن المشروع الأوروبي نفسه قد انتهى»، والأخطر أن صحيفة «لاريبوبليكا» ذات الخط السياسي المؤيد للاتحاد الأوروبي تصدّرها مانشيت «أوروبا قبيحة». وأنزل مواطن إيطالي علم الاتحاد الأوروبي ورفع محله علم الصين، وأضيف إلى هذا مشهد المدرعات والعربات الروسية في شوارع إيطاليا حاملةً المساعدات والأطقم الطبية، والأطباء الكوبيين الذين استقبلوا استقبال الفاتحين في إيطاليا.
وقد فجرت التطورات السابقة جدلاً حول مستقبل الاتحاد الأوروبي وهل يكتب العجز الذي أظهره في مواجهة الوباء الخطير نهاية ذاته، ونُسِب للرئيس الفرنسي قوله إن المشروع الأوروبي معرّض للخطر. وثمة ملاحظات ثلاث في مناقشة هذا الافتراض؛ أولاها أن أهميته تنبع من كونه يأتي في وقت تصاعد فيه التحدي الذي تمثله أحزاب اليمين المتطرف بالنسبة للاتحاد، ومن شأن الانتقادات السابقة أن تعطي هذه الأحزاب زخماً في أي انتخابات قادمة، مما سيضيف مزيداً من العراقيل أمام مسيرة الاتحاد. ومعلوم أن «البريكسيت» كان بداية يمكن أن تتلوها خطوات من آخرين لو نجحت بريطانيا في شق طريقها بعد الخروج. ومن ناحية ثانية لا يجب أن نستخف بفداحة الأزمة على الجميع، وبالتالي كان منطقياً أن تركز كل دولة على نجاتها أولاً، وقد أسمى وزير الخارجية الألماني السابق فيروس كورونا بفيروس «أمتي أولا»، وهذا مفهوم، لكنه لا يغير من الأمر شيئاً؛ فإذا كان الاتحاد لن يفيد أعضاءه في هكذا أزمات وجودية، فما جدوى الاحتفاظ به. غير أنه، ثالثاً وأخيراً، لا يجب أن ننسى أن نجاح الاتحاد عبر أكثر من ستة عقود راجع إلى جدواه الاقتصادية، وأنه في مسيرته الطويلة خلق شبكة بالغة التعقيد من الاعتماد المتبادل يصعب التحلل منها، وبالتالي فأغلب الظن أنه سوف يتعرض لمزيد من المصاعب في المستقبل المنظور، وأن تغلبه عليها ممكن لكنه يعتمد على عوامل معقدة سوف تحدد إما يتطور بحيث يلبي الحد الأقصى من متطلبات أعضائه، أو يخفف روابطه ويقلص نطاق عضويته لإرضاء النزعات الانفصالية فيه.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد