بعد أن استمرت موجة الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق لأكثر من شهرين، تمكنت مجموعة من ضباط الجيش المالي في الثامن عشر من أغسطس 2020 من السيطرة على قاعدة سوندياتا كيتا العسكرية الواقعة على بعد 15 كم من العاصمة باماكو، لتبدأ المجموعة العسكرية في إلقاء القبض على كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية "إبراهيم أبو بكر كيتا" ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان، وليعلن عن إسقاط الرئيس "كيتا" وتولي مجموعة عسكرية تحمل اسم "اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب". هذا التغيير الكبير المفاجئ الذي شهدته مالي دفع الكثير من القوى الدولية والإقليمية المعنيّة بالأوضاع السياسية والأمنية في إقليم الساحل لمراجعة حساباتها إما بالحذر من تدهور سريع، أو بالمبادرة لانتهاز فرص سانحة. وخلال فترة وجيزة بدت تركيا من أكبر الطامحين لاستغلال التغيير الذي شهدته مالي في الحصول على مكاسب لم تكن متوقعة قد تساعدها في تعزيز العديد من مصالحها الاستراتيجية.
تحولات الموقف التركي:
قوبل تدخل المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي في مالي للإطاحة بالرئيس بإدانات دولية واسعة من جانب الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) والاتحاد الأوروبي، مع مطالبة بتسليم السلطة سريعًا عبر الآليات التي يقرها الدستور. وقد جاء الموقف التركي الأول متسقًا مع الاتجاه السائد دوليًا من الأزمة في مالي، ومع مواقف تركية سابقة، حين أصدرت الخارجية التركية في التاسع عشر من أغسطس بيانًا أعربت فيه عن أسفها العميق لإجبار الرئيس "كيتا" على الاستقالة، مطالبة بإطلاق سراحه، ومعلنة دعم تركيا للجهود الدولية والإقليمية لعودة النظام الدستوري في البلاد.
هذا الموقف التركي الأولي لم يدم طويلًا، فسرعان ما كشف السلوك التركي عن توجهات مغايرة. ففي أول زيارة رسمية رفيعة المستوى من مسؤول غير إفريقي لمالي منذ الإطاحة بالرئيس "إبراهيم أبو بكر كيتا"، توجه "مولود تشاووش أوغلو" وزير الخارجية التركي إلى باماكو في التاسع من سبتمبر ليلتقي أعضاء المجلس العسكري الذي تسلم قيادة البلاد. وقد شهدت الزيارة تأكيد وزير الخارجية التركي على العلاقات الأخوية بين البلدين، وعلى أن استقرار وأمن مالي يُعد أمرًا هامًّا بالنسبة لتركيا.
كما ظهر تبدل الموقف التركي في تجنب "تشاووش أوغلو" إدانة تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية للإطاحة بالرئيس "كيتا"، مكتفيًا بالإشارة إلى رغبة بلاده في أن تنهي مالي المرحلة الانتقالية بسلاسة عبر اتخاذ الخطوات الضرورية لتأسيس نظام دستوري وإجراء انتخابات ديمقراطية. هذا بجانب التصريح باستعداد تركيا لتقديم المساعدة اللازمة لتيسير تعاون مالي مع المجتمع الدولي، وهو ما تجسّد في حرص الوزير التركي خلال وجوده في باماكو على لقاء المبعوث الأممي الخاص لمالي وكذلك ممثل الاتحاد الإفريقي هناك.
روابط محتملة:
يكشف التغير السريع في الموقف التركي خلال فترة قصيرة عن ضلوع محتمل لتركيا في توجيه المشهد السياسي في مالي. فعلى سبيل المثال، عكست مطالب الحراك الجماهيري الذي بدأ في الخامس من يونيو 2020 توافقًا كبيرًا مع المصالح التركية في الساحل الإفريقي، وفي مقدمتها الدفع بمطلَبَيِ التفاوض مع التنظيمات المسلحة وإنهاء النشاط العسكري الفرنسي في البلاد. ويأتي هذا التوافق نتيجة علاقات مباشرة جمعت تركيا برجل الدين "محمود ديكو" الوجه القيادي الأبرز للحركة الاحتجاجية في مالي.
فمنذ افتتاح السفارة التركية في العاصمة المالية باماكو عام 2010، نجحت تركيا في بناء علاقات وثيقة مع رجال الدين في مالي، وعلى رأسهم "محمود ديكو" الوجه الأبرز للحركة الاحتجاجية التي تفجرت في أعقاب الانتخابات التشريعية في مارس وأبريل الماضيين. وقد سبق لـ"محمود ديكو" في عام 2013 وخلال رئاسته المجلس الإسلامي الأعلى في مالي أن لعب دورًا رئيسيًّا في توفير قطعة أرض في العاصمة باماكو كي تبني عليها تركيا مسجدًا على الطراز العثماني والذي يحمل أبعادًا رمزية متعددة.
وفي العام نفسه، وجّه "محمود ديكو" دعوة لرئيس الوزراء التركي آنذاك "رجب طيب أردوغان" لزيارة مالي وتقديم الدعم لها، مؤكدًا شعور الماليين بالفخر لاستضافتهم "أردوغان" باعتباره أول زعيم يمثل العالم الإسلامي يتوجه لزيارة لمالي. ومما أكد تحيزات "ديكو" لتركيا اتهامه في هذه الدعوة دولًا إسلامية لم يسمِّها بأنها تغيب عن الاستثمار في بلاده الغنية بالموارد الطبيعية، على حد قوله.
هذه العلاقات القديمة بين تركيا و"محمود ديكو" تمثل أيضًا مدخلًا محتملًا للعلاقات المباشرة بين تركيا وبين المجموعة العسكرية التي أطاحت بالرئيس "إبراهيم أبو بكر كيتا" وتتولى رئاسة البلاد خلال المرحلة الانتقالية. فعلى سبيل المثال، يتمتع رئيس المجلس العسكري العقيد "أسيمي جويتا" بعلاقات وطيدة مع "محمود ديكو"، حيث لعب الأخير دورًا رئيسيًا في التوسط لدى المجموعات المسلحة التي أوقعت "جويتا" أسيرًا خلال المواجهات المسلحة بين الجيش والمتمردين عام 2012، وهي الوساطة التي أسفرت عن إطلاق سراحه.
وفي ظل التنسيق التركي-الروسي المتنامي في السنوات الأخيرة في ملفات متعددة، خاصة فيما يتعلق بالصراع المعقد في كل من سوريا وليبيا، قد تكون تركيا قد حصلت على مساعدة روسية لتيسير انفتاحها على أعضاء آخرين من المجلس العسكري في مالي. فعلى سبيل المثال، يتمتع عضوا المجلس العسكري "ساديو كامار" و"ماليك دياو" بعلاقات وطيدة مع روسيا التي تلقيا تدريبهم العسكري فيها، فضلًا عن الملاحظة اللافتة التي تتعلق بقطع "ساديو كامارا" تدريبه في روسيا وعودته لباماكو قبل خمسة عشر يومًا فقط من إطاحة المجموعة العسكرية بالرئيس "كيتا".
أهداف متعددة المستويات:
شكّلت الأزمة السياسية الأخيرة في مالي "نقطة ولوج" مثالية للسياسة التركية لإقليم الساحل نظرًا لما أتاحته من فرصة استثنائية لتأمين العديد من المصالح التركية ذات الأهمية الكبرى، ومن بين هذه الأهداف التركية تبرز أربعة أهداف رئيسية هي:
1- تعزيز مكانة الحلفاء المحليين: من بين الأهداف الرئيسية للتقارب التركي مع المجلس العسكري الحاكم في مالي، تمهيد الطريق لتعزيز مكانة حلفاء تركيا في مالي خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها. حيث تسعى تركيا لضمان تشكيل حكومة مدنية انتقالية يتمتع فيها حلفاؤها السياسيون بدور رئيسي يساعدهم في تعزيز فرصهم بالفوز في الانتخابات التي ستنهي المرحلة الانتقالية. وعلى جانب آخر، تسعى تركيا لضمان انصياع المجلس العسكري للمطلب الذي عبر عنه الحراك بفتح الحوار مع الحركات والتنظيمات المسلحة، وهو التوجه الذي تبناه "محمود ديكو" منذ عام 2012، حيث انخرط في عمليات حوار مع "إياد أغ غالي" و"أمادو كوفا" وغيرهما من قادة التنظيمات الإرهابية، خاصة في السنوات الأخيرة التالية لاستقالته من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى.
ومن شأن هذا الحوار أن يمنح الشرعية للتنظيمات المسلحة كلاعب سياسي، ويعيد تصنيفها من حركات إرهابية إلى حركات مطلبية تبنت العمل المسلح في فترة من فترات نشاطها، وتعبر عن مطالب جهوية وإثنية "مشروعة". ويتمتع هذا الطرح بتأييد أطراف سياسية متعددة في مالي في ظل عجز العملية الأمنية التي تقودها فرنسا في البلاد منذ عام 2013 عن القضاء على التنظيمات الإرهابية، التي كثفت من نشاطها وتمددت من الأقاليم الشمالية الصحراوية إلى الأقاليم الوسطى كثيفة السكان. وفي حال نجاح هذا المخطط، يمكن لتركيا أن تضمن إحكام السيطرة على مستقبل مالي على الأمدين القصير والطويل.
2- توسيع نطاق التمدد التركي في إقليم الساحل: من بين الأهداف الرئيسية لتركيا توسيع تمددها في إقليم الساحل، وهو التمدد الذي مر بمراحل متتابعة من التقدم والتراجع في السنوات الأخيرة، قبل أن يتجه للتصاعد المطرد منذ عام 2018. حيث سارت العلاقات التركية التشادية في مسار تصاعدي بدأ باستقبال تركيا للرئيس "إدريس ديبي" في فبراير من عام 2019 ومنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة كارابوك التركية، قبل أن يشهد مطلع عام 2020 تطور التقارب بين الجانبين من خلال الاعتماد التشادي على تركيا في معالجة الأسباب الاقتصادية للتمرد في المناطق الشمالية المتاخمة للحدود الليبية، حيث أطلق الرئيس "ديبي" برنامجًا لتنشيط الاقتصاد في منطقة تيبستي بعد إقرار ترتيبات مشتركة لتنظيم نشاط التنقيب عن الذهب تحت إشراف نجله "عبدالكريم ديبي" وبالتنسيق مع زعماء قبائل التبو، على أن يتمتع كونسورتيوم تركي قطري يحمل اسم بارير هولدنج بحقوق الاستغلال الاقتصادي لثروات المنطقة.
كما جاء توقيع تركيا ثلاث اتفاقيات مع النيجر في المجال الأمني في يوليو 2020 خلال زيارة وزير الخارجية التركي إلى نيامي ليثبت أقدامها في الساحل الإفريقي، خاصة بما تضمنته هذه الاتفاقيات من دور تركي مؤثر في تعزيز القدرات العسكرية وأمن الحدود. وتضاف هذه الجهود التركية إلى محاولات حثيثة للتقارب مع موريتانيا منذ زيارة الرئيس التركي لنواكشوط في فبراير من عام 2018، والتي أسفرت عن تنامي الاستثمارات التركية في موريتانيا، فضلًا عن التوظيف المكثف للأداة الإنسانية والإغاثية، خاصة في دعم جهود الحكومة الموريتانية في مكافحة انتشار فيروس كورونا. بهذا التصور تسعى تركيا عبر التفاعل السريع مع تطورات أزمة مالي لتعزيز فرص نجاح مخططاتها للتمدد في إقليم الساحل الإفريقي.
3- دعم النفوذ التركي في ليبيا: تُعوّل تركيا كثيرًا على وجودها في ليبيا في تأمين العديد من المصالح التركية الاستراتيجية، سواء في دائرة البحر المتوسط أو في عمق القارة الإفريقية، وهو ما أكده الانخراط العسكري المباشر لتركيا في الصراع الليبي عبر انتقال عناصر عسكرية تركية وأفواج من المرتزقة القادمين من سوريا لساحات القتال في الغرب الليبي. ومع مواجهة تركيا وحلفائها في ليبيا تحديات داخلية وإقليمية متنامية، أصبحت السياسة التركية أكثر حرصًا على فتح مسارات جديدة للدعم عبر "محاصرة" الحدود الجنوبية لليبيا، وتحويل إقليم فزان الليبي إلى ممر مفتوح للتواصل وتبادل الدعم بين حلفاء تركيا في غرب ليبيا وحلفائها في إقليم الساحل الإفريقي.
وقد كشفت العملية الأمنية التي قامت بها القوات المسلحة الليبية في مدينة سبها جنوب البلاد في الخامس عشر من سبتمبر 2020 عن استمرار تواجد عناصر أجنبية ومحلية كامنة يمكن أن تمثل ورقة ضغط تركية مؤثرة لخلط أوراق كافة الترتيبات الأمنية والسياسية التي يسعى المجتمع الدولي للتوصل إليها سريعًا في ليبيا، ويمكن دعمها بقوة عبر حدود ليبيا الجنوبية.
4- التضييق على الحضور الفرنسي في إفريقيا: تشهد الشهور الأخيرة توترًا حادًّا في العلاقات بين تركيا وفرنسا خرج للعلن أكثر من مرة في صورة حرب كلامية بين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" والرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" عبر تصريحات حادة اتهم فيها الرئيس التركي فرنسا باستغلال الدول الإفريقية، مشيرًا إلى ماضيها الاستعماري. بينما اتهم الرئيس الفرنسي تركيا بإضعاف حلف الناتو، وتسببها في دخوله في حالة من "الموت السريري".
وعلى أرض الواقع، قامت فرنسا في الشهور الأخيرة بتصعيد خطواتها المناوئة للتمدد التركي في جوار تركيا المباشر. ففي شرق المتوسط تبنت فرنسا موقفًا سياسيًّا وعسكريًّا داعمًا لكل من اليونان وقبرص في نزاعهما مع تركيا على ترسيم الحدود البحرية، كما قدمت فرنسا دعمًا متزايدًا للأكراد في كل من سوريا والعراق، وهو ما اعتبرته تركيا مساسًا بأمنها القومي.
ومن جانبها، سعت تركيا للتضييق على فرنسا في إقليم الساحل الإفريقي على وجه الخصوص، وهو الإقليم الذي طالما تمتعت فيه فرنسا بأفضلية نتيجة خبرتها الاستعمارية الطويلة وعلاقاتها العميقة بالنخب السياسية والعسكرية والثقافية في دول الإقليم الذي تعتمد فرنسا عليه بصورة أساسية في تأمين العديد من مصالحها ذات الأهمية الكبرى، كمكافحة الإرهاب، وضبط تدفقات المهاجرين إلى أراضيها، وتوفير احتياجاتها من اليورانيوم لتشغيل محطاتها النووية.
فعلى الرغم من كون "محمود ديكو" أحد أهم المرحبين بالانخراط العسكري الفرنسي في مواجهة التنظيمات الإرهابية في عام 2013، إلا أنه عاد ليقود حراك يونيو 2020 مطالبًا بخروج القوات الفرنسية من البلاد، وهو المطلب الذي لاقى تأييدًا شعبيًّا واسعًا في ظل الخبرة الاستعمارية الطويلة لفرنسا في مالي، وفي ظل إخفاق القوات الفرنسية في مكافحة الإرهاب. في هذا السياق المعقد، لا يُعد إعلان فرنسا استمرار عملية برخان العسكرية في مالي، ولا تطمينات المجلس العسكري الحاكم بشأن مواصلة التعاون العسكري مع فرنسا، كافيين لتأكيد استمرار الحضور العسكري الفرنسي في مالي مستقبلًا.
وإجمالًا، على الرغم من الخطوات التركية المتسارعة للتأثير في مسار الأزمة في مالي، لا يمكن الجزم بنجاح هذا الانخراط في تحقيق أهدافه كليًّا أو جزئيًّا، وهو ما يرجع لأسباب متعددة، أهمها: سيولة الوضع السياسي والأمني في مالي، وانفتاحه على مآلات متعددة قد يكون بعضها مفاجئًا وغير محسوب، بجانب إمكانية انسحاب التوجهات الشعبية الرافضة للتدخل الفرنسي على كافة أشكال التدخل الأجنبي في شؤون البلاد بما فيها التدخل التركي، فضلًا عن الشكوك المتعلقة بقدرة الأدوات التركية على تحقيق أهدافها في مالي في وقت تعددت فيه المؤشرات المؤكدة على معاناة تركيا من التداعيات السلبية للتمدد المفرط في العديد من دوائر الانخراط القريبة والبعيدة على السواء.