طيلة السباق الرئاسي الأمريكي، تولد لدى الديمقراطيين انطباع بأن معركتهم "سهلة"، فالمرشح الجمهوري المنافس دونالد ترامب الذي فاز بالانتخابات لم يتسبب فقط في تنفير كافة الجماعات الفرعية في التركيبة السكانية الأمريكية، بل أسهم في انقسام قيادات الحزب الجمهوري حوله، إلى حد إعلان بعضهم -عشية الانتخابات- صراحة عدم التصويت له.
وبرغم أن هناك عوامل عديدة تفسر فوز ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، فإن التناقض بين النتائج والتوقعات فيما يتعلق بنمط تصويت النساء، والأمريكيين من أصول لاتينية، وإفريقية، والمثليين، والمسلمين، يُعد أحد أكثر النقاط غموضًا ولبسًا في انتخابات الرئاسة الأمريكية. إذ كيف تمكن ترامب من الحصول على نسبة تقترب من ثلث أصوات هذه الفئات، برغم أن جميعها يؤمن بأن جزءًا كبيرًا من خطاب ترامب المعادي لها قد بُني على قاعدة التعصب العرقي، ومخاطبة الأمريكيين من ذوي البشرة البيضاء، باعتبارهم الجمهور الوحيد الجدير باهتمامه.
الأهم من ذلك، هل سيكرس ترامب بعد دخوله البيت الأبيض المسار العنصري المتصاعد في المجتمع الأمريكي، خاصة في ضوء وعوده بطرد المهاجرين غير الشرعيين، وفحص ملفات الأمريكيين المسلمين كإجراء وقائي لمنع العمليات الإرهابية على الأراضي الأمريكية، أو مقاومة محاولات إدانة الشرطة بالتمييز ضد الأمريكيين من أصول إفريقية.
العنصرية المتصاعدة:
مبدئيًّا، استغل ترامب وجود مؤشرات قوية على عدم رضا البيض عن سياسات المساواة والتمييز الإيجابي للسود التي اتُّبعت عبر العقود الخمسة الأخيرة ليركز اهتمامه على هذه الفئة أكثر من غيرها من الجماعات الفرعية في المجتمع الأمريكي، خاصة وأن استطلاعات الرأي قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات كانت تُبين ذلك بوضوح.
ففي الاستطلاع الذي نشره مركز PEW في (20 أكتوبر 2016) جاءت الإجابات على ثلاثة أسئلة متعلقة بالسياسات العرقية في الولايات المتحدة، وخاصةً تجاه أصحاب البشرة السوداء، على النحو التالي:
(*) هل تعدد الأعراق أمر إيجابي للولايات المتحدة؟. وجاء الرد بـ(نعم) بين أنصار كلينتون بنسبة تصل إلى ٧٢٪، بينما بلغ لدى أنصار ترامب ٤٠٪، أما بشكل عام فوصل إلى ٥٧٪.
(*) هل يستفيد البيض أكثر من السود من مميزات الاتفاق العظيم Great Deal؟. وجاء الرد بـ(نعم) بين أنصار كلينتون بـ٧٨٪، وأنصار ترامب بـ٢٤٪، وبشكل عام ٥٢٪.
(*) هل يُعاني السود من صعوبات أكثر من البيض؟. وجاء الرد بـ(نعم) بين أنصار كلينتون بـ٥٧٪، أما أنصار ترامب فكانت النسبة ١١٪، بينما بلغ بشكل عام ٣٥٪.
وأوضح هذا الاستطلاع أن نسبة كبيرة من الأمريكيين (تصل إلى ٤٣٪) تعتقد أن تعدد الأعراق ليس أمرًا إيجابيًّا، أو في مصلحة الولايات المتحدة. بل إن 48٪ من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن سياسات الرفاه التي تضمنت الـGreat Deal لا تعطي مزايا أكبر للبيض مقارنةً بالسود. ويعطي (الاتفاق العظيم) مزايا للمهاجرين غير الشرعيين، والفئات الأضعف اقتصاديًّا، ويحتل فيها غير البيض نسبة مرتفعة مقارنة بالبيض. أيضًا، فإن نسبة تصل إلى أكثر من الثلث في المجتمع الأمريكي تنكر وجود صعوبات في العمل والحياة الاجتماعية في أوساط السود.
وفي وقت سابق من هذا العام، نشر موقع محطة CNN تحقيقًا كتبه "جون بلاك" بعنوان: "حان الوقت للحديث عن هيمنة السود"، ويتضمن دلالات مهمة؛ حيث أشار "بلاك" فيه إلى آراء يرددها البيض حول أن العنصرية باتت معكوسة، وأن بعض المظاهر تؤكد استثمار مجتمع الأفرو أمريكان لميراث الحقوق المدنية منذ الستينيات لقمع آراء البيض. ففي حين يغدو الاحتفال بيوم لإحياء تاريخ السود في أمريكا أمرًا يحظى بالمديح إعلاميًّا؛ فإن البيض لو أرادوا الاحتفال بتاريخهم في أمريكا سيصف الإعلام الفكرة بأنها فكرة "عنصرية".
إن انتشار هذه الأفكار في أوساط الأمريكيين البيض لم يكن وليد اليوم، بل يمكن القول إن صعود تيار المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بدا ردًّا على تداعيات إدماج ثقافة الحقوق المدنية في المؤسسات الرسمية الأمريكية.
فقد برزت العديد من الكتب والدراسات التي تحذر من صعود قوة الملونين في أمريكا، وتأثيراتها بعيدة المدى في الثقافة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، صدر في عام 2002 كتاب لباتريك بوكنان (أحد أقطاب حركة المحافظين الجدد) تحت عنوان "موت الغرب" أوضح فيه كيف أصبح الحزب الجمهوري قويًّا في فترة امتدت ما بين عامي ١٩٦٨ و١٩٩٢، وكيف تمكن من الفوز بخمس سباقات رئاسية من أصل ستة أُجريت خلال هذه الفترة. ويُرجع بوكنان ذلك إلى أن الحزب الجمهوري تمكن من استقطاب كتلتين كانتا تصوتان عادةً للحزب الديمقراطي، وهما: "البيض الكاثوليك في الشمال، والبيض البروتستانت في الجنوب".
"البيض المتدينون" وفوز ترامب:
يبدو أن ترامب استعاد تأثير كتلة البيض المتدينين كأحد العوامل التي أسهمت في فوزه؛ إذ إن نسبة البيض في الولايات المتحدة في عام ٢٠١٥، بحسب مؤسسة KAISER FAMILY FOUNDATION تصل إلى ٦١٪ من إجمالي السكان، كما بلغت نسبتهم إلى إجمالي المصوتين في الانتخابات الأخيرة ٧٠٪، وحصل ترامب منها على ٥٨٪، فيما نالت كلينتون تأييد ٣٧٪ فقط.
ونظرًا إلى أهمية العامل الديني-العرقي في فهم تصويت البيض المسيحيين لترامب، يمكن توضيح النسب التي نشرها موقع CNN بعد فوز ترامب بالرئاسة:
(*) شكّل البروتستانت ٢٧٪ من نسبة من أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الأمريكية، وبينما حصل ترامب على ٦٠٪ من أصواتهم، نالت كلينتون ٣٧٪.
(*) مثَّل الكاثوليك ٢٣٪ من المصوتين في الانتخابات، واستطاع ترامب الحصول على ٥٢٪ من أصواتهم مقابل ٤٥٪ لكلينتون.
(*) بلغت نسبة مصوتي المرمون في الانتخابات 1%، وحصل ترامب على ٦١٪ من أصواتهم، مقابل ٢٥٪ فقط لكلينتون.
باستقراء هذه البيانات، فضلا عما سبق من استطلاعات أخرى اعتمدت على العرق وحده، يمكن القول إن ترامب قد حصد تأييد أغلبية فئة "البيض المتدينين"، ولعل ذلك يفسر مغازلته البيض المحافظين سياسيًّا واجتماعيًّا عبر خطاب تمييزي ضد غير البيض، وتحفظه على حقوق النساء في الإجهاض، وعلىي حقوق المثليين في الزواج القانوني.
مستقبل السياسة العرقية:
لم ينجح الرهان على أن وصول أول أمريكي من أصل إفريقي (باراك أوباما) إلى البيت الأبيض سيُساعد في كسر حدة التمييز المجتمعي وليس القانوني ضد السود الأمريكيين. إذ تزايدت الحوادث العنصرية، خاصةً ما يتعلق بقتل الشرطة الأمريكية لشباب من السود. ولعل ذلك يتجلى في مقال نُشر في الـ"نيويورك تايمز" في الثالث من ديسمبر عام ٢٠١٤ لبول بتلر (أستاذ القانون بجامعة جورج تاون)، حيث قال فيه: "الاعتقاد بأن انتخاب رئيس من أصل إفريقي قد يؤدي بالولايات المتحدة إلى وضع أفضل فيما يتعلق بالعلاقة بين السود والبيض كان اعتقادًا ساذجًا، حيث تزايدت معاناة السود في عهده بشكل أكبر".
قياسًا على ذلك، ربما من الخطأ الاعتماد على ما أطلقه ترامب من تصريحات عنصرية أثناء حملته الانتخابية للقول بأن منحنى العنصرية والصدام بين البيض والسود سيرتفع في عهده. بل على العكس، فقد يقلل وصول ترامب للبيت الأبيض من شعور الأمريكيين البيض بأن بلادهم تتحول فيها السلطة والنفوذ السياسي، ولو رمزيًّا وبشكل تدريجي، لصالح الأقليات العرقية والدينية، وبالتالي سيكونون أكثر تفهمًا لسياسات ترامب التي قد لا تُحقق كل ما وعد به في هذا الملف.
كما أن الأقليات التي هاجمها ترامب بعنف ربما تتراجع بدورها عن نية المبالغة في خطاب العنصرية الموجهة ضدها خوفًا من استفزاز الأغلبية البيضاء التي حملت ترامب للبيت الأبيض. وبدلا من مهاجمة سياسات الرئيس المنتخب الجديد على أساس عرقي، فربما يكون اختيارها الأفضل هو نقد هذه السياسات اجتماعيًّا وطبقيًّا لتوسيع دائرة الحلفاء ضد سياسة قد لا تكون في صالح الفقراء وبعض شرائح الطبقة الوسطي أيًّا كان انتماؤها العرقي أو الديني بما في ذلك جزء من المجتمع الأبيض الأمريكي.
في كل الأحوال، ستظهر توجهات ترامب الحقيقية عندما يبدأ في تشكيل إدارته، وقد يلجأ إلى أحد خيارين لتقليل الاحتقان بين البيض والأقليات غير البيضاء، وهما:
الخيار الأول: أن يقوم ترامب بتعيين عدد من الوزراء وكبار الموظفين الذين ينتمون إلى الأقليات المختلفة، ويكونون من غير الداعمين لتفسير القرارات الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن يصدرها، بطريقة عرقية ودينية، وبالتالي يجرد خصومه من استخدام الورقة العنصرية أو العرقية ضد سياساته. وفي الوقت نفسه يمرر السياسات التي يرغب فيها حتى لو تضررت منها هذه الأقليات نفسها، كونها تمت بمساعدة فريق ينتمي إليها (أي هذه الأقليات نفسها).
الخيار الآخر: أن يرضى مؤيدو ترامب من البيض الذين منحوه أصواتهم باستبعاد غير البيض من تولي المناصب الهامة في إدارته، مع اتباعه سياسات متوازنة لا تستفز الأقليات غير البيضاء، وتحديدًا مثل التشدد في معاملة المهاجرين غير الشرعيين مع تسريع إجراءات منح الجنسية لمن حصلوا على الإقامة الدائمة من بين أبناء هذه الفئة لتصوير هذه السياسة كما لو كانت إعمالا للقانون وليس عداء عنصريًّا للأقليات غير البيضاء.