قامت وزيرة الدفاع الألمانية، كرستين لامبرخت، بزيارة إلى العاصمة النيجرية، نيامي، في 16 ديسمبر 2022، حيث عقدت لقاءات مكثفة مع المسؤولين في النيجر، بما في ذلك الرئيس، محمد بازوم. وأعلنت لامبرخت في ختام هذه المباحثات أن برلين ستلعب دوراً كبيراً في المهمة العسكرية الجديدة التي يخطط الاتحاد الأوروبي لتشكيلها في النيجر.
انخراط ألماني متنامٍ:
أكدت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، خلال زيارتها إلى النيجر، منتصف ديسمبر 2022، على التزام بلادها بالاستمرار في دعم جهود مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي، وأنها لن تترك المنطقة بمفردها. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبرز دوافع هذه الزيارة على النحو التالي:
1- بحث المهمة الأوروبية الجديدة: جاءت زيارة لامبرخت إلى العاصمة النيجرية، نيامي، بعد أيام قليلة من اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، في 12 ديسمبر 2022، لبحث ملف المهمة العسكرية الجديدة التي يستعد الاتحاد الأوروبي لإرسالها إلى النيجر، مطلع العام القادم.
وكانت تقارير غربية قد أشارت، في نوفمبر 2022، إلى أن بروكسل تخطط لإرسال بعثة عسكرية جديدة في نيامي، لتعزيز القدرات العسكرية للنيجر في مواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة في الساحل الأفريقي.
وفي هذا الإطار، جاء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، لتمهيد الطريق أمام هذه البعثة المرتقبة، والتي ستكون مدتها ثلاث سنوات، بتكلفة تقدر بحوالي 27.3 مليون يورو، حيث تم اعتماد تشكيل بعثة "شراكة عسكرية لسياسة الأمن والدفاع المشترك" لتعزيز قدرات القوات النيجرية في احتواء التهديدات الإرهابية وتأمين المدنيين وتوفير بيئة مستقرة في البلاد.
2- تنسيق الوجود الألماني في الساحل: ألمحت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، إلى أن هناك نحو 200 – 250 جندياً ألمانياً سيشاركون في المهمة العسكرية المرتقبة لبروكسل في النيجر.
وتتسق هذه التصريحات مع إعلان برلين، في نوفمبر 2022، أنها تستعد لسحب قواتها من مالي بشكل كامل بحلول مايو 2024، وبالتالي يبدو أن برلين تستهدف حالياً التنسيق مع النيجر حول مستقبل حضورها في الساحل الأفريقي، خاصةً أنها لا تزال تحتفظ بحوالي 1100 جندياً في مالي ضمن البعثة الأممية "مينوسما".
3- بحث مهمة التدريب الألمانية في النيجر: كانت ألمانيا أرسلت مهمة تدريب إلى النيجر منذ عام 2018، تحت مسمى "عملية الغزال"، لتدريب القوات الخاصة النيجرية، ويقدر عدد هذه المهمة بحوالي 150 جندياً ألمانياً، ويفترض أن تنتهي بنهاية ديسمبر 2022، وذلك بعدما تم الاتفاق على تمديدها أثناء زيارة المستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى النيجر، في مايو الماضي.
وبالتالي يبدو أن وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، تستهدف بحث مستقبل هذه المهمة التدريبة مع المسؤولين في نيامي، للتنسيق بشأن ما إذا كان سيتم تمديد هذه المهمة من عدمه، وحتى الآن لم يتم الإعلان عن أي توافقات تتعلق بهذا المهمة التدريبية.
مصالح مشتركة:
عكست المهمة العسكرية الأوروبية المرتقبة في النيجر، والمساهمة الكبيرة المتوقعة من قبل ألمانيا فيها، دلالات مهمة بشأن تلاقي المصالح الغربية مع نيامي، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- الرهان الغربي على النيجر: تعكس التحركات الألمانية الراهنة لتعزيز الانخراط في النيجر أحد ملامح التعويل الغربي الحالي على الأخيرة في جهود مكافحة الإرهاب في الساحل، وذلك بعدما ظلت مالي لفترة طويلة تشكل نقطة الارتكاز الرئيسة للقوى الغربية في هذه المنطقة، وهو ما يعكس أهمية نيامي في إطار الاستراتيجية الغربية الرامية إلى إعادة نشر القوات الأوروبية في الساحل، وذلك لمواجهة النفوذ الروسي والصيني المتنامي في المنطقة.
وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن دعم واشنطن لجهود نيامي في مساعيها الحالية لمكافحة التنظيمات الإرهابية، مؤكداً تطلع الولايات المتحدة لاستمرار الشراكة الثنائية مع النيجر في تعزيز النمو الاقتصادي الشامل لنيجيريا ودول الساحل.
وكان بلينكن قد عقد اجتماعاً مع كل من الرئيس النيجري، محمد بازوم، ورئيس بنين، باتريس تالون، على هامش القمة الأفريقية – الأمريكية التي استضافتها واشنطن مؤخراً، حيث تم التوقيع على "ميثاق إقليمي مشترك" بغية تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي، وتعزيز أهداف منطقة التجارة الحرة الأفريقية، والعمل على إعادة تأهيل الطرق الرئيسة بين نيامي وكوتونو.
كذلك قام نائب قائد فرقة العمل الأوروبية الجنوبية للجيش الأمريكي في أفريقيا، الجنرال بريان كاشمان، بزيارة إلى النيجر، خلال الفترة 1 – 6 ديسمبر الجاري، حيث أجرى مباحثات مطولة مع قادة الجيش النيجيري والعسكريين الأمريكيين الموجودين في نيامي، لبحث سبل تعزيز التعاون الأمني والعسكري. وأكد كاشمان خلال زيارته أهمية النيجر للولايات المتحدة كشريك في مواجهة المنظمات الإرهابية في الساحل.
وتحتفظ واشنطن بنحو 800 جندي لها في النيجر، يتوزعون على عدة مناطق، لعل أبرزها القاعدة الجوية 201 وسط النيجر بالقرب من "أغاديز"، وهي تشكل مركزاً لوجستياً للقوات الجوية الأمريكية، بالإضافة لذلك هناك معسكر "أغالي" بجنوب غرب النيجر، قرب "دوسو".
2- تأمين إمدادات الطاقة: كانت القوى الأوروبية تعمل خلال السنوات الأخيرة على تقليل انخراطها العسكري في الساحل، لاسيما مع الاستراتيجية الأوروبية التي كانت تستهدف تسريع وتيرة التحول نحو الطاقة النظيفة، غير أن هذه الدول قامت بإعادة حساباتها، بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، وأزمة الطاقة الناتجة عنها، إذ اتجهت لتعزيز وجودها هناك لتأمين إمدادات الطاقة من غرب أفريقيا.
3- ضبط الهجرة غير الشرعية: تصاعدت في الآونة الأخيرة معدلات الهجرة غير الشرعية نحو القارة الأوروبية، والتي شكلت أحد أبرز الملفات الخلافية بين القوى الأوروبية، حيث تمثل القارة أحد أبرز منابعها، لذا تسعى ألمانيا من خلال تعزيز انخراطها في النيجر لضبط معدلات الهجرة غير الشرعية المتزايدة والقادمة من أفريقيا تجاه القارة الأوروبية.
4- دعم خطة بازوم التنموية: يأتي الدعم العسكري الغربي المكثف للنيجر بالتوازي مع إعلان رئيسها، محمد بازوم، عن خطته للتنمية الاجتماعية والاقتصادية 2022 – 2026، والتي تستهدف تعزيز التنمية في نيامي.
وفي هذا السياق، يسعى الرئيس النيجري للحصول على تمويل غربي لهذه الخطة، والتي تبلغ تكلفتها المبدئية حوالي 29.6 مليار يورو، وهو ما انعكس في زيارة بازوم إلى فرنسا، مطلع ديسمبر الجاري، حيث تمكن من عقد شراكات واسعة مع القطاعين العام والخاص في باريس، وحصل على تمويل بلغ نحو 31.4 مليار يورو، وهو ما يتجاوز الميزانية الأولية لخطته.
وسبق وأن أعلن بازوم أن الحكومة النيجرية ستساهم بنحو 10 مليارات يورو في التمويل الإجمالي للخطة، حيث تعول نيامي على الزيادة المتوقعة من عائداتها من صادرات النفط، إذ يتوقع أن يرتفع إجمالي حجم صادرات النيجر من النفط في عام 2023 إلى حوالي 110 آلاف برميل يومياً، مقارنة بحوالي 20 ألف برميل يومياً في العام الجاري، وهو ما يعزى إلى الزيادة المتوقعة من تشغيل خط أنابيب النفط الذي يربط النيجر ببنين.
انعكاسات محتملة:
تعكس مساعي ألمانيا تعزيز حضورها في النيجر جملة من الانعكاسات المحتملة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تصاعد التنافس في الساحل: ألمحت تقارير غربية إلى وجود توجهات روسية لتعزيز انخراطها في النيجر، وهو ما ينذر بتحوّل الأخيرة إلى ساحة تنافس جديدة بين القوى الغربية وموسكو، الأمر الذي ربما ينعكس في تأجيج المشهد الأمني في النيجر، لاسيما مع تصاعد وتيرة السخط الداخلي في نيامي من الوجود الفرنسي هناك، حتى أن التقارير الغربية حذرت من احتمالات امتداد موجة الانقلابات العسكرية إلى النيجر.
2- تصدعات أوروبية محتملة: تثير التحركات الأوروبية الراهنة في الساحل تخوفات عدة بشأن غياب رؤية أوروبية مشتركة تجاه هذه المنطقة، وهو ما انعكس في التحركات المنفردة للقوى الأوروبية، ومساعي كل منها لتأمين احتياجاتها من الطاقة وغيرها من الثروات المعدنية، بالإضافة إلى تعظيم مصالحها ومكتسباتها هناك بشكل فردي.
وفي هذا السياق، أشارت بعض التقارير الغربية إلى تنسيق ألمانيا وإيطاليا لتحركاتهما في غرب أفريقيا، مقابل التحركات الموازية التي تنتهجها باريس في هذه المنطقة، كما بدأت بريطانيا اتخاذ خطوات منفردة لزيادة حضورها في القارة الأفريقية بشكل عام، بالتوازي مع التوجهات الأمريكية الحالية الساعية إلى استعادة نفوذها في القارة، وبالتالي يمكن أن تهدد غياب الرؤية المشتركة فاعلية الحضور الغربي، لا سيما الأوروبي، في غرب أفريقيا، خاصةً مع تنامي الحضور الروسي والصيني هناك.
وفي النهاية، يبدو أن ثمة توجهات جديدة باتت تتبناها ألمانيا مؤخراً، والتي ترغب من خلالها في تعزيز دورها في النسق الدولي، عبر توسيع نطاق وحجم مشاركتها الخارجية. لذا، يرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من الحضور المباشر لبرلين في أفريقيا بشكل عام، وغربها بشكل خاص، وربما تشكل النيجر نقطة انطلاق استراتيجية بالنسبة لألمانيا.