أخبار المركز
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)
  • محمد محمود السيد يكتب: (آليات التصعيد: خيارات إسرائيل إزاء معادلات الردع الجديدة مع إيران)
  • شريف هريدي يكتب: (الرد المنضبط: حسابات الهجمات الإيرانية "المباشرة" على إسرائيل)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)

صعود "التعددية":

الوجه السياسي لـ"الأوسكار".. تراجع احتكار "الرجل الأبيض"

04 أبريل، 2022


تعد فعالية "الأوسكار" الحدث السينمائي الأبرز والأهم دولياً، والذي تلتفت له أنظار الجميع، بدءاً من المتخصصين في صناعة السينما وانتهاءً بالجماهير العادية، ويجسد مدى النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في توظيف السينما للتأثير على العالم والتي ظلت لعقود أهم أدواتها للقوى الناعمة، بشكل لم يضاهها فيه أحد. ومن ثم فإن قراءة المعطيات والسياقات وتحليل الأفلام التي تصل للأوسكار، تساعدنا في فهم متغيرات صناعة السينما الأمريكية، ودلالات محتواها وبالتالي فهم ما يؤثر على توجهات العالم ويساهم في تشكيل وعيه الجمعي.

بالطبع كان الحدث الأبرز هذا العام والذي استحوذ على التغطية الإعلامية الأكبر هو قيام، الممثل الأمريكي المعروف، ويل سميث، بصفع كريس روك بسبب مزحة قالها الأخير أثناء تقديم حفل الأوسكار حول حلاقة زوجة سميث لشعرها، إثر إصابتها بمرض أدى لتساقطه. وقد غطى هذا الحدث على أحداث محورية وجوائز تاريخية سيكون لها أثر ممتد لسنوات على صناعة السينما داخل وخارج الولايات المتحدة. 

الصوابية السياسية:

حتى أسابيع قليلة مضت، اتجهت كل التوقعات نحو فوز فيلم "قوة الكلب" ( The Power of the dog  ) بجائزة الأوسكار، والذي انتجته نتفليكس. إلا أن فيلم  "كودا" (Coda) هو الذي حصل عليها في النهاية، ليصنع بذلك تحولين مهمين في صناعة السينما:  الأول، أنها المرة الأولى التي يفوز فيها فيلم يتناول حياة الصم والبكم بهذه الجائزة الرفيعة، خاصة أن ممثليه الرئيسيين من الصم، مما جعل البعض يصف هذا الفوز بالتاريخي، باعتباره نقلة في مسألة التعددية، وتمثيل الفئات المختلفة بعيداً عما يسمى بسيطرة "الرجل الأبيض"، وهو الانتقاد الذي يوجه للأوسكار على مدار سنوات، ما دفع الأكادمية لاتخاذ قرارات وخطوات خلال السنوات الأخيرة نحو مزيد من الانفتاح لتصبح الجائزة أكثر شمولاً.

 أما التحول الثاني، فيتمثل في أنها المرة الأولى التي يفوز فيها فيلم من إنتاج منصة رقمية بهذه الجائزة، وهي منصة آبل تي في بلس (Apple TV Plus)، وهو حدث له دلالة كبيرة في تغير نمط سوق الصناعة الأمريكي التقليدي، وبداية لعهد جديد تكون للمنصات الرقمية فيه دور محوري. وبالطبع هناك من دافع عن هذا الفوز ورأى أنه فوز مستحق، وهناك من انتقده واعتبر أنه يأتي في سياق الصوابية السياسية على حساب المعايير الفنية. وهو المفهوم الذي أصبح متصاعداً الآن، ويستخدم لوصف اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع. وبغض الطرف عن ذلك الجدال، فالمؤكد والمجمع عليه هو أن هذا الفوز قد فتح باباً كبيراً لصناعة أفلام وقصص ظلت مهمشة لسنوات داخل وخارج الولايات المتحدة، وهذا الفوز جعل نفاذها للعالمية الآن ممكنا. 

عهد المنصات:

على مدار السنوات الماضية، بذلت نتفليكس مجهوداً كبيراً وأنفقت ملايين الدولارات بغية الحصول على جائزة أوسكار فئة أفضل فيلم، وهو ما عبر عنه "سكوت ستوبر"،  رئيس وحدة الإنتاج في الشركة، قبل حفل الأوسكار بعدة أيام حين قال إن هذا هو الحلم الذي نسعى جميعاً إليه. وكان لدى نتفلكس هذا العام 27 ترشيحاً، لتحتفظ بالمكانة الأعلى بين الشركات ومنصات الإنتاج أو التوزيع الأخرى، كما حافظت على المنافسة في فئة أحسن فيلم منذ عام 2019 بفيلم روما (Roma) ثم فيلمي حكاية زواج (Marriage story)  والإيرلندي (The Irishman) في 2020، وبعدهما فيلم مانك (Mank) عام 2021 . ونافست هذا العام بفيلمين هما لا تنظر لأعلى (Don’t look up) وقوة الكلب (The Power of the dog)، الذي كان من المتوقع أن يحقق حلم نتفليكس  بالأوسكار، غير أن آبل تي في اقتنصت الجائزة من منافستها، صاحبة المكانة الأعلى والتاريخ الأطول. 

اشترت آبل تي في فيلم كودا بعد عرضه في مهرجان صاندانس السينمائي، الذي يقام سنوياً في أوتاه بالولايات المتحدة الأمريكية، وفوزه بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم، بحوالي 25 مليون دولار، وهو رقم كبير، خاصة أن الفيلم يعد من الأفلام المستقلة ذات الميزانية المحدودة (حوالي 10 ملايين دولار) مقارنة بإنتاجات هوليوود. ولم يتوقع أحد في البداية أن هذا الفيلم يمكنه أن يتغلب على منافسه الذي تقدر ميزانيته بأكثر من 35 مليون دولار، والذي كرست له نتفليكس دعاية وجهداً وحملات إعلانية ضخمة، حتى حصل على 12 ترشيحاً ليصبح الفيلم صاحب عدد الترشيحات الأكبر هذا العام، بينما لم يحصل كودا إلا على ثلاثة ترشيحات فاز بها جميعاً: أحسن ممثل مساعد، وأحسن سيناريو مقتبس وبالطبع أحسن فيلم.

ولفهم دلالات ذلك ومدى تأثيره على صناعة السينما في الولايات المتحدة والعالم وبالتالي تأثيره على عموم الجماهير، لابد من الرجوع عدة سنوات للوراء، حينما كان ينظر للمنصات على أنها لا ترقى لمستوى شركات الإنتاج الكبرى، وتصاعدت الأصوات حينها حول خطورة المنصات الرقمية على التجربة السينمائية، إذ إن مشاهدة الفيلم من دون عرضه في دور العرض أولاً، كما جرت العادة على مدار تاريخ السينما، يفقد الفيلم جزءاً من قيمته ورونقه، وقد دفع ذلك كثيراً من المؤسسات والكيانات بل والأفراد ذوى الثقل في الصناعة إلى محاولة التصدي لهذه المنصات، ومنع مهرجان "كان" قبول أي فيلم من إنتاج منصة رقمية، لم يعرض في دور العرض، للتنافس على جوائزه الرسمية. 

غير أن قدرة نتفليكس على الاستمرار والتوسع لسنوات قد مهدت الطريق للفوز التاريخي لآبل تي في . فقد استثمرت نتفليكس ملايين كثيرة لإنتاج أفلام، راهنت بقوة عليها، وسخرت فرقاً للدعاية ولإدارة حملاتها، وموارد مادية وبشرية ضخمة جعلتها قادرة اليوم على إجبار الجميع على تغيير المعادلات التي حكمت صناعة السينما لعقود طويلة.  خاصة أن خوض سباق الأوسكار كان أمراً يتطلب حملة ضخمة أشبه بحملات الرئاسة الأمريكية، ولا يمكن لفيلم، مهما بلغت جودته، الوصول لنهائيات هذا السباق من دون حملة دعاية لديها ما يكفي من الموارد والخبرة.

أما الآن وبعد هذا الفوز، فقد فرضت المنصات سيطرتها وأصبحت فاعلاً أساسياً في الصناعة ليس فقط داخل الولايات المتحدة، ولكن امتد تأثيرها على باقي العالم. ونتلمس جميعاً ذلك التأثير الآن، مع كثافة نشاط نتفليكس في السنوات الأخيرة واتساع إنتاجها ليشمل بلداناً عديدة، غير تقديمها لمحتويات ثقافية مختلفة، يتعدى تأثيها الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية، بل أنها تجاوز السلطات المحلية، حيث لا يخضع لأدوات الرقابة التقليدية، وأصبحت قادرة على النفاذ للجمهور في أي مكان، ومن ثم التأثير على الوعي الجمعي على المدى الطويل.

كما يعني ذلك، من ناحية أخرى، أن الباب بات مفتوحاً أمام صانعي الأفلام من داخل وخارج الولايات المتحدة، ليصنعوا أفلاماً عن قصص فريدة لم يكن لها مكان من قبل، وتم تهميشها لسنوات، مع تغيير المعادلات التقليدية التي حكمت صناعة السينما الأمريكية وتعطش السوق لمزيد من التعددية.

تقدم الأقليات:

وصلت نسبة النساء من مجموع ترشيحات الأوسكار الفردية هذا العام 28% وهي النسبة الأقل في السنوات الثلاث الأخيرة حيث بلغت النسبة حوالى 32% عام 2021 وحوالي 31% عام 2020. وبالرغم من ذلك فهي المرة الأولى في تاريخ الأوسكار التي يفوز فيها فيلمان في فئة أفضل فيلم لعامين متتاليين من إخراج مخرجتين امرأتين، حيث أخرجت سيان هيدر فيلم كودا، الذي فاز هذا العام، وكان فيلم نومادلاند (Nomadland) العام الماضي من إخراج كلوي تشاو. 

كما فازت جين كامبيون بجائزة أحسن إخراج، لتصبح ثالث امرأة تحصل على أوسكار في هذه الفئة بعد كاثرين بيجلو التي حصلت عليها عام 2010 ثم كلوي تشاو. 

وعلى الجانب الآخر، فاز تروي كوتسور بجائزة أحسن ممثل مساعد عن فيلم كودا ليصبح أول ممثل رجل "أصم"، وثاني ممثل أصم يفوز بالأوسكار بعد أن فازت بها مارلي ماتلن عام 1987، وكانت أول ممثلة صماء تفوز بالأوسكار. 

في المقابل، أثار حصول الممثل المعروف ويل سميث على جائزة أفضل ممثل، جدلاً، حيث أشاد البعض بإجادته الدور، فيما اعتبره البعض أيضاً خياراً يناسب الصوابية السياسية أكثر منه خياراً فنياً، حيث لعب دور والد لبطلتي تنس معروفتين، والذي كان له دور رئيسي كرجل أسود في النجاح الكبير لابنتيه، حتى أصبحا من أهم بطلات لعبة كانت حكراً على البيض الأغنياء، في أوائل التسعينيات، مسلطاً الضوء على كفاح الآباء السود لدعم أبنائهم وسط أغلبية بيضاء، متأثرة بإرث الماضي المتحيز ضد السود. 

على الجانب الآخر، هناك أيضاً انفتاح ملحوظ على الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية والتي لم تكن تتعدى مشاركتها في معظم الأحيان، فئة "الفيلم الأجنبي" الذي تغير اسمها ليصبح فئة "الفيلم العالمي" في دلالة على الانفتاح على الآخر، لتحسين صورة هوليوود بعد انتقادها لسنوات طويلة لتمحورها على الذات. 

فالآن أصبحنا نرى بشكل دورى أفلاماً غير ناطقة بالإنجليزية تنافس في فئة أحسن فيلم، ففي عام 2019 نافس فيلم روما (Roma) في هذه الفئة، وفي عام 2020 فاز بها فيلم طفيلي (Parasite) في سابقة تاريخية، وهذا العام نافس الفيلم الياباني، قُد سيارتي، (Drive my car) في هذه الفئة. والذي فاز في فئة أحسن فيلم عالمي.

بدأت ولازالت الثورة على سيطرة "الرجل الأبيض" على الصناعة منذ عدة سنوات، والتحسن الذي نلحظه الآن سبقه جهد كبير يعيد تشكيل الخريطة السينمائية. فمثلاً نجد أن أعضاء أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة ( أوسكار) الذي بلغ عددهم عام 2020 حوالي 9921 عضواً من داخل وخارج الولايات المتحدة، قد ارتفعت نسبة الأعضاء بينهم من خارج الولايات المتحدة من 12% عام 2015 إلى 20-25% حالياً. وهو بالطبع ما ينعكس على ما نلحظه من التنوع والاختيارت غير الاعتادية التي كان يسيطر عليها منظور الرجل الأبيض. وعلى الرغم من ذلك لازالت الجهود غير كافية ومحدودة من وجهة نظر البعض.

أخيراً، وبعيداً عن الأحكام المطلقة، يمكن القول إن تلك المعطيات تنبىء بتغيرات تتواكب مع الحراك السياسى والاجتماعي داخل المجتمع الأمريكي وخارجه. إذ لا يمكن قراءة دلالات ترشيحات الأوسكار وجوائزه بمعزل عن هذا السياق. فقد رأينا حضوراً قوياً لقضايا البيئة والتعددية وحالة الاستقطاب والذكورية المهيمنة وقضايا الأقليات في الأفلام المرشحة والفائزة، وهي القضايا الأبرز الآن في الولايات المتحدة. وظهر على السطح نقاش أصبح يتكرر مع كل حفل أوسكار في السنوات الأخيرة حول الانفتاح الملحوظ واتخاذ خطوات نحو مزيد من التعددية، والصوابية السياسية ومدى تأثيرها على الفن والمجتمع الذي يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به. وفي حالة الولايات المتحدة، يمتد هذا التأثير لباقي العالم، لاسيما في عصر المنصات، مما جعل هذه الصناعة تتخلى عن التمحور على الذات وتفتح أبوابها بشكل غير مسبوق، وهي الفرصة التي يجب اقتناصها.