تصاعدت ظاهرة حرق المحاصيل الزراعية، بشكل تدريجي ومتقطع، في عدة مناطق داخل سوريا والعراق، خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهو ما يرجع إلى حزمة من العوامل، كما عكستها الكتابات المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة، تتمثل في استمرار موجة الصراعات المسلحة وسباق الغذاء بين الأكراد وقوات الجيش النظامي السوري، وتعزيز سطوة أثرياء الحرب في دول الصراعات، وتوسيع نطاق الحصار على الدولة السورية وإضعاف الدولة العراقية، وردود الفعل الانتقامية من جانب كوادر تنظيم "داعش" على الهزائم التي تعرض لها في العامين الأخيرين.
إن هناك تفسيرات طبيعية لظاهرة حرق المحاصيل الزراعية في كل من سوريا والعراق، منها، على سبيل المثال، الارتفاع المتزايد لدرجات الحرارة بعد تصاعد أزمة التغير المناخي، حيث أكد برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، في 4 يونيو 2019، على أن "الحرائق التي اندلعت في الحقول في كافة أنحاء سوريا تسببت ببعضها درجات الحرارة المرتفعة".
كما أن قوات "الآسايش" (الأمن العام في مناطق الإدارة الذاتية الكردية) في شمال شرق سوريا تشير مرارًا إلى مشاركتها في مكافحة الحرائق في الحقول التي تندلع أحيانًا بسبب أعطال الكهرباء أو إهمال بعض المزارعين أو غياب الوسائل الحديثة لمكافحة الحرائق، إلى جانب الخصومات الشخصية، لا سيما بعد تزايد حالات التعدي على الأراضي الزراعية.
وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، في 28 مايو 2019: "إن حرائق محاصيل الحبوب ليست كلها أعمالاً عدوانية، بل أغلبها بسبب بعض الخلافات وبسبب ارتفاع درجات الحرارة"، مؤكدًا "أن الكميات التي احترقت ليست بالكبيرة جدًا، وهذا يحصل غالبًا في معظم دول العالم في موسم الحرارة الشديدة وهى معدلات متواضعة مقارنة بالدول الأخرى".
غير أن عبدالمهدي أقر بوجود أسباب أخرى في تصريحات، في 2 يونيو الجاري، حينما ذكر أن "حرائق محاصيل الحبوب تحدث لأسباب جنائية أو إرهابية، ولكن هناك حرائق تحصل لأسباب عرضية كماس كهربائي أو نزاع أو انتقام، وهناك مزارعون يحرقون التربة لتهيئتها للزراعة"، مطالبًا بـ"عدم المبالغة في هذا الأمر إذا كنا نريد خدمة وطننا وشعبنا"، حيث كان يهدف لوضح حد للتكهنات المختلفة بشأن تلك الحرائق.
لذا، تتضارب التفسيرات ويتم تبادل الاتهامات حول من يقف وراء حرق المساحات الواسعة من القمح والشعير وبعض المحاصيل الأخرى في سوريا والعراق، لدرجة أن البعض يطلق عليها "الحرائق الغامضة"، على نحو ما تعكسه النقاط التالية:
كرة النار:
1- استمرار موجة الصراعات المسلحة: شنت قوات الجيش النظامي السوري، بدعم من روسيا، هجومًا عنيفًا خلال الفترة الماضية على مواقع المعارضة المسلحة في ريفى إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، واتهم المجلس المحلي في مدينة خان شيخون النظام السوري بتعمد قصف "الأراضي الزراعية"، على نحو أدى إلى احتراق محاصيل القمح والشعير.
سباق غذاء:
2- سباق الغذاء بين الأكراد وقوات الجيش النظامي السوري: التهمت النيران مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في ريف الحسكة، في 11 يونيو 2019، وهو ما دعا الأكراد إلى طلب المساعدة من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "داعش". وهنا، توجه اتهامات إلى جهات يطلق عليها في بعض الكتابات "المقاومة الشعبية" المقربة من نظام الأسد التي سبق أن هددت بإشعال الحرائق عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك".
وتسعى السلطات الكردية، بعد أكثر من ثماني سنوات من اندلاع الصراع السوري، للحفاظ على قدر من الحكم الذاتي في المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرقى سوريا، وتتميز بسمتين هما غناءها النفطي وملائمة أراضيها لزراعة الحبوب والقمح، على نحو يجعلها بمثابة "خزان الموارد الطبيعية". ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، تقدر المساحة الزراعية التي التهمتها النيران بأكثر من 40 ألف دونم، أى نحو 70 في المئة من إجمالي الأراضي الزراعية في ريف القحطانية، على نحو جعله أكبر حريق تشهده المنطقة.
وفي هذا السياق، قال سلمان بارود الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية، في 12 يونيو الجاري: "إن سوريا في تاريخها لم تشهد حرائق بهذا الشكل"، مضيفًا أن "الخسائر كبيرة". وقد سيطرت الإدارة الذاتية الكردية على الحرائق، بالتعاون مع الهلال الأحمر الكردي، و"قوات سوريا الديمقراطية"، بمشاركة من مكونات وأطياف المواطنين المقيمين في منطقة القحطانية وريف الحسكة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية يتسابقا معًا على شراء المحاصيل الزراعية من أصحابها، إذ تشكل المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" نحو ثُلث مساحة الأراضي السورية، ويتراوح إنتاج محافظة الحسكة وحدها من القمح ما بين 40 إلى 45 في المئة من إنتاج القمح الإجمالي في سوريا، وفي حال إضافة إنتاج شرق الفرات، تكون "قوات سوريا الديمقراطية" سيطرت على 55 في المئة من إنتاج سوريا من القمح.
لذا، هناك من يتهم نظام الأسد بافتعال الحرائق عبر وكلاء له في مناطق سيطرة القوات الكردية كى لا تذهب المحاصيل إلى الأكراد. وفي مقابل ذلك الرأى، يتهم آخرون الإدارة الذاتية الكردية بحرق المحاصيل حتى لا تذهب للحكومة السورية التي حددت سعر شراء كيلو جرام القمح بأسعار تزيد عما حددته الإدارة الذاتية، لا سيما أن الحكومة السورية تعاني نقصًا من العملة الصعبة التي تتيح لها استيراد القمح من السوق العالمية.
أمراء الحرب:
3- تعزيز سطوة أثرياء الحرب في دول الصراعات: وهو ما ينطبق جليًا على سوريا، حيث يسعى هؤلاء الأثرياء إلى استيراد المحاصيل من الخارج بدلاً من استخدام المحاصيل السورية التي كثرت بسبب هطول الأمطار بشكل غزير في شتاء هذا العام. وفي هذا السياق، يحاول هؤلاء خفض الاستفادة من الإنتاج المحلي بما يعزز نفوذ أفراد مقربين من الحكومة مع الأخذ في الاعتبار إصدار قانون قضى بإنشاء مؤسسة للحبوب تحمل اسم "المؤسسة العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب" (السورية للحبوب).
وتتخذ هذه المؤسسة من مدينة الحسكة مقرًا لها، ويترأسها وزير التجارة الداخلية، علمًا بأن هناك وجودًا رمزيًا للحكومة، في حين أن الدور الفعلي للإدارة الذاتية الكردية. ويعد استيراد الحبوب أحد المصادر الرئيسية للثراء لدى عدد من رجال الأعمال في الأعوام الأخيرة، عبر الالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد.
حصار اقتصادي:
4- توسيع نطاق الحصار على الحكومات: يشير اتجاه سائد في الأدبيات، وخاصة التابعة لنظام الأسد، بأن الحرائق التي التهمت المحاصيل الزراعية في الأراضي السورية التي تقع تحت سيطرة "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة، وخاصة في محافظة الحسكة، "متعمدة" لمنع الدولة السورية من الاستفادة من موسم هطول الأمطار في شتاء هذا العام، حيث كان يبلغ حجم الإنتاج من الحبوب ثلاثة ملايين طن، وفقًا لأحد التقديرات السائدة، على نحو كان سيشكل كسرًا للحصار المفروض على الدولة السورية.
ويتكرر هذا التفسير في إطار الحالة العراقية، إذ أن الحرائق التي شهدتها عدة محافظات، مثل صلاح الدين وديالي ونينوي وكركوك خلال الأسابيع القليلة الماضية، تستهدف سيادة الدولة، ورغم امتلاك الولايات المتحدة التقنيات الحديثة في إطفاء الحرائق، إلا أنها لم تستخدمها بما يسبب خسائر فادحة للاقتصاد العراقي، في وقت كان المزارعون يستعدون فيه لموسم الحصاد.
مناطق غير آمنة:
5- ردود انتقامية من كوادر تنظيم "داعش": خاصة بعد أن منى بهزائم كبيرة في مناطق نفوذه الرئيسية في العراق وسوريا، وهو ما جعله يتبنى الحرائق التي حدثت في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" ومناطق أخرى عراقية عبر وسائل الإعلام التابعة له (شرق سوريا وغرب العراق). وفي هذا السياق، فإن تنظيم "داعش" كان يريد أن يوجه رسالة بأن هذه المناطق ليست آمنة بعد عودة المزارعين والفلاحين لأعمالهم، فضلاً عن عودة الاستقرار النسبي إلى هذه المناطق بعد تحريرها من التنظيم.
ويمكن القول إن هناك محاولات من جانب "داعش" لتوجيه رسائل تكشف قدرته على إلحاق الأذى بالدول "غير المتعافية" والمجتمعات "غير المستقرة" في سوريا والعراق. لذا، تشير بعض الكتابات إلى أن اندلاع الحرائق في حقول السويداء ذات الأغلبية الدرزية التي تتمتع بإدارة محلية منذ سنوات يعود إلى محاولة "داعش" معاقبتها، في حين تشير كتابات أخرى إلى اتهام قوات الجيش النظامي السوري بذلك لإخضاع أهالي السويداء.
دوامة الصراعات:
من العرض السابق يتضح أن السبب المحوري لتلك الحرائق يتعلق بحالة الصراعات الاندماجية في تلك المنطقة، واستمرار المواجهات بين أطراف الصراعات، فضلاً عن تدمير البنى التحتية وخاصة قطاع المياه، حيث أدى وقوع المصادر الرئيسية الكبيرة في المناطق الساخنة إلى عجز كبير في قدرتها على تأمين المياه للسكان، وتوقف العمل في المشاريع الزراعية، على نحو دعا برنامج الغذاء العالمي، في 4 يونيو الجاري، إلى تأكيد أن "اندلاع أعمال العنف الأخيرة في شمال غربى ووسط سوريا قد أحرق عدة آلاف من الأفدنة والأراضي الزراعية الحيوية".
وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم برنامج الأغذية العالمي هيروفيه فيرهوسيل: "لم يكن هناك نزوح للأشخاص وإزهاق للأرواح فحسب، ولكن تم أيضًا تدمير مزارع حيوية بالنسبة للأمن الغذائي في المنطقة، بما في ذلك محاصيل مثل الشعير والقمح والخضراوات"، مضيفًا: "إن تدمير الأراضي الزراعية والقطاع الزراعي أمر غير مقبول.. إن حرق هذه المحاصيل والأضرار التي لحقت بالأراضي وسبل المعيشة ستعطل دورات الإنتاج الغذائي الحساسة وقد تؤدي إلى تفاقم وضع الأمن الغذائي في الشمال الغربي في المستقبل القريب".