أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

"الطبقية الحديثة":

صعود قوة "البرجوازية الصغيرة" في السياسة المعاصرة

02 أكتوبر، 2023


عرض: منى أسامة

مع تراجع التصنيع واتساع اقتصاد الخدمات في ظل انتهاج الدول خاصة الأوروبية لسياسات الليبرالية الجديدة، صعدت "البرجوازية الصغيرة"، لتشكل قوة مؤثرة ضمن الطبقة الوسطى في السياسة المعاصرة، حتى إنها أدت دوراً في دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وغيرت هذه القوة الجديدة من طرق التفكير العلمي في التحليل الطبقي للمجتمعات الحديثة، ولاسيما أنها شريحة من الأفراد لديهم نزعة فردانية وليست جماعية.

وتُعرف الطبقة الاجتماعية بأنها مجموعة من الأفراد يتشاركون ظروفاً اقتصادية واجتماعية متشابهة، وعادةً ما يتم تحديد تلك الطبقة بناءً على ارتباط أفرادها بوسائل الإنتاج، إلا أن هناك معايير أخرى لتشكيلها مثل، التعليم والمكانة والمهارات والاعتراف من قبل الآخرين. وتُصنف الطبقات الاجتماعية غالباً إلى ثلاث: الطبقة العليا أو البرجوازية (الأثرياء، وأصحاب العمل)، والطبقة العاملة أو البروليتاريا (ليس لديها أي ممتلكات وهي مجبرة على العمل لدى البرجوازية من أجل البقاء)، والطبقة الوسطى (وهي طبقة ضخمة متعددة تقع بين البروليتاريا والبرجوازية).

وعلى عكس ما كان متوقعاً من اختفاء الطبقة الوسطى، بما فيها "البرجوازية الصغيرة" تزامناً مع صعود الرأسمالية الاحتكارية (على اعتبار أنها فئة "انتقالية" بين الطبقتين الرئيسيتين بحسب تعبير كارل ماركس)، إلا أن التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي في ظل الليبرالية الجديدة أدت إلى نمو البرجوازية الصغيرة، وتعميم القيم الفردية المرتبطة بها، كـ"الطموح" الخاص بالصعود إلى طبقة أعلى والتوسع في ملكية المنازل وريادة الأعمال. 

واستناداً إلى إسهامات مفكرين يساريين مثل كارل ماركس، ونيكوس پولانتزاس، يستكشف الكاتب دان إيفانز في كتابه "أصحاب المتاجر: صعود البرجوازية الصغيرة الذي لا يمكن إيقافه"، الهيكل الطبقي المعاصر في بريطانيا، وما يتضمنه من نمو طبقة البرجوازية الصغيرة، ولاسيما مع صعود الليبرالية الجديدة منذ الثمانينيات، لافتاً إلى هيمنة هذه الطبقة على اليسار البريطاني المعاصر، سواءً النشطاء اليساريين أم أعضاء النقابات الجدد بالرغم من أنها أعادت إنتاج قيم الطموح والاستهلاك والتي تعمل ضد التنظيم الاشتراكي.

ماهية "البرجوازية الصغيرة"؟

البرجوازية الصغيرة ليست مرادفة للطبقة الوسطى بالكامل، لكنها تعد جزءاً من الطبقات الوسيطة (الضخمة) في الهيكل الطبقي الحديث. ويفترض إيفانز أن هناك نوعين من البرجوازية الصغيرة إحداهما "تقليدية"، والأخرى "جديدة". وهما منفصلتان عن البروليتاريا والبرجوازية اجتماعياً وثقافياً وأيديولوجياً. وتشير البرجوازية الصغيرة "التقليدية" إلى طبقة صغار الحرفيين والمزارعين، وقد احتلت هذه الطبقة مكانة "بينية" بين الطبقة العاملة والبرجوازية، كما تميزت باستقلاليتها وعزلتها الاجتماعية وفردانيتها. وتوقع كارل ماركس، اندثار هذه الطبقة، إلا أنها تطورت واتخذت أشكالاً مختلفة في عصور مختلفة بسبب مرونتها، فعلى سبيل المثال، تحول المزارع الصغير أو الحرفي إلى صاحب متجر، وما إلى ذلك. 

أما النوع الثاني، فهو البرجوازية الصغيرة "الجديدة"، وتتضمن هؤلاء المتطورين ثقافياً والواعين سياسياً ممن يتركزون في المدن. وفي حين أنها تختلف ثقافياً عن البرجوازية الصغيرة القديمة، فهي أيضاً قريبة اقتصادياً من البروليتاريا لكونها لا تمتلك وسائل الإنتاج الخاصة بها، ومع ذلك توضع اجتماعياً وأيديولوجياً في البرجوازية الصغيرة نتيجة اتسامها بذات الفردية والحاجة إلى التميز، كما في البرجوازية الصغيرة القديمة.

ويُلاحظ أن هناك تنامياً مستمراً في عدد الأشخاص الذين يعملون بمفردهم، في بيئات معزولة وغير نقابية وغير جماعية، كالعمل داخل السيارة (مثل أوبر) أو العمل في المنزل، ورسخت هذه التجارب الاجتماعية في العمل النزعة الفردية المعادية للجماعية، وهو ما يُعد تطوراً مهماً، فيما يخص اليسار بشكلٍ خاص والمجتمع بشكلٍ عام.

وتتشابه البرجوازية الصغيرة "التقليدية" وكذلك "الجديدة" في طبيعتهما غير المستقرة، فكلاهما نتاج نظام رأسمالي يتسم بالمنافسة بين الطبقات الوسطى، من حيث احتمالات تغيّر الرتبة تلازماً مع الحراك الاجتماعي المستمر. وفي الوقت نفسه، ترفض كل من البرجوازية الصغيرة التقليدية والجديدة الانضمام إلى حياة الطبقة العاملة ساعيتين باستمرار إلى تسلق السلم الاجتماعي، إما من خلال تراكم رأس المال الاقتصادي (الطبقة البرجوازية الصغيرة التقليدية) أو اكتساب المؤهلات الأكاديمية، واكتناز رأس المال الثقافي (الطبقة البرجوازية الصغيرة الجديدة).

أزمة التحليل الطبقي:

يرى الكاتب أن هناك أزمة في تحديد ماهية الطبقة الاجتماعية لدى الأوساط الثقافية والاجتماعية، بما فيها المفكرون اليساريون. فغالباً ما يُنظر إلى الطبقة بمعيار شكلي كالتشابه في اللهجة أو المهنة. ومن ثم أصبحت "الطبقة الوسطى"، مصطلحاً عديم الفائدة لوصف مجموعة من السلوكيات الغامضة والممارسات الاستهلاكية المتصاعدة. ويضيف الكاتب أن البرجوازية الصغيرة، هي طبقة معقدة وغير متجانسة، ولاسيما البرجوازية الصغيرة الجديدة، والتي لا تمتلك وسائل الإنتاج الخاصة بها (كالبروليتاريا)، حيث إن نمو هذه الطبقة الجديدة هو جزء من عملية تراجع التصنيع وهيمنة اقتصاد الخدمات في الاقتصادات النيولبيرالية. 

ففي أوائل القرن العشرين، انضم إلى البرجوازية الصغيرة العمال "ذوو الياقات البيضاء" (كالموظفين والمسؤولين) لإدارة الرأسمالية والعمل في بيروقراطية الدولة. وفي عصر الليبرالية الجديدة، نمت هذه الطبقة بشكل كبير، وتم تحديثها بانضمام عمال في مناصب إشرافية يتميزون اجتماعياً وسياسياً وعقائدياً عن العمال ذوي الياقات الزرقاء، على الرغم من أنهم ليسوا أفضل حالاً من الناحية المالية.

بناءً على ما سبق، لا بد من تجاوز التحليل الطبقي التقليدي، والذي يهتم بالنواحي الاقتصادية البحتة (أي القائمة على ملكية وسائل الإنتاج) عند تحليل وفهم خصوصية البرجوازية الصغيرة الجديدة. في هذا السياق، يشير الكاتب إلى إسهام إريك أولين رايت، بشأن "مواقع الطبقة المتناقضة" للمساعدة في فهم الطبقات المتوسطة في المجتمعات الحديثة. إذ جادل رايت، بأن حدود الطبقة ليست ثابتة أو قاطعة، حيث هناك مناطق رمادية على الحدود بين الطبقات لديها عناصر من المصالح (والأيديولوجيات) لكلا الطبقتين العليا والدنيا. 

وأسهم انعدام الشعور بالأمن في الوقت الحالي في تلاشي الحدود بين البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة. وبسبب هذه الحدود القابلة للاختراق (أو النفاذية بين الطبقات)، فمن المرجح أن تصبح ثقافة وسمات البرجوازية الصغيرة غير واضحة داخل الطبقة، أي سيكون من الصعب التحدث عن موطن مميز للبرجوازية الصغيرة. بل ومن الممكن أيضاً أن يتأثر الجزآن العلوي والسفلي من الطبقة بشكل متزايد بثقافة وعادات الطبقة العاملة أو الطبقة الإدارية المهنية. 

آثار الليبرالية الجديدة:

أدت الليبرالية الجديدة إلى تحول الهيكل الطبقي الاجتماعي من هيكل بسيط نسبياً (يتكون من طبقة عاملة كبيرة، وطبقة حاكمة صغيرة، وطبقة متوسطة صغيرة) إلى فئة أكثر تعقيداً بعد تضخم الطبقة الوسطى وعدم تجانس الطبقة الحاكمة. وفيما يتعلق بالطبقة الوسطى، فيمكن تقسيمها إلى قسمين: "الأعلى" ويتضمن المهنيين والإداريين أما القسم الأدنى (وهو الأكبر حجماً) فهو البرجوازية الصغيرة الجديدة. ويشير الكاتب إلى أن غالبية شباب اليسار المعاصر متجذرون في الطبقة البرجوازية الصغيرة الجديدة. 

وجدير بالذكر أن البرجوازية الصغيرة الجديدة هي طبقة مترامية الأطراف، تضم عدداً لا يحصى من المهن والخبرات، كما أنها تتميز بحركتها الدائمة وبالتالي هشاشتها، وهو ما يميزها عن الطبقة العاملة، علاوة على معايير أخرى، كالوظيفة والثقافة والأيديولوجيا والتي تحدد ماهية عضوية هذه الطبقة. مع ذلك، ليس من الواضح، ما إذا كانت البرجوازية الصغيرة الجديدة لديها مؤسساتها أو ثقافتها الخاصة مثل، البرجوازية الصغيرة القديمة، أو الطبقة العاملة، أو الطبقات المهنية الإدارية أم لا. هنا يطرح الكاتب عدة محددات للبرجوازية الصغيرة الجديدة، ومن أبرزها:

1) التعليم النظامي: وهو يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للبرجوازية الصغيرة الجديدة مقارنة بالبرجوازية والطبقة العاملة، ولاسيما أن التعليم يوفر لهؤلاء الفرصة لعدم النزول إلى الطبقة العاملة، بل ويزيد احتمالية الارتقاء في الهيكل الاجتماعي. علاوة على ذلك، أسهمت استراتيجيات التعليم في المملكة المتحدة في تنمية الطبقات الوسطى، ومن أمثلة هذه الاستراتيجيات التوسع في التعليم العالي، وفصل البرجوازية الصغيرة الجديدة عن الطبقة العاملة في المدرسة وغرس مبادئ، كالمضي قدماً والرغبة الفردية لدى منتسبي الطبقة. لكن في الوقت نفسه، لا تظهر أية فرص في الأفق أمام هذه الطبقة من أجل الوصول إلى البرجوازية أو الطبقات المهنية الإدارية، ولاسيما مع تزايد معدلات البطالة وارتفاع الديون. ونتيجة لما سبق، أصبح رأس المال التعليمي غير قادر على توفير الحراك الاجتماعي المأمول (إلى الأعلى).

2) ملكية المسكن: تُعد خصخصة الإسكان ركيزة أساسية في الليبرالية الجديدة، وقد أدى الحق في شراء مسكن إلى طمس الحدود بين العناصر الطموحة داخل الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة. فلم يعد امتلاك العقارات الصغيرة حكراً على البرجوازية الصغيرة. والجدير بالذكر، أن سياسة الإسكان فيما يتعلق بالتشجيع على "امتلاك المسكن" هي جزء من استراتيجية الطبقات الحاكمة (الحكومات اليمينية المتعاقبة)، بهدف دعم رأس المال وتهميش اليسار. ونتيجة لذلك، تلاشت المدن العمالية، والتي كان يتم بناؤها إلى جوار المناطق الصناعية، وحل محلها مساكن في مناطق ما بعد الصناعة حول المستشفيات أو بجوار الطرق السريعة. وبدورها، حققت تلك الأبنية الحديثة لأصحابها بعض الأمان عن طريق تجنب الحراك الاجتماعي إلى الأسفل.

يختم الكاتب بأن البرجوازية الصغيرة أصبحت الآن قوة سياسية رئيسية في السياسة المعاصرة، فعلى سبيل المثال دعمت هذه الطبقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، وأيضاً أيدت المعارض البريطاني جيريمي كوربين. وبالتالي من الضروري فهم البرجوازية الصغيرة الجديدة كطبقة مميزة ومحددة لها خبرتها الخاصة وقيمها وأيديولوجيتها، بدلاً من إدماجها مع طبقات أخرى. 

وفي ظل حالة عدم الاستقرار وانخفاض الشعور بالأمن، يرى الكاتب أن على اليساريين بناء تحالفات طبقية بين البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة على أساس المصلحة المشتركة في إعادة رسم الهياكل الاقتصادية لإنهاء الهشاشة. واعتبر الكاتب أن قبول عناصر البرجوازية الصغيرة الجديدة الحراك الاجتماعي الهابط إذا لم يستطيعوا تسلق السلم الوظيفي قد يؤدي إلى تآكل تدريجي للحدود الطبقية، ويساعد في ضمان تشكيل تحالفات سياسية واسعة في الدول والمجتمعات.

المصدر:

Dan Evans. A Nation of Shopkeepers: The Unstoppable Rise of the Petty Bourgeoisie. London: Repeater Books ,2023.