أخبار المركز
  • د. إبراهيم غالي يكتب: (الكابوس النووي القادم في آسيا والعالم)
  • د. محمود سلامة يكتب: (استجابة ثلاثية: بدائل تقليل الخسائر التعليمية في صراعات الشرق الأوسط)
  • مصطفى ربيع يكتب: (إخفاقات متكررة: هل تنجح استطلاعات الرأي في التنبؤ بالفائز بالرئاسة الأمريكية 2024؟)
  • د. رامز إبراهيم يكتب: (الحل الثالث: إشكاليات إعادة توطين اللاجئين بين التسييس وإزاحة الأعباء)
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (التكنولوجيا العمياء: كيف وظفت إسرائيل الذكاء الاصطناعي في حرب غزة ولبنان؟)

ثقافة الجوائح.. هل تُحصن الناس ضد الفزع من "جدري القردة"؟

01 يونيو، 2022


هل صار البشر لديهم حصانة ضد الفزع من الفيروس الجديد المُسمى جدري القردة؟ أعتقد نعم، فالوباء ليس سريع الانتشار، وخبرة مواجهة الأوبئة زادت، والآذان لن تستميلها وسائل الإعلام وتسلبها أي قدرة على التفكير الصافي الرشيد، وكثير من الأوهام التي يُنفخ فيها، لأسباب أو أغراض أخرى، تساقطت تحت أقدام الذين يعرفون أن بوسعهم التحايل على الحياة كي تستمر.

أي حصانة؟

وإذا كانت الإجابة هي "نعم"، كما تقدم، فأي حصانة هي؟ لا أعتقد أنها "حصانة اقتصادية"، فالأحوال المادية للعالم بأسره كانت أفضل كثيراً عند اكتشاف وباء "كوفيد 19" مما هي عليه وقت الإعلان عن إصابة أول شخص بجدري القردة، حيث الآثار القاسية للحرب الروسية التي تُضرم نيرانها على الأراضي الأوكرانية. ولا أعتقد أنها "حصانة سياسية"؟ فالعالم أصبح الآن ذا ميل إلى الصراع، بفعل الحرب نفسها وأشياء أخرى. 

كما لا أعتقد أنها "حصانة طبية"، فعدد الأطباء والممرضات لم يزد، بل فقدنا كثيراً من أفضلهم وقت جائحة كورونا، كما أن القدرات المطلوبة في علم الطب وطرق الوقاية لم تشهد طفرة في الشهور الأخيرة. وعلى جانب رابع، لا يمكن أن تكون هناك "حصانة أمنية"، بالمعنى الشامل للأمن، حيال الفيروس الجديد مقارنة بما كان عليه الوضع أيام جائحة كورونا، فالعالم كله في ورطة أمنية، تشتد حدتها، وتمتد من الأمن الغذائي حتى الخوف من اندلاع حرب نووية. ومن زاوية خامسة، قد لا يكون الأمر يتعلق بحال من "التشبع" حيال ما تبثه وسائل الإعلام من أخبار، لأن فتور الناس إزاء كل جديد، وانصرافهم عنه، يمكن تبديده في زمن وجيز، عبر حملات إعلامية تعيد الفزع إلى مربعه الأول.

إذن، ما الذي يجعل الناس في اطمئنان إلى أنهم قادرون على التعامل مع الفيروس الجديد بكفاءة واقتدار؟ ما الذي يجعلهم لا يتعجلون ولا يتزاحمون؟ ما الذي يجعلهم واثقين من أن حيواتهم في أمان نسبي؟

لا يمكن في هذا المقام إنكار ما للوباء من خصائص، فكورونا كان له من القدرة على الإيذاء ما يفزع حقاً، فهو مرض تنفسي، وانتشاره سريع، وإمكانية تجنب الإصابة به غاية في الصعوبة، وقدرة المشافي محدودة في استيعاب الذين يتساقطون تباعاً بفعل الوباء. بينما بوسعنا أن نمتلك قدرة أكثر على تجنب الإصابة بجدري القردة، وأن نتبع طرق وقاية لها ملاءة قوية في الإتيان بالنجاة، بل إننا نذهب إلى هذا الفيروس وفي جعبتنا مليارات اللقاحات ضد الجدري العادي، التي يقول العلم إنها قادرة على تحقيق شفاء من جدري القردة بنسبة تصل إلى 85%، وفي الوقت نفسه فإن هناك دولاً عديدة حصنت أهلها بهذا اللقاح الذي يُعطى للناس في الطفولة المبكرة.

العامل الثقافي:

كل هذه الأسباب والإحالات مقبولة، وفيها وجاهة لا يمكن نكرانها أو التقليل منها، لكن هناك من هو أعمق، راسياً في القيعان البعيدة، يأتي في الوقت المطلوب ليمارس دوره في إمداد كل فرد بزاد يعينه على الاستمرار في خوض معركته الكبرى، ألا هي البقاء على قيد الحياة أولاً، ثم العمل الدؤوب في سبيل تحسين شروطها التي تقسو.

إن هذا الراسي في الأعماق لا يكون إلا الثقافة، التي تمتد من المعرفة بالشيء إلى امتلاك خبرة التعامل معه، ثم القدرة على تجنب أذاه، وتحويل محنه إلى منح، ومشاكله إلى فرص. وهذا يكون في حد ذاته جزءاً مهماً ورئيسياً من الأساليب الأكثر نفاذاً، حتى لو كانت خفية، في مقاومة الإنسان للمرض بوجه عام، وللجوائح على نحو خاص.

لقد كان من المُعتقد فيه قبل سنوات، ولا يزال قائماً عند البعض، أن الثقافة عنصر هامشي في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية، وأننا إذا أخفقنا في إيجاد سبب محدد نحيل الأمر إلى الثقافة. لكنني أتصور، وقياساً على ما يخص وباء جدري القردة، أن ما يُعطي الناس منعة أو حصانة في التعامل معه بثقة هو أمر ثقافي، سواء كان يخص الثقافة العامة التي تعني التعامل مع الظروف التي تُستجد، والأخطار التي تحدق، أو كانت أسباباً خاصة تتعلق بمرض خطير أو وباء.

إن الوباء، يبدو بمنزلة "أزمة"، وللأزمات طرق في المواجهة، كما يقول علماء السياسة والعسكريون والتجار وحتى المواطنين العاديين حين يداهمهم ما لا يكونوا واضعين إياه في الحسبان. فالأزمة تعني ضيقاً في الوقت، ونقصاً في المعلومات، ومساساً بشيء جوهري. وحين يسرى وباء شديد العدوى، يريد أن يخطف الناس من الحياة، فلا تأزم أشد من هذا، إذ لا مصيبة تحل بإنسان أكثر من الموت، حتى لو كان هناك من يطلب من الله أن يجعله راحة له من كل شر.

ولأنها أزمة لا ينفع الناس فيها أكثر من الخبرة الشخصية، لاسيما إن كانت يد الدولة عاجزة أو مقيدة أو مهملة أو مضطربة، وطالما رأينا مع كورونا كيف اضطرب وعجزت أياد حكومات دول متقدمة، وطالب بعضها الناس بأن يودعوا أحباءهم، في إعلان صريح عن قلة الحيلة، بل العجز التام.

وهذه الخبرة هي مسألة ثقافية بالأساس، فما خبره كل فرد منا في مواجهة "كوفيد 19"، أمده، من دون شك، ببعض القدرة، التي تأتي من انفعالات والاهتداء إلى أساليب واتباع طرائق تتحول إلى طقوس أو ما يشبهها أو يقترب منها، وما هذا إلا ثقافة، تبدأ بالمعرفة وتمر بالقيم والتصورات والأفكار لتنتهي بتحديد الاتجاهات وتبلورها.

لقد كانت المعارف التي اكتسبها الناس حيال الأوبئة وقت كورونا غزيرة، اختلط فيها الحقيقي بالمتوهم، والضحل بالعميق، لكنها لم تترك تقريباً فرداً على وجه الأرض إلا ونال شيئاً من حيلة أو مواجهة ضد الوباء، في معركة سقط فيها الملايين عبر العالم. ومن المؤكد أن هذا سيعين كل منا على مواجهة أخرى أكثر نجاحاً مع جدري القردة.

لقد كتب من سبقونا عن الأوبئة، سواء كانوا أطباء أو مؤرخين أو أدباء، وتركوا لنا ما لجأ بعضنا إليه وقت كورونا، فرحنا نستعيده، عارضين إياه، لنطمئن أنفسنا أولاً بأنها ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها وباء الأرض ويفزع البشر ومع هذا لم تنته الحياة. لكننا في عرضنا هذا إنما كنا نفعل مع شيء لم نعاصره، ولم نكابد منه، فبدا لنا مجرد سطور حزينة في كتب قديمة، نقرأها ونحن جالسون في مقاعدنا أو راقدين في مخادعنا، وقد نلهو بها، مثلما كان يفعل الأباطرة في مقاعدهم الوثيرة وهم يتابعون مجالدين يتقاتلون في حلبات المصارعة من أجل تسلية سادتهم. بل إن حالنا يكون أقل من هذا بقليل، فنحن لا نرى من يتساقطون، ولا نسمع أنينهم، ومهما تخيلناه، نكون في اطمئنان تام إلى أن القراءة لن تنقل لنا العدوى.

أما هذه المرة، فقد التحق وباء بوباء، فجاء الجديد بينما القديم لم يرحل بعد، ولأن اللاحق أقل خطراً من السابق، بدا الأمر لنا أشبه بمن يكون عليه أن يجري مارثون لا يزيد عن ألف متر، بعد أن تدرب على الجري بنجاح لعدة كيلومترات.

تأثير المعلومات:

لقد منحت ثورة الاتصالات الرهيبة التي يشهدها العالم فرصة واسعة لتعميق هذه الخبرة، فالناس قد تبادلوا الألم والأمل في آن واحد، حين تحدثوا عن تجاربهم مع الوباء، وتناسل هذا الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فعرفه القاصي والداني، ونقل المنخرطون في هذه المواقع بعض ما فهموه إلى غير المهتمين بها، وصارت المعلومات والأوهام تتدفق إلى أسفل، لكنهما، وفي كلتا الحالتين، خلقتا نوعاً من الحميمية بين البشر، وأدرك كل منهم أن مصيره مربوط بمصائر آخرين. وكانت هناك فرصة لتبديد الأوهام، وغربلة المعلومات الهائلة، للوقوف على الصائب فيها، من خلال إطلالات أطباء على القنوات الفضائية وفي الصحف وبعضهم عبر حساباتهم في "فيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب".. إلخ.

ويتكرر هذا الأمر مع فيروس جدري القردة، بعد أن تآلف الناس مع أمثال هذه الأمراض، وصاروا أكثر دراية بالمنابع الأصلية للمعلومات حولها، وأعمق فهما للتمييز بين المفيد منها والضار بشأنها، ومنحهم ذلك، من دون شك، حصانة، تبدت في تماسكهم حيال فيروس الجدري أو غيره من أمراض قد يشهدها العالم مستقبلاً.

ولا يمكن أن تكون هذا حالة من اللامبالاة أو التبلد الإدراكي حيال الفيروس الجديد، فهو في النهاية قد يقتل إن تمكن من المصاب، حتى لو لم يكن سريع الانتشار مثل "كوفيد 19"، كما أن أعراضه تكون ظاهرة وقبيحة، وقد يشعر كثير من المصابين به بخجل منه، ويشعر الناس من غير المصابين بالاشمئزاز حين يرون المصابين، ويفرون منهم كما يفر السليم من الأجرب.

وأخيراً، يبدو الفارق الأساسي بين رد فعل الناس حيال فيروسي كورونا وجدري القردة، مرتبطاً أكثر بمسألة ثقافية، في قلبها خبرة التعامل مع الأوبئة التي اكتسبها جيلنا، والتي ستساهم بالطبع في مقاومة كل فرد منا للوباء، ومساعدة غيره على امتلاك هذه المقاومة، التي إن كان حدها الأدنى والاعتيادي يتعلق بالنظافة الشخصية المطلوبة، فإن هذه الخصلة تبدو مسألة ثقافية بامتياز.