أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

دول بلا سيادة:

ماذا لو انتشرت شبكة "إنترنت الفضاء" في عام 2022؟

20 ديسمبر، 2021


تعد التغيرات التي يشهدها قطاع الاتصالات اللاسلكية خلال هذا العقد ثورية غير مسبوقة، ليس تطوراً من سرعة إلى سرعة أو من جيل إلى جيل؛ بل هو إعلان عن عصر جديد تماماً من "الاتصالات اللاسلكية فائقة السرعة"، مختلف تماماً عما قبله، كماً وكيفاً. إذ إن حجم البيانات التي سيتم نقلها في أقل جزء من الثانية كبير للغاية، والتزامن بين ملايين من أجهزة إنترنت الأشياء ونظم الذكاء الاصطناعي والروبوتات فوري ولحظي وفي وقته الحقيقي، والتغطية التي سوف يقدمها تغطي سطح الكوكب من دون الحاجة إلى الاتصال بكابلات أرضية.

ولم تكد الدول تبدأ تدشين شبكات الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية، حتى اشتعل مضمار السباق بين كبريات الشركات في العالم لتقديم خدمات "إنترنت الفضاء" أو "الإنترنت الفضائية"؛ وهي تلك الأقمار الصناعية التي تبث إنترنت بسرعات عالية جداً إلى المستخدمين، وذلك عبر مدارات قريبة من الأرض، ما يزيد المشهد ضبابية حول مستقبل الإنترنت بصورة خاصة والاتصالات اللاسلكية بصورة عامة؛ لأنه أصبح بوسع الأفراد الحصول على الإنترنت خارج سيطرة الدول، وذلك من السماء مباشرة عبر القمر الصناعي، وفقط عبر أجهزة استقبال كتلك التي تُستخدم في استقبال البث التليفزيوني، وطبعاً من دون الحاجة إلى أسلاك. 

وفي إطار سلسلة التحليلات التي ينشرها مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" مع قرب بداية العام الجديد 2022، يُطرح تساؤل هنا مفاده ماذا لو انتشرت الإنترنت الفضائية في العالم، وتأثيرات ذلك على سيادة الدول وأمنها القومي؟ 

تعريف إنترنت الفضاء:

عادة ما تدور الأقمار الصناعية التقليدية المُخصصة للبث التليفزيوني والإذاعي حول نفسها في مكان ثابت في الفضاء على ارتفاع أكبر من 36 ألف كيلومتر عن الأرض، حتى تستطيع تغطية أكبر مساحة ممكنة من الكوكب، ويترتب على ذلك تأخر في إشارة البث تقترب من 500 جزء من الثانية أي نصف ثانية، وهذا يعني أن من يتحدثون عبر القمر الصناعي سوف يقاطعون بعض باستمرار مثلما يحدث في المداخلات التي تتم بين الضيوف عبر التليفزيون. وقد تكون المشكلة بسيطة عند المحادثات، لكنها تكون كبيرة جداً في نقل البيانات التي تحتاج في بعض الأحيان إلى المزامنة بين الأجهزة، أي نقلها في وقتها الحقيقي من دون تأخير.

وللحصول على أقل معدل تأخير ممكن لنقل البيانات، يجب تقريب الأقمار الصناعية من الأرض إلى أكبر درجة ممكنة تتراوح بين 300 إلى 2000 كم، ولكن مع اقتراب القمر الصناعي من الأرض تقل المساحة الجغرافية التي يستطيع تغطيتها. وبالتالي بدلاً من استخدام عشرات أقمار صناعية لنقل البيانات بمعدل تأخير أقل، يحتاج الأمر إلى مئات أو آلاف من الأقمار الصناعية المتحركة حول الأرض والتي تغطي مساحات جغرافية صغيرة ولكن بسرعات نقل بيانات كبيرة، وهو ما تعمل عليه عدة شركات عالمية من خلال تقديم خدمة الإنترنت عبر الفضاء.

والإنترنت الفضائية من طرق الاتصال بالإنترنت باستخدام الأقمار الصناعية بسرعات عالية جداً وبمعدل "كمون" أو تأخير يصل إلى ثلاثة أجزاء من الثانية الواحدة، حيث يتم استقبال الإشارات من الأقمار الصناعية التي تبث خدمات الإنترنت من مدارها القريب من الأرض إما من خلال محطات استقبال أرضية تقوم باستقبال الإشارة من القمر الصناعي إلى المستخدم وإعادة إرسالها للقمر مرة أخرى، أو من خلال أطباق استقبال وإرسال كتلك التي تُستخدم في استقبال البث التليفزيوني الفضائي ولكن بحجم أصغر، ومن دون الحاجة إلى توجيهها إلى قمر صناعي معين، حيث يقوم الهوائي بالتبديل بين الأقمار الصناعية المختلفة بصورة تلقائية.

أهم المشروعات:

بدأت العديد من الشركات بالفعل في إرسال أقمارها إلى الفضاء لبث الإنترنت إلى الأرض من هناك، ولعل أبرزها شركة "سباس إكس" SpaceX التي يرأسها "إيلون ماسك". كما أعلنت شركة "وان ويب" OneWeb المملوكة لشركتي Airbus الأوروبية وSoftbank اليابانية، وشركتا "أمازون" و"فيرجن"، إضافة إلى مشاريع أخرى مُشابهة من شركة "تيلي سات" Telesat الكندية؛ عزمهم إطلاق أقمارهم الاصطناعية لبث خدمات إنترنت الفضاء.

وتظل "سباس إكس" بمشروعها "ستار لينك" Starlink هي أكثر الشركات حتى الآن إطلاقاً لأقمار صناعية إلى الفضاء لتقديم خدمات الإنترنت، تليها شركة "وان ويب" التي بدأت بإطلاق أقمارها وتقديم خدماتها التجريبية في أوروبا مع خطط مستقبلية للتوسع.

أما المنافس الثالث فهو شركة "أمازون" الأمريكية التي أعلنت أنها تعتزم استثمار 10 مليارات دولار في مشروعها لتوفير شبكة الإنترنت عبر الفضاء، بعد مصادقة هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية على نشر أكثر من 3 آلاف قمر اصطناعي في المدار الأرضي المنخفض، وذلك عبر مشروع "كويبر" Kuiper الذي يهدف إلى توفير خدمة إنترنت فائقة السرعة بواسطة الأقمار الاصطناعية في الولايات المتحدة، ولاحقاً في مختلف أنحاء العالم.

وتأتي بعد ذلك شركة "تيلي سات" الكندية التي تسعى لتقديم خدماتها لبعض الدول الأوروبية بحلول عام 2024، وذلك من خلال إطلاق 298 قمراً صناعياً، بحيث توفر من خلالها خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية للهيئات الحكومية وشركات الطيران والملاحة البحرية.

مشروع "ستارلينك":

تسعى شركة "سباس إكس" من خلال مشروعها "ستارلينك" لإطلاق ما يقرب من 42 ألف قمر صناعي عبر مدارات قريبة من الأرض، ومهمتها تقديم خدمة إنترنت سريعة جداً وبمعدل تأخير Latency يصل إلى 3 ملي ثانية لكل بقاع الأرض بما في ذلك المناطق النائية التي توجد بها خدمات إنترنت بطيئة جداً، بالإضافة إلى توفير الإنترنت لأول مرة لقرابة 3.5 مليار شخص الذين لا يُتاح لهم الوصول أصلاً إلى خدمة الإنترنت لحد يومنا هذا.

وتمتلك "ستارلينك" حتى أبريل 2021 أكثر من 1350 قمراً صناعياً تم إرسالها في مجموعات عبر صاروخ "سباس إكس" الشهير "فالكون 9" بمعدل 60 قمراً صناعياً في المرة الواحدة، وتسعى لوصول هذا العدد إلى 12 ألف قمر خلال الخمس سنوات المقبلة. ومن المخطط أن تحلق تلك الأقمار في مدارات مُنخفضة جداً موزعة على 3 مجموعات؛ المجموعة الأولى بواقع 1440 قمراً على ارتفاع 550 كيلومتراً فقط، والمجموعة الثانية بواقع 2825 قمراً على بعد 1110 كيلومترات، والمجموعة الثالثة تتكون من 7500 قمر على بعد 340 كيلومتراً.

وتعتبر هذه الارتفاعات منخفضة جداً إذا ما تمت مقارنتها بالأقمار التقليدية، ولذلك فإن كل قمر سيغطي منطقة جغرافية محددة أثناء حركته، ما يعني أن الإشارات ستصل بقوة أعلى إلى الأرض، وهذا سيساعد في تقليص زمن الاستجابة، وأيضاً تقليص استهلاك الطاقة في أجهزة الاستقبال.

وخلاف الـ 12 ألف قمر التي أعلن عنها "إيلون ماسك"، رئيس شركة "سباس إكس"، حصلت الشركة على موافقة هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية لإضافة 30 ألف قمر صناعي آخر إلى أقمارها، ليصل إجمالي الأقمار المخطط أن تطلقها "سباس إكس" إلى 42 ألف قمر صناعي لبث خدمات إنترنت الفضاء.

وتقوم استراتيجية "سباس إكس" على استقبال الإنترنت مباشرة من الأفراد بالاعتماد على أجهزة استقبال أصغر حجماً وأقل كُلفة، يتم وضعها فوق أسطح المنازل من دون الحاجة إلى توجيهها إلى قمر محدد، حيث تلتقط إشارتها من مجموعة الأقمار المتفرقة التي تدور في مدارات قريبة من الأرض، بما يعني أنه يمكن وضع هذه الأطباق على أي سطح آخر متحرك كسيارة أو سفينة مثلاً، وبالتالي فإن الإشارات ستصل بقوة أعلى إلى مساحات أكثر، مقارنة بتلك التي يغطيها قمر الاتصالات التقليدية.

مشروع "وان ويب":

تسعى شركة "وان ويب" الأوروبية، ومقرها بريطانيا، لتقديم خدمات إنترنت الفضاء عبر أقمار صناعية في مدار قريب من الأرض يصل إلى 1200 كم، وذلك عبر إطلاق 648 قمراً صناعياً؛ أرسلت منها بالفعل حوالي 146 قمراً، على أن يغطي البث نصف الكرة الشمالي مثل ألاسكا وكندا وغرينلاند وروسيا، ودول شمال أوروبا مثل السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وأيسلندا.

وتقوم شركة "وان ويب" بإنتاج المئات من الأقمار الصناعية صغيرة الحجم، التي تدور في مدار قريب جداً من الأرض، ومكونة في ذلك شبكة شديدة التعقيد، متزامنة مع بعضها ومع المحطات الأرضية، لكي تستطيع إرسال حزم بيانات سريعة للغاية بصورة مستمرة ومن دون تقطع.

وهذا النموذج يختلف عن نموذج شركة "سباس إكس"، حيث يقدم خدمة الإنترنت من خلال محطات أرضية تستقبل البث من الأقمار الصناعية ثم تقوم بنشرها إلى مزودي الخدمات والأفراد، وهي في ذلك تحتاج إلى أكثر من 45 محطة أرضية مترابطة مع بعضها ومتصلة بشبكة الأقمار الصناعية، لكي يمكن تقديم خدمة إنترنت الفضاء إلى سكان الأرض.

تحديات للدول: 

على الرغم من أن بعض الشركات مثل "سباس إكس" و"وان ويب" بدأت في تقديم خدماتها التجريبية بالفعل للمستخدمين، فإن مشروعات إنترنت الفضاء تواجه عدة تحديات رئيسية؛ من أبرزها القيود التي تفرضها الدول على الشركات، حيث إنه عادة ما ترغب الدول في التحكم في عملية تدفق البيانات الخاصة بمواطنيها، ولذا تطلب الدول الحصول على خاصية الإغلاق الطارئ لشبكة إنترنت الفضاء في أي وقت.

وقد يمكن تحقيق ذلك عبر منح أو منع تصاريح المحطات الأرضية، وهذا النموذج يصلح مع شركة "وان ويب"، لكنه لا يصلح مع "سباس إكس" التي يستطيع من خلال نموذجها أن يمتلك كل فرد في حد ذاته محطة الإرسال والاستقبال، وإذا كانت الدول تستطيع وضع قيود على بيع هذه المعدات بداخلها، إلا أنه يمكن تهريبها أيضاً لصغر حجمها.

وهنا تصبح الدول عامة أمام عدة معضلات تتمثل في الآتي:


1- لا سيادة للدول على إنترنت الفضاء: إذا كانت الدول ومع كامل سيطرتها على مشغلي خدمات الإنترنت على أراضيها، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بعدم قدرتها على الحصول على معلومات مواطنيها التي يتم جمعها عبر الإنترنت، بل وتعجز في كثير من الأحيان عن إغلاق بعض المواقع التي ترى فيها تهديداً لسيادتها، حيث يلجأ الأفراد إلى استخدام خدمات الشبكات الافتراضية الخاصة VPN للتهرب من القيود التي تفرضها الدول على حركتهم عبر الإنترنت؛ فإن الأمر في ظل إنترنت الفضاء يكون أكثر صعوبة، فالشركات في هذه الحالة قد لا تحتاج أصلاً رخصة تشغيل من الدولة لبث خدماتها إلى المستخدمين داخلها.

2- مزيد من فقدان السيطرة على قطاع الاتصالات: إذا أصبح بإمكان الأفراد الحصول على الإنترنت مباشرة عبر الأقمار الصناعية، ومن دون حاجة إلى وجود محطات أرضية تتولى عملية استقبال إشارة البث الفضائي وإعادة إرسالها أرضياً؛ فإن معنى ذلك أن الدول لا تستطيع فرض سيطرتها على إنترنت الفضاء، أو حتى تنظيم عملية استقبال وإرسال البث، بل قد تفقد الدولة جزءاً كبيراً من سيطرتها على قطاع الاتصالات بصورة عامة. فهناك فجوة جديدة تُضاف إلى فجوات أخرى سابقة لا تستطيع يد الدول الوصول إليها، وأصبحت هناك بقعة كبيرة من قطاع الاتصالات خارج سيطرة الدول. وإذا استطاعت شركات التكنولوجيا خلال السنوات القليلة القادمة إنتاج هواتف ذكية تعمل على شبكة الأقمار الصناعية القريبة من الأرض، وبتكلفة تشغيل منخفضة؛ فإن ذلك يعني أن الاتصالات التقليدية أيضاً أصبح جزء كبير منها خارج سيطرة الدولة.

3- تهديد الأمن القومي للدول: مع توجه الدول نحو عمليات "الرقمنة" والتحول نحو الخدمات الذكية سواء كانت حكومية أو خاصة، وبناء المدن الذكية، ومع اعتماد الأفراد في نمط حياتهم اليومية على التقنيات الذكية من إنترنت الأشياء وتطبيقات الويب والهواتف الذكية؛ فإن عدداً كبيراً جداً من هذه الخدمات والأجهزة والتقنيات سوف يعتمد على إنترنت الفضاء، نظراً لسرعة نقل البيانات والقدرة على الانتشار حتى في المناطق التي تعجز الدولة عن مد البنية التحتية فيها. وذلك يعني أن الدولة ومواطنيها أصبحوا أكثر انكشافاً لدى هذه الشركات التي تقدم خدمات إنترنت الفضاء، وتمتلك كثيراً من البيانات والمعلومات التي تستطيع من خلالها تهديد الأمن القومي للدول.

ختاماً، يمكن القول إن الاعتماد المتزايد على شركات بث إنترنت الفضاء في تقديم الخدمات للمواطنين، مع عدم سعي الدول لتقديم حلول ومشروعات بديلة؛ يضع الدول والأفراد تحت رحمة هذه الشركات، حيث إنها تستطيع في أي وقت إغلاق الإنترنت عن الدولة وتعريض جميع خدماتها ومواردها وأمنها للخطر.