أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

منصة للحوار:

ما الذي حققه "مؤتمر بغداد" للإقليم؟

05 سبتمبر، 2021


استضافت العاصمة العراقية، يوم 28 أغسطس 2021، "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة"، بمشاركة عدد من الدول العربية والإقليمية، وبعض المنظمات الإقليمية والدولية. وأصدر المؤتمر بياناً ختامياً تناول فيه المجتمعون تحديد مواقفهم من القضايا والملفات التي جرت مناقشتها، وعلى رأسها قضية استقرار العراق وتجنيبه مخاطر وتداعيات التوتر الإقليمي، وكذلك ضرورة التنسيق بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية لمواجهة الإرهاب والتطرف، بما يتطلبه ذلك من حد للتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول وفي مقدمتها العراق. 

داخل عراقي حرج:

يعد المشهد العراقي هو المدخل الذي انطلقت منه فكرة عقد "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة"، حيث رفع المجتمعون شعار "استعادة الدولة العراقية" عبر إعادة الاستقرار والأمن وتقوية أجهزة الدولة ومؤسساتها. فمنذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة العراقية في مايو 2020، وهو يحاول تغيير المشهد العراقي سواء بمعطياته الداخلية المتراكمة منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، أو بتفاعلاته الخارجية التي افتقدت إلى التوازن خصوصاً في جواره الحيوي المباشر بفعل التدخلات الإيرانية في العراق، وأحياناً التركية في الشمال العراقي. 

ونظراً لأن قواعد النظام السياسي العراقي الجديد ومنهجية الحكم وإدارة الدولة فيه بعد الاحتلال الأمريكي تأسست على المحاصصة الطائفية، فإن التوزيع النسبي للقوة وفقاً للميزان الديموغرافي أصبح هو المعيار الحاكم في السياسات العامة وتوزيع المناصب، وهو ما انعكس بدوره على كفاءة مؤسسات الدولة. وقد أدى ذلك بدوره إلى انتشار الفساد الإداري والمالي وتفشي المحسوبية المستندة إلى الطائفية، فيما بدأ مفهوم المواطنة يبتعد عن العقل الجمعي للشعب العراقي. 

وشأن كل الدول التي تسعى إلى التعافي من التفكك والانهيار الناجم عن احتلال أو هزيمة عسكرية أو كارثة كبرى، أدركت الحكومة العراقية الحالية أن مواجهة التدخلات الخارجية والأزمات الداخلية، تستلزم دعم العلاقات مع بعض الأطراف الخارجية، حيث يفتقد العراق إلى مقومات كثيرة لبناء الدولة ذاتياً وتحقيق حد أدنى من الاكتفاء والحصانة في مواجهة ضغوط وابتزازات بعض الدول. ومن هنا، تبلور موقف عام في مؤتمر بغداد أساسه الاتفاق على عدم تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الدول المتصارعة في الإقليم. وتجسد هذا بوضوح في الكلمات التي عبّر بها قادة ورؤساء الوفود عن مواقف بلادهم. 

لكن بنظرة أكثر عمقاً، يتضح أن بعض الدول المشاركة في المؤتمر لم تكن على القدر نفسه من الحماس والحرص على "تحييد" العراق وتجنيبه لأن يكون ساحة للتنافس الإقليمي. فمن خلال تحليل مضمون الكلمات والتصريحات الرسمية، يتضح أن كلاً من إيران وتركيا اتفقتا مع بقية الدول في الخطوط العريضة المتعلقة بضرورة العمل على استقرار العراق ومساعدته على الخروج من مشكلاته الداخلية. في حين لم تحظ التدخلات الخارجية في الشأن العراقي بالوضوح نفسه والمباشرة من جانب طهران وأنقرة مقارنة بكلمات ومواقف الدول العربية وكذلك فرنسا خلال مؤتمر بغداد.

سياقات متداخلة: 

يجسد "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة"، نموذجاً لاجتماع السياق الداخلي مع الإقليمي والدولي، ويعكس أيضاً عمق الارتباط بين الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والديموغرافية في العراق خصوصاً والشرق الأوسط ككل. وانعكس ذلك بوضوح في شمولية القضايا التي تناولتها هذه القمة، وما شهدته من لقاءات ومباحثات جانبية، فضلاً عما تضمنته كلمات القادة ورؤساء الوفود المشاركة من رسائل ومواقف. ومن الدلائل المهمة التي تؤكد الترابط العضوي بين تلك السياقات، أن الصيغة المقترحة لفكرة المؤتمر كانت محددة النطاق في دول الجوار العراقي باعتبارها الدول المعنية مباشرة بأوضاع العراق وتطوراته.

ومن خلال المشاورات والاتصالات التحضيرية التي سبقت عقد مؤتمر بغداد، بدا واضحاً أن البحث عن استقرار العراق ومستقبله، ومن ثم استقرار الإقليم ككل، يتطلب بالضرورة توسيع نطاق المشاركة وضم أطراف قد لا تجاور العراق حدودياً، لكن لها تأثير في شؤونه، ومنخرطة ولو بشكل غير مباشر في قضايا وملفات يعد العراق طرفاً أصيلاً فيها. وينطبق الأمر ذاته على مشاركة دول من خارج المنطقة، وتحديداً فرنسا التي كانت بمنزلة قوة دافعة كبيرة لعقد هذا المؤتمر؛ بحكم كونها من الدول الأوروبية الأكثر اهتماماً بشؤون المنطقة وليس العراق فقط الذي زاره الرئيس إيمانويل ماكرون مرتين خلال عام واحد. 

وبالتالي فإن قمة بغداد بما تضمنته من نقاشات ومواقف علنية والبيان الختامي لها، أعطت زخماً للحراك والتنسيق الإقليمي والعالمي باتجاه ترتيب الأوراق وسد الثغرات القائمة والمتوقعة على الساحة العراقية، والحيلولة دون محاولة أي طرف استغلال انحسار الوجود الأمريكي المباشر للوجود مادياً أو بالنفوذ وأدوات التأثير، سواء في العراق أو في غيره من النقاط الحرجة القابلة للتأزيم أو المتأزمة بالفعل في الشرق الأوسط. 

تباين الأولويات:

توافقت الدول المشاركة في مؤتمر بغداد على مساندة العراق والعمل على إحلال استقرار والأمن الداخلي، غير أن التفاصيل الإجرائية اللازمة للوصول إلى ذلك الهدف العام لم تظهر بوضوح في البيان الختامي، ولا فيما تم الإعلان عنه من معلومات حول المناقشات الثنائية التي دارت بين القادة ورؤساء الوفود في المؤتمر. بالتأكيد ليس مطلوباً تضمين تلك الجوانب التنفيذية في البيان الختامي أو حتى في كلمات الوفود في الجلسات العامة المفتوحة، لكن الاقتصار في الكلمات أو المواقف المعلنة على جوانب محددة يعطي مؤشراً لتوجه هذه الدولة أو تلك وموقفها الفعلي عند التصدي لاحقاً لتلك القضايا والعناوين العمومية التي تم التوافق حولها بشكل عام. 

فبينما تبنت بعض الدول خصوصاً دولة الإمارات والسعودية اقتراباً تنموياً يقوم على تشجيع ودعم مشروعات اقتصادية وإجراءات عملية تساعد على تعافي الاقتصاد العراقي واستنهاض مقوماته الداخلية وتحسين الأوضاع المعيشية للعراقيين؛ ركزت مواقف كل من مصر والأردن وفرنسا على المنظور السياسي لاستقرار العراق واستعادة حكومته قوتها وحضورها داخلياً وخارجياً. 

وتطرقت مواقف دول أخرى إلى تحديد نقاط بعينها كأولوية لديها سواءً فيما يتعلق بدعم العراق أو مواجهة التهديدات العابرة للحدود كالإرهاب، بل وكذلك ما يتعلق بضرورة وقف التدخلات الخارجية. فعلى سبيل المثال، ربطت إيران التي مثلها وزير الخارجية، حسين أمير عبداللهيان، بين الإرهاب والتدخلات الخارجية، واعتبر الوزير أن الوجود الأجنبي في العراق أحد أهم مصادر التهديد له وللمنطقة، وربط ممارسة الإرهاب ببعض العمليات التي تمت في العراق خلال العامين الماضيين، وأشار تحديداً إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية باغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، على الأراضي العراقية في مطلع يناير 2020. وعلى التوازي، كانت تركيا واضحة في تحديد نطاق الإرهاب المقصود بما اعتبرته وجوداً لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

وهكذا يمكن للمراقب رصد ملامح للانتقائية والاجتزاء في مواقف إيران وتركيا على وجه الخصوص. فتجلّت الانتقائية في تغافل طهران عن توصيف الدعم المتنوع الذي تقدمه لميليشيات الحشد الشعبي في العراق وغيره من الفصائل العراقية المسلحة. ولم تعتبر إيران أن الضغوط السياسية والممارسات الطائفية التي تمارسها الأحزاب والقوى السياسية الموالية لها، أحد الأسباب الجوهرية في عدم الاستقرار السياسي والاحتقان الحاصل في الداخل العراقي. كما تجسد الاجتزاء بوضوح في تأييد إيران وتركيا المطلب العام الذي تبنته قمة بغداد برفض التدخلات الخارجية، كما لو كانت التدخلات الإيرانية المتنوعة والتدخلات التركية العسكرية المباشرة، ليست تدخلات خارجية. 

دلالات مهمة:

هناك عدد من الدلالات المهمة التي كشف عنها مؤتمر بغداد، ومن أبرزها ما يلي:


1- دعم التواصل بين الدول: تضمن مؤتمر بغداد عدداً من المشاهد ذات دلالات بالغة لجهة العلاقات الثنائية بين الدول المشاركة، وهو ما سينعكس بدوره على التفاعلات الإقليمية في المنطقة بشكل عام. وتمحورت تلك المشاهد حول بوادر تغيرات إيجابية في التفاعلات وربما لاحقاً العلاقات التي كانت متوترة ووصلت إلى حد القطيعة بين بعض الدول. فتمت لقاءات مباشرة بين بعض القادة ورؤساء الوفود، بعضها بشكل رسمي مثل لقاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي "رعاه الله"، والرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، كلٌ على حدة مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وكذلك اللقاء الذي تم بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ورئيس الوفد الإيراني وزير الخارجية، حسين أمير عبداللهيان. 

وثمة لقاءات أخرى تمت بصورة تبدو عفوية غير أن لها دلالتها المهمة، مثل المحادثة المباشرة التي دارت بين الرئيس المصري ووزير الخارجية الإيراني. وهكذا تحول مؤتمر بغداد إلى منصة لتدشين أو تفعيل قنوات التواصل بين بعض الدول، وهو ما يعني بدوره إمكانية تطوير هذا التواصل سواءً عبر منصات أخرى وفعاليات جماعية مشابهة، أو بالانتقال إلى قنوات ثنائية مباشرة.

2- تعزيز دبلوماسية المؤتمرات: من الدلالات المهمة أيضاً أن آلية المؤتمرات واللقاءات الجماعية، بالرغم من أنها ليست جديدة، أصبحت وسيلة للتعاطي مع الأزمات والمشكلات الداخلية خصوصاً حين يكون لأطراف خارجية دور فيها، سواء بالتسبب أو بالقدرة على المعالجة.

3- إعادة تموضع العراق: إن نجاح مصطفى الكاظمي وحكومته العراقية في عقد مؤتمر بغداد وإخراجه بهذه الصورة، سيساعد بدوره في عملية إعادة التموضع للدولة العراقية في الإقليم، والتي ربما لم تسع الحكومات العراقية السابقة إليها بالحماس والحنكة نفسيهما. وكان العراق تحت قيادة الكاظمي قد بدأ إعادة التموضع بالانفتاح إقليمياً على الدول العربية بشكل خاص. 

وعليه، فإن مؤتمر بغداد يفتح الباب أمام انتقال السياسة العراقية تجاه دول المنطقة إلى مرحلة أبعد من تحقيق التوازن بين مختلف الأطراف والانفتاح مجدداً على الحاضنة العربية، وهي مرحلة أن يلعب العراق دور العامل التجميعي والتحول من ساحة داخلية للتنافس وتنازع النفوذ بين قوى خارجية متصارعة، إلى منصة إقليمية للتفاهم والحوار.