أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

بدائل صادمة:

لماذا تُخفق الديمقراطية في تحقيق النموّ الاقتصاديّ؟

07 مايو، 2018


عرض: محمد عبدالله يونس

تكاد تُجمع الأدبيات المنشورة خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2018 على تعرُّض الديمقراطية لأزمة وجودية قد تعصف بما حققته على مدار العقدين الماضيين عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتصدع النظم المركزية وإعلان "نهاية التاريخ" بانتصار كامل للرأسمالية والليبرالية الغربية، وفقًا لكتابات فرانسيس فوكوياما وتابعيه.

فلقد هيمنت على الكتابات المنشورة خلال عام 2018 قناعةٌ مفادها أن "الديمقراطية تحتضر"، وأنها لم تعد قادرة على تحقيق الحد الأدنى من تطلعات الشعوب سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وأن عقودًا اجتماعية جديدة قد باتت قيد الصياغة، وأطروحات لنظم بديلة قد طرحت نفسها بقوة ضمن موجة ارتداد عن الديمقراطية، وصعود للأوتوقراطيات ونظم الحكم المركزية في الصين وروسيا وشرق أوروبا.

وفي هذا الإطار، يأتي كتاب "دامبيسا مويو" بعنوان "حافة الفوضى: لماذا تُخفق الديمقراطية في تحقيق النمو الاقتصادي وكيف يمكن إصلاحها؟" في خضم هذا الجدل المحتدم حول "مصير الديمقراطية"، إذ تطرح مويو رؤى راديكالية حول "إعادة هيكلة" الديمقراطية الغربية، وترجيح آراء وتفضيلات "النخب المستنيرة" في مواجهة الجماهير الأقل تأهيلًا على المستوى السياسي والمعرفي -وفقًا لرؤية مويو- من خلال نظام جديد للتصويت مُرجح بالأوزان.

احتضار الديمقراطية:

يتزامن طرح كتاب "دامبيسا مويو" مع نشر العدد الجديد لمجلة "الفورين أفيرز" عن شهري "مايو- يونيو" 2018 الذي يحمل عنوانًا رئيسيًّا تصدَّر الغلاف وهو "هل تحتضر الديمقراطية؟"، وموضوعات ضمن الملف الرئيسي تركز على "التحول الكبير: كيف ضلت الديمقراطية الأمريكية طريقها للنجاح؟"، و"عصر انعدام الأمن: هل تتمكن الديمقراطية من إنقاذ نفسها"، و"نهاية القرن الديمقراطي: أصول الأوتوقراطية العالمية".


كما شهدت الأشهرُ السابقة على طرح كتاب "مويو" نشرَ عدة مؤلفات تحمل عناوين لم يعهدها القارئ الغربي مثل: "كيف تموت الديمقراطية؟" لستيفن ليفيتسكي، و"كيف تنتهي الديمقراطية؟" لديفيد رونشيمان، و"الشعب في مواجهة الديمقراطية" لياسشا مونيك، وغيرها من المؤلفات التي تؤكد أن الديمقراطية الغربية تمر بموجة انحسار حادة.

ولقد اعتادت دامبيسا مويو منذ دخولها عالم التأليف عام 2009 أن تطرح زوايا غير متوقعة وصادمة في الكتب التي تقوم بنشرها، مستفيدة من الدروس التي تلقتها في عالم المال ومؤسسة جولدمان ساكس التي عملت بها كخبيرة اقتصادية لسنوات، والتي تحض كبار المستثمرين على المخالفة العمدية للتيار السائد، والبحث عن المسارات غير المطروقة وغير الممهدة بحثًا وراء "فرص بدون منافسة".

ومن هذا المُنطلق كان كتاب مويو الأول في عام 2009 بعنوان "المساعدات الميتة: لماذا تُهدر المساعدات وما هو الطريق الأفضل لإفريقيا؟"، وكانت أطروحة مويو صادمة وغير متوقعة في ذلك الحين بدعوتها إلى إنهاء برامج المساعدات الدولية للدول الإفريقية على الرغم من أصولها الإفريقية، وأثار ذلك تحفظ مؤسس شركة مايكروسوفت "بيل جيتس" الذي يخصص جزءًا كبيرًا من ثروته للأعمال الخيرية والمساعدات الإنسانية، إذ وصف كتاب مويو بأنه يروج "لأفكار شريرة". 

أما كتابها الأخير فيتمحور حول مقولة واحدة، وهي أن "الديمقراطية عادةً ما تعوق تحقيق النمو الاقتصادي". وتعاود مويو نهجها في مخالفة السائد في تأكيد أهمية "النمو الاقتصادي" في تحقيق التنمية بالمخالفة للأطروحات السائدة مؤخرًا حول ضرورة البحث عن مقاييس جديدة للتنمية تركز على الأبعاد الاجتماعية ومحاربة الفقر وعدم المساواة بعيدًا عن المقاييس الكلية للنمو الاقتصادي مثل "الناتج المحلي الإجمالي"، إذ تؤكد الكاتبة أن "النمو الاقتصادي لا يزال مهمًّا لعامة المواطنين قبل الحكومات، لأنه المحك الأساسي للحراك الاجتماعي والفرص الاقتصادية والارتقاء بمستويات المعيشة".

معضلة "المدى البعيد":

ترى دامبيسا مويو أن تآكل ثقة المواطنين في نظم الحكم الديمقراطية بالدول الغربية يرجع إلى عجز هذه النظم عن تلبية تطلعاتهم الاجتماعية ومواجهة التحديات الاقتصادية "طويلة الأمد". "إنه الاقتصاد" على حد تعبير مويو التي تربط بين صعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة وموجات العداء لليبرالية الغربية وتردي أداء الاقتصاديات في الولايات المتحدة والدول الغربية لعقود ممتدة وفقًا لمقاييس النمو الاقتصادي وتزايد معدلات التضخم والبطالة.


وتفسر "مويو" عرقلة الديمقراطية للنمو الاقتصادي وفقًا لرؤيتها بعدة أسباب تتمثل فيما يلي:

1- سياسات "الأمد القصير": يُركز السياسيون في النظم الديمقراطية على إعادة الانتخاب، وهو ما يُعزز من اتجاهات "الأمد القصير" (Short-Termism) في صياغة السياسات العامة، ويتجنب المسئولون في السلطة التشريعية والتنفيذية تبني سياسات تتطلب فترة أطول من مدة ولايتهم لإنجازها، مثل المشروعات الضخمة لإعادة هيكلة البنية التحتية أو إصلاح نظم التعليم، ويكون أمد تطبيق السياسات قصيرًا للغاية، بحيث يؤتي ثمارًا ملموسة سريعًا مهما كانت التداعيات مدمرة على الاقتصاد، وبالمقارنة مع ذلك فإن النظم السلطوية والمركزية لديها مساحة أكبر للحركة ويمكنها تبني إصلاحات اقتصادية ممتدة.

2- دورات الانتخاب القصيرة: يُعزز من اتجاهات "الأمد القصير" أن دورات الانتخاب في الدول الغربية قصيرة للغاية (Short Electoral Cycles) وفقًا للكاتبة، ففترة ولاية الرئيس الأمريكي لا تتجاوز أربع سنوات، في حين يؤدي نظام التجديد النصفي في الكونجرس الأمريكي لتقليص مدة ولاية أعضاء السلطة التشريعية بصورة أكبر وهو ما يزيد من حدة ظاهرة "قصر النظر السياسي" (Political Myopia)، واستبعاد السياسات طويلة الأمد من دوائر اهتمام السياسيين المُنتخبين.

3- استرضاء جمهور الناخبين: لا يشغل اهتمام المسئولين المنتَخَبين في الدول الديمقراطية -وفقًا للكتاب- إلا استرضاء الناخبين وضمان تأييدهم، وهو ما يدفعهم لتبني سياسات ذات تأثيرات اقتصادية مُدمرة في بعض الأحيان، مثل: زيادة المخصصات المالية للرواتب والمعاشات للقطاع الحكومي دون وجود موارد مالية كافية لتغطية هذه الزيادة، أو تجنب الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، واستبعاد أية مقترحات لزيادة الضرائب خوفًا من احتجاجات المواطنين، وهو ما تعتبره مويو تحديًا جوهريًّا للنظم الديمقراطية.

4- ضغوط جماعات المصالح: تؤدي جماعات المصالح دورًا مركزيًّا في النظم الديمقراطية بسبب قيامها بتمويل الحملات الانتخابية، وهو ما يؤدي لانحراف السياسات العامة عن تحقيق الصالح العام، والاقتصار على الوفاء بمديونية ممولي الحملات الانتخابية عبر اتباع سياسات تحقق مصالحهم الضيقة، إذ وصل حجم تمويل الحملات الانتخابية خلال انتخابات التجديد النصفي للكونجرس بالولايات المتحدة في عام 2016 إلى حوالي 3.15 مليارات دولار وهو ضعف ما تم إنفاقه في عام 2000، أما الانتخابات الرئاسية الأمريكية فقد وصل إجمالي حجم إنفاق المرشحين ومؤيديهم على الحملات الانتخابية إلى حوالي 6.8 مليارات دولار في سابقة لم يشهدها التاريخ الأمريكي من قبل.

تفكيك "الديمقراطية":

أثارت "خارطة الطريق" التي اقترحتها المؤلفة في هذا الكتاب صدمة واسعة النطاق في أوساط النخب السياسية في الولايات المتحدة، واعتبرها البعض بمثابة "استفزاز سياسي" مُتعمد (Policy Provocation) لتحفيز الأفكار غير التقليدية لمواجهة فترة الانحسار التي تمر بها الديمقراطية، بينما وصفها آخرون برؤية لهدم الديمقراطية وأنها "إعادة إنتاج عكسي للحظة التاريخية التي سقط فيها حائط برلين معلنًا انحسار النظم المركزية والسلطوية".

وتمثلت أهم دعائم "مشروع مويو" لإصلاح الديمقراطية فيما يأتي:

1- ترجيح أصوات الناخبين بالأوزان: تقترح المؤلفة وضع نظام لترجيح الأصوات بالأوزان (Weighted Voting System) عبر تقسيم الناخبين إلى ثلاث فئات لكلٍّ منهم وزن مختلف في العملية التصويتية: ناخبون غير مؤهلين للتصويت، وناخبون مؤهلون قياسيون، وناخبون ذوو تأهيل مرتفع. ويستند هذا التمييز إلى مدى معرفة المواطنين بالنظام السياسي والعملية السياسية وقدرتهم على التمييز بين المرشحين ومؤهلاتهم العلمية والوظيفية.


وتقترح مويو أن يتم إخضاع الناخبين لاختبارات في أسس الموطنة (Civics Test) والمعرفة بالنظام السياسي لتحديد مدى تأهيلهم لممارسة حق التصويت وموقعهم ضمن "هيراركية الأصوات" التي تطرحها.

2- وضع معايير للمرشحين: تطالب مويو بوضع حد أدنى من المعايير التي ينبغي توافرها في المرشحين للمناصب التشريعية والتنفيذية، واستبعاد غير المؤهلين منهم للعمل العام، وتضع مويو معيارين رئيسيين في انتقاء المرشحين هما الخبرة في المعرفة السياسية والخبرة الواقعية (Real World Experience) التي ترتبط بالتاريخ الوظيفي والمهني للمرشحين، وشغلهم مناصب قيادية في القطاعين العام والخاص قبل ترشحهم للمناصب القيادية.

3- منع تعديل التشريعات: ترى الكاتبة أن المسئولين في السلطة التشريعية والتنفيذية ينبغي ألا يمتلكوا السلطة المطلقة في تعديل التشريعات التي وضعها سابقوهم والتي تتسبب في "إرباك" عملية تنفيذ السياسات العامة وتنفيذ المشروعات، وتمتد هذه القيود لمنع المؤسسات من عرقلة تنفيذ قرارات تم إقرارها وتصديقها من نظرائهم، بمعنى سحب حق المؤسسة الرئاسية في تجميد قرارات الكونجرس في مجالات اختصاصهم التشريعية في مقابل منح الرئيس الصلاحيات المطلقة في إدارة السلطة التنفيذية.

وتهدف مويو من هذا المقترح إلى الحدِّ من الضبابية والغموض الذي يكتنف تنفيذ السياسات، وتحجيم تأثيرات تداول السلطة، وتعزيز اعتمادية العلاقات التعاقدية بين الحكومات والقطاع الخاص، بالإضافة إلى فرض إلزامية التعهدات الحكومية بغض النظر عن تغير القوى السياسية التي تشغل المؤسسات التشريعية والتنفيذية.

4- تقييد التمويل السياسي: يؤدي التمويل السياسي إلى ترجيح مصالح النخب الاقتصادية الأكثر ثراء على حساب الصالح العام، وهو ما يزيد من أهمية فرض قيود على تمويل الحملات الانتخابية من جانب القطاع الخاص، وتفكيك لجان التمويل الضخمة التي تهيمن على حملات المرشحين في الانتخابات، بالإضافة إلى فرض قيود على الإنفاق على الحملات الانتخابية لإنهاء علاقات "الاستدانة والاسترضاء" التي تربط السياسيين بممولي الحملات.

5- إصلاح نظم رواتب السياسيين: ترى مويو أن الفجوة الضخمة بين ما يتقاضاه المسئولون المُنتخبين وقادة الشركات الكبرى في القطاع الخاص تؤثر على أداء السياسيين، وتدفعهم للتركيز على تأمين دخول مستدامة في فترات التقاعد بعد نهاية عملهم السياسي، ويزيد ذلك من حرصهم على تكوين علاقات وطيدة مع القطاع الخاص خلال فترة توليهم مناصبهم بحثًا عن فرص عمل مستقبلية في إطار اتجاهات "الباب الدوار" (Revolving Door)، وقد يدفعهم ذلك لارتكاب ممارسات فساد.

وتدعو الكاتبة إلى تبني نموذج القطاع الخاص في تحديد رواتب المسئولين المنتَخَبين، ووضع نظم مالية للإثابة والتحفيز على التميز في أداء العمل، وهو النظام المتبع في سنغافورة، حيث يتقاضى المسئولون رواتب تُضاهي القطاع الخاص، بالإضافة إلى حوافز مالية على التميز الإداري وتحسين الأداء الاقتصادي.

6- إطالة أمد "الولاية الانتخابية": دعت دامبيسا مويو إلى زيادة مدة تولي السياسيين المنتخبين لمناصبهم كي يتمكنوا من تبني برامج وسياسات ومشروعات طويلة الأمد، ووفقًا لبحوث المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة فإن متوسط "الدورات الاقتصادية" التي تمتد بين مراحل الانحسار والتعافي الاقتصادي خلال الفترة بين عامي 1945 و2009 تمتد إلى حوالي 6 سنوات، وهي الفترة التي تقترحها المؤلفة لتكون مدة ولاية السياسيين المنتخبين.

7- فرض "التصويت الإجباري": ترى مويو أن عزوف الناخبين عن التصويت في الانتخابات خلال الأعوام الماضية يُعد تهديدًا لبقاء الديمقراطية، كونه يزيد فرص مرشحين غير مؤهلين للوصول للسلطة، ويعزز من تأثير الكتل التصويتية الكبرى التي تضغط على المرشحين لتحقيق مصالحهم. وتقترح الكاتبة فرض عقوبات على العزوف عن التصويت تبدأ بالغرامات المالية وتصل إلى تجميد الحق في التصويت لفترة عقابية.

واستندت المؤلفة لتجربة بلجيكا التي تحرم المواطنين من التصويت لمدة عشر سنوات في حالة عدم قيامهم بالتصويت في 4 دورات انتخابية متتالية خلال 15 عامًا، وفي سنغافورة يتم حذف الناخبين من قوائم الاقتراع في حال عدم تصويتهم، وينبغي عليهم إعادة تسجيل أسمائهم في القوائم الانتخابية، وتفسير أسباب إحجامهم عن التصويت في الانتخابات الماضية.

ختامًا، على الرغم من التحفظات والانتقادات واسعة النطاق من قبل النقاد والمتابعين لكتاب دامبيسا مويو ومشروعها الراديكالي لإصلاح الديمقراطية، إلا أن أيًّا منهم لم يُنكر صحة التشخيص الذي أوردته في الفصول الأولى من الكتاب حول مكامن الخلل في النظم الديمقراطية، والتكلفة الاقتصادية لسياسات "الأمد القصير" التي تُعرقل المشروعات الكبرى والإصلاحات الممتدة، فضلًا عن الإقرار بتراجع قدرة الديمقراطية على تمثيل المصالح في ظل هيمنة "المال السياسي" على عملية صنع القرار وعلاقات "الزبائنية السياسية" والمنافع المتبادلة بين السياسيين والنخب الاقتصادية.

المصدر: 

Dambisa Moyo, "Edge of Chaos: Why Democracy is Failing to Deliver Economic Growth- and How to Fix it?", Basic Books, April 24, 2018