على الرغم من الوقت الطويل الذي استغرقه إعداد الصيغة النهائية لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين كل من روسيا وإيران، والتي أُعلن عن توقيع المسودة الخاصة بها في مطلع عام 2021، فقد أكّد الطرفان مؤخراً أن هذه الاتفاقية سيتم توقيعها في 17 يناير 2025 خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للعاصمة موسكو. ويبدو أن ثمة رسائل تسعى روسيا وإيران إلى إيصالها من خلال توقيت توقيع هذه الاتفاقية، وتحديداً في ظل تنصيب الرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب في 20 يناير الجاري، فضلاً عن التطورات الإقليمية التي تشهدها المنطقة، والتي تُعد إيران رقماً صعباً فيها.
أسباب التأخير:
يرجع تاريخ التعاون الاستراتيجي بين روسيا وإيران إلى عام 2001، حين تم توقيع اتفاق استراتيجي وضع مبادئ التعاون بين البلدين، وكانت مدته 10 سنوات، على أن يتم تجديده تلقائياً كل 5 سنوات، طالما لم يرغب أحد الطرفين في إنهائه. وفي ظل المستجدات الدولية والإقليمية التي التقت فيها مصالح موسكو وطهران بشكل فاق تضارب مصالحهما، سعى الجانبان لتوسيع مجالات التعاون من خلال اتفاق جديد؛ يهدف إلى تطوير التعاون في مجالات الدفاع والتجارة والطاقة والنقل والصناعة والزراعة والثقافة والتعليم والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء.
وقد تأجل توقيع هذه الاتفاقية منذ أن تم التوافق بشأنها؛ بفعل وجود عدد من المعوقات التي تشير إلى أن كلاً من موسكو وطهران ربما ما زال غير واثق من مكاسب الاتفاقية. ويتمثل أبرز هذه المعوقات فيما يلي:
1- التشكيك في الحليف الروسي: يتشكك قطاع من صُناع القرار داخل إيران في مدى إمكانية الاعتماد على روسيا كحليف استراتيجي طويل الأمد؛ حيث أوضحت العديد من التطورات صعوبة التعويل على نهج إدارتها لمصالحها، ولاسيما في الملف السوري، وبصفة خاصة بعد رحيل نظام بشار الأسد. ويأتي ذلك على الرغم من اعتماد القيادة السياسية في طهران استراتيجية "الاتجاه شرقاً"، التي تنطوي على رغبة في تعزيز العلاقات مع موسكو للوصول إلى مستوى تعاون استراتيجي على المستويات كافة، ولاسيما في مجال الاقتصاد، الذي تم خلاله دمج إيران مع النظام الروسي البديل لنظام "سويفت" للتبادل النقدي، كخطوة لتجنب العقوبات الأمريكية على كليهما. إضافة إلى منح إيران صفة دولة مراقب في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في ديسمبر الماضي، ودخول اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران حيز التنفيذ.
2- وفاة إبراهيم رئيسي: صرح السفير الإيراني لدى موسكو، كاظم جلالي، في نوفمبر الماضي، بأنه تم تأجيل التوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران؛ بسبب الوفاة المفاجئة للرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في مايو الماضي، مشيراً إلى أن "الاتفاق كان جاهزاً بالفعل، لكن للأسف تم تأجيل توقيعه بسبب وفاة رئيسي". ويرى الجانب الروسي أن تأخر إجراءات إعداد الاتفاقية يعود في جانب منه إلى توجهات الرئيس الإيراني الجديد بزشكيان ورغبته في الانفتاح على الغرب؛ الأمر الذي ربما شكل عائقاً خلال الأشهر الماضية في سبيل التوقيع على الاتفاقية الاستراتيجية.
3- عدم استفادة إيران من اتفاقية مماثلة مع الصين: وقّعت الصين وإيران، في 27 مارس 2021، اتفاقية شاملة للتعاون الاستراتيجي، تمتد لـمدة 25 عاماً. ويرى كثيرون أن طهران لم تحقق الاستفادة المرجوة من هذه الاتفاقية حتى الآن، فعلى الرغم من أن توقيعها قد مثّل منطلقاً للارتقاء بالعلاقات مع الصين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة في العديد من المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والعلمية؛ فإن انعكاس هذه الشراكة على أرض الواقع لم يحدث بعد، حتى إن اللجنة الاقتصادية المشتركة بين بكين وطهران لم تنعقد حتى الآن. وفي هذا الصدد، أوضح عبدالناصر همتي، وزير الاقتصاد والمالية الإيراني، خلال لقائه وزير المالية الصيني، فو آن، على هامش الاجتماع السنوي التاسع للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية في أوزبكستان، في سبتمبر الماضي، "أن اللجنة ستباشر عملها في المستقبل القريب، وأن كلاً من إيران والصين قد وضعتا تنفيذ وثيقة التعاون المشترك على جدول أعمالهما بهدف الوصول إلى إنجازات عملية".
رسائل متنوعة:
من المُرجح أن التطورات الإقليمية والدولية الراهنة قد دفعت روسيا وإيران إلى التعجيل بتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، ولاسيما مع اقتراب تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، والذي شهدت فترة رئاسته الأولى صداماً واسعاً مع إيران. يُضاف إلى ذلك، ما تواجهه طهران إقليمياً من إخفاقات لأذرعها في المنطقة، وخسارتها نفوذها في سوريا، كما هو الوضع مع موسكو بعد الإطاحة بنظام الأسد.
وثمة دلالة مهمة تتعلق بتوقيت توقيع الاتفاقية بين روسيا وإيران قبل أيام من تنصيب ترامب؛ بسبب توجهات الأخير المتشددة تجاه طهران، وسعيه للحد من النفوذ الروسي؛ إذ يُعد توقيع هذه الاتفاقية تحدياً للغرب والولايات المتحدة، في ظل سعيهما لعرقلة التحالف بين روسيا وإيران بتغليظ العقوبات الاقتصادية على كليهما، وذلك على خلفية التُّهم الموجهة لطهران بمساعدة موسكو في حربها على أوكرانيا من خلال إرسال طائرات مُسيَّرة مقاتلة استخدمتها روسيا في استهداف منشآت حيوية داخل أوكرانيا.
وفي المُجمل، ينطوي توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران في هذا التوقيت تحديداً، على عدة رسائل، من بينها الآتي:
1- إمكانية عقد شراكات بين القوى المناوئة للغرب: في وقت يتزايد فيه التوتر بين روسيا وإيران من ناحية، والولايات المتحدة والغرب من ناحية أخرى؛ تُمثل هذه الاتفاقية رسالة واضحة من موسكو وطهران بأنهما يتعاونان بشكل أكثر قوة وتنسيقاً في مواجهة الضغوط الغربية على كليهما. وقد سمح تقارب المصالح بين روسيا وإيران، ووحدة نهجهما المُعارض للأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية، بالدفع ناحية تعزيز شراكتهما كوسيلة لمواجهة الضغوط الغربية عليهما، خاصةً في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلدين، والتي يتم تغليظها بين الحين والآخر، وذلك على الرغم من وجود العديد من الملفات الخلافية، بل والتنافس بينهما ولاسيما في مجال النفط.
وقد تُمهد الاتفاقية الاستراتيجية الطريق أمام تعاون كل من روسيا وإيران لتعزيز قدراتهما على تجاوز آثار العقوبات، من خلال استحداث منصات جديدة لتبادل الموارد والخبرات، ولاسيما في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والتمويل عبر طرق بديلة بالاستفادة من خبرة إيران في هذا المجال لسنوات عديدة في التعامل مع العقوبات الغربية والأمريكية المفروضة على أهم قطاعاتها الاقتصادية.
2- إعادة الزخم للتحالفات بعيداً عن النفوذ الغربي: مع التسليم بأن كلاً من روسيا وإيران قد خسرتا أهم ساحات النفوذ الإقليمي المتمثلة في سوريا، فإن كلاً منهما على الأرجح سيوجه جهوده للحفاظ على ما تبقى من نفوذ في عدد من الملفات، ولاسيما في منطقة آسيا الوسطى، التي تُعد مجالاً خصباً للتعاون الروسي الإيراني في القطاعات الاقتصادية واللوجستية في ظل العلاقات الجيدة مع أغلب دول هذه المنطقة. كما تتيح اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران الفرصة لتعزيز محور "روسيا- الصين- إيران"، الذي يضم العديد من المشروعات الكبرى التي ستشمل عدداً آخر من الدول، مثل "مشروع ممر النقل الدولي الشمال- الجنوب"، و"مبادرة الحزام والطريق" التي تضم 65 دولة.
3- تأكيد استمرار النفوذ الروسي والإيراني في الإقليم: تشير اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، ضمنياً بما تحتويه من بنود تعاون على المستويات الأمنية والعسكرية، إلى تصميم موسكو وطهران على الحفاظ على تأثيرهما في منطقة الشرق الأوسط، في سياق إدارة الصراعات أو دعم الحلفاء، وقد دعت التطورات الإقليمية الأخيرة كلاً منهما للتركيز على هذا الهدف. كما تُمثل الاتفاقية رسالة لدول المنطقة بأن ثمة محوراً يمكن أن يعيد رسم التوازنات الإقليمية.
تأثيرات مُحتملة:
من المُتوقع أن يؤدي توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران إلى العديد من التداعيات على المستويين الإقليمي والدولي، لعل أهمها ما يلي:
1- مزيد من الاستعداء للغرب: لاسيما مع تولي ترامب مهام الرئاسة الأمريكية في 20 يناير الجاري، على خلفية سياساته المتشددة تجاه روسيا وإيران. وفي هذا السياق، يمكن أن تواجه طهران ضغوطاً متزايدة في ملفها النووي وبرنامجها الخاص بالصواريخ البالستية. كما أنه من المُرجح أن تزيد احتمالات فرض مزيد من العقوبات الغربية على موسكو وطهران، كسبيل لعرقلة جهود تحالفهما الاقتصادي والعسكري، خصوصاً أن كلا المجالين الاقتصادي والعسكري خاضعين بالفعل للعقوبات الأمريكية والغربية. كذلك، فإن البعض يخشى من تزايد احتمالات التصعيد العسكري، في ظل دعم روسي منتظر للقدرات العسكرية الإيرانية، في مقابل عدم سماح واشنطن لطهران بتفوق عسكري قد يخل بميزان القوى في المنطقة وقد يساعدها على ترميم نفوذها الإقليمي.
2- التأثير في سوق النفط: على الرغم من التنافس الروسي الإيراني في إنتاج وتصدير النفط في ظل محدودية الأسواق المفتوحة أمام طهران لتصدير نفطها، واعتمادها في هذا السياق على كل من الصين والهند كمستوردين رئيسيين لنفطها الخاضع لعقوبات أمريكية مشددة؛ فإن الاتفاقية الاستراتيجية تُتيح التعاون في سبيل تطوير إمكانات إيران الإنتاجية والتكريرية، من خلال تطوير المصافي باستثمارات روسية. ونظراً لأن روسيا وإيران تُعدان من أكبر منتجي النفط في العالم، فعلى الأرجح سيؤثر هذا التعاون والتنسيق بينهما في أسعار النفط عالمياً. وتجدر الإشارة إلى أن أهم صفقة تعاون تم توقيعها في مجال النفط بين روسيا وإيران كانت خلال زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى طهران في يوليو 2022؛ حيث وقّعت حينها شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة "غازبروم الروسية" اتفاقاً بقيمة 40 مليار دولار لتحديث قطاعي النفط والغاز الإيرانيين.
3- تعزيز القدرات الاقتصادية لروسيا وإيران: باعتبارهما الدولتين الأكثر خضوعاً للعقوبات الغربية والأمريكية، يأتي التعاون الاقتصادي بين روسيا وإيران في المقام الأول كمحاولة لإضعاف تأثير هذه العقوبات. وفي هذا الإطار، تستطيع الدولتان الاتفاق على سُبل اقتصادية بديلة تُمكنهما من الإفلات من طائلة العقوبات الأمريكية على النظام المصرفي العالمي، عبر وسطاء أو بنوك أو شركات من الباطن. وتُعد إيران بالنسبة لروسيا سوقاً اقتصادية واعدة، سواء لتسويق منتجاتها أم لاحتضان استثماراتها. فيما تُمثل روسيا لإيران مصدراً لتمويل العديد من المشروعات الجديدة التي تحتاجها البلاد في مجالات التنمية، خصوصاً أن عدداً من مشروعات النقل البري وتطوير السكك الحديدية في شمالي إيران قد مولتها موسكو بالفعل مثل "مشروع ممر النقل الدولي شمال – جنوب"؛ حيث تم البدء في إنشاء خط للسكك الحديدية من إيران إلى روسيا "رشت-أستارا"، مروراً بأذربيجان. ويمكن أن يسهم الدعم الروسي في تخفيف الضغط الداخلي الذي يواجهه النظام الإيراني بسبب الأزمات الاقتصادية في البلاد.
ختاماً، يمكن القول إن الأهداف المشتركة التي بنت على أساسها روسيا وإيران اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة، تشير إلى إمكانية استمرار تعاون البلدين، ولاسيما في ظل ترجيح سيناريو استمرار وقوعهما تحت طائلة العقوبات الأمريكية والغربية. بيد أن هذا لا ينفي الدور الذي ستؤديه المتغيرات والتطورات الجيوسياسية في المنطقة، في رسم وتحديد مدى قوة هذا التعاون ورسوخه، وجدية طرفيه في تنفيذ بنود الاتفاقية؛ ومن ثم ترقية العلاقات الروسية الإيرانية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية كما تهدف الاتفاقية.