أعلنت جزر سليمان، الواقعة إلى الشمال من أستراليا، في أواخر مارس 2022، أنها وقعت بالأحرف الأولى على مسودة معاهدة أمنية مع بكين، وهو ما أثار مخاوف أستراليا ونيوزيلاندا، نظراً لأن الجزيرة كانت حليفاً رئيسياً لهما، كما أن الدولتين تخشيان من أن تمهد هذه الاتفاقية الطريق أمام أول وجود عسكري صيني في جنوب الهادئ، في حين اعتبرت الولايات المتحدة ذلك خطوة تصعيدية من بكين لنشرها قوات في مناطق النفوذ الأسترالي والأمريكي في جنوب الهادئ.
مسودة الاتفاق الجدلية:
دافع رئيس وزراء جزر سليمان، ماناسيه سوجافارا، عن الاتفاق مع الصين، مؤكداً أن بلاده تمارس حقوقها الطبيعية من خلال بناء شراكات تقوم على تحقيق المصالح القومية للجزر، وتتمثل أبرز بنود هذه الاتفاقية في التالي:
1- تسهيلات لوجستية: تتضمن المسودة بنداً يقر بأحقية الصين في المرور والبقاء في موانئ جزر سليمان، فضلاً عن إمكانية استخدام المنافذ والخدمات اللوجستية للجزيرة بعد موافقتها، مع توفير جزر سليمان كل التسهيلات اللازمة لذلك.
وتخشى الدول الغربية أن يكون هذا بداية لتأسيس قواعد عسكرية صينية في المنطقة، وهو ما نفاه سوجافارا، في 1 أبريل، إذ أكد أن حكومته لن تسمح ببناء قاعدة عسكرية صينية على أراضي بلاده "طالما هي في السلطة".
2- الدعم الشرطي والأمني: تسمح الاتفاقية أيضاً للشرطة الصينية المسلحة بالانتشار بناء على طلب من جزر سليمان لإرساء "النظام الاجتماعي"، في إشارة إلى التدخل لدعم الجزيرة في مواجهة أي احتجاجات أو اضطرابات داخلية. كما سيُسمح لقوات صينية بحماية "سلامة الأفراد الصينيين" و"مشاريع كبرى في جزر سليمان"، وهو ما يؤشر على تواجد عسكري صيني أكبر، قد يتخذ شكل قواعد عسكرية.
وأدانت الولايات المتحدة هذا البند، فقد أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن القوات الأمنية لجمهورية الصين الشعبية يجب ألا تُصدر، في إشارة إلى تبنيها أساليب قمعية. وفي حقيقة الأمر، فإن أستراليا قامت بأدوار مماثلة في الماضي القريب، ففي 26 نوفمبر 2021، أرسلت كانبرا بموجب اتفاقية أمنية بين أستراليا وجزر سليمان قوات شرطية وعسكرية أسترالية لمواجهة الاحتجاجات، بناء على طلب من سوجافارا، وذلك بعد عجز القوات الأمنية عن التعامل مع الاحتجاجات التي وظفت للعنف، وسعت للاستيلاء على مقر إقامة الأخير.
وتتخوف القوى المعارضة في هونيارا من إمكانية استخدام سوجافارا القوات الشرطية الصينية لقمعها، كما تتهمه المعارضة بوضع خطة لتعطيل الانتخابات القادمة بمساعدة الصين لمنعهم من الإطاحة به من السلطة، تحت ذريعة "حماية النظام الاجتماعي في جزر سليمان".
3- تعاون أمني غامض: يتضمن الاتفاق بنداً يحتم السرية بخصوص بعض المهام التي قد توكل للقوات الصينية، والتي تتعدى القوات الشرطية وتصل إلى إرسال قوات خاصة عالية التدريب، إذ إنه من دون الموافقة الخطية للطرفين، أي بكين وهونيارا، لا يمكن لأي منهما الكشف عن المهمات.
تداعيات استراتيجية محتملة:
يكشف توقيع بكين مسودة اتفاق أمني مع جزر سليمان عن تحوّل المشهد الاستراتيجي في المحيط الهادئ، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- رد بكين على اتفاق أوكوس: تتمتع الجزر المكونة لجزيرة سليمان بموقع استراتيجي في المحيط الهادئ، خاصة في ضوء تصاعد التنافس الدولي بين الصين والولايات المتحدة، إذ يمر جزء كبير من تجارة أستراليا من الساحل الشرقي الأكثر اكتظاظاً بالسكان عبر الجزر الميلانيزية، أحد ثلاث جزر رئيسية تتكون منها جزيرة سليمان، كما أن جزيرة سليمان تقع أيضاً على الطريق البحري الرئيسي الذي يربط بين أستراليا وكبار شركائها الاستراتيجيين، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان. وكانت أستراليا تنظر إلى جزر سليمان، باعتبارها جزءاً من الدرع الأمنية لأستراليا.
ويعني توقيع الاتفاق بشكل نهائي أن الصين سوف تتجه إلى الرد بشكل عملي على تحالف الأوكوس الدفاعي، والذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، والذي يهدف إلى مراقبة التحركات الصينية في غرب المحيط الهادئ والهندي، عبر إمداد أستراليا بغواصات نووية، فضلاً عن تطوير صواريخ فرط صوتية في مواجهة تلك التي طورتها الصين بالفعل.
وتعتبر كانبرا وجود قوات صينية على بُعد 2000 كيلومتراً تهديداً لها، كما وضح في تصريحات رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، وكذلك وزيرة الشؤون الداخلية، كارين أندروز، والتي اعتبرت الاتفاقية تهديداً استراتيجياً في الفناء الخلفي لأستراليا. وتتخوف الدولتان من لجوء الصين لوقف الممرات البحرية بحجة تأمين جزر سليمان في أوقات الأزمات الداخلية، كما أنه يمنح بكين القدرة على مراقبة ورصد التحركات الأسترالية في هذه المنطقة، وبالتالي الرد على تعاون أستراليا مع الولايات المتحدة في مراقبة تحركات بكين في جنوب المحيط الهادئ وشرق الحيط الهندي عبر الغواصات النووية.
كما من المقرر أن تتجه الصين لدمج خطة جزيرة كيريباتي لبناء ميناءين رئيسيين للشحن العابر ضمن مبادرة الحزام والطريق، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من احتمال وجود قواعد عسكرية صينية بها هي الأخرى، وذلك وفقاً لتقرير حكومي أسترالي. وما يدعم ذلك أن نواباً من جمهورية كيريباتي زعموا في 2021 أن الصين وضعت خططاً لتحديث مهبط طائرات وجسر في إحدى جزرها النائية، والتي تقع على بعد نحو 3000 كيلومتر جنوب غرب ولاية هاواي الأمريكية.
2- تقليص حرية الحركة الغربية: يعد الوجود الصيني العسكري في منطقة المحيط الهادئ عبر القواعد العسكرية تهديداً مباشراً لحرية حركة البحرية الأمريكية في المنطقة، إذ إن الوجود الصيني في جزر سليمان يعني زيادة انكشاف تحركات القوات الأمريكية في مواقع استراتيجية محورية لواشنطن وحلفائها في المنطقة.
فقد أكد أحد كبار الضباط في القوات المسلحة الأسترالية أن إقامة قاعدة عسكرية صينية أو رسو سفن حربية تابعة لبكين في الجزر سيؤثر على التحركات العسكرية الأسترالية في محيطها الجيوستراتيجي، إذ سيحد من قدرات البحرية التدريبية والمناورات في المنطقة.
وكانت جزر جنوب المحيط الهادئ ذات أهمية تاريخية بالغة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها؛ فقد كانت الجزر نقطة محورية في تحول موازين القوى لكفة الولايات المتحدة في حربها في الهادئ مع اليابان إبان الحرب العالمية الثانية.
3- تراجع الأحادية الأمريكية: إن اتمام جزر سليمان الاتفاق الأمني مع الصين سوف يكون مؤشراً على تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً، كما أن هذا الوضع سوف يفتح المجال أمام تعزيز الوزن الاستراتيجي للجزر الواقعة في المحيط الهادئ، إذ أن الولايات المتحدة سوف تتنافس مع بكين على ولاء هذه الجزر، وهو ما يؤكد تحوّل النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب، وتراجع الأحادية القطبية الأمريكية.
4- تحجيم علاقات تايوان الدولية: قطعت جزر سليمان علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان، والتي امتدت على مدار 36 عاماً، ومن ثم قامت تابييه بغلق سفارتها في هونيارا، عاصمة جزر سليمان، بعد إقامتها لعلاقات دبلوماسية مع بكين في 2019. ويعد ذلك ترجمة لسياسة الصين الواحدة، والتي تشترط قطع الدول المختلفة لعلاقاتها مع تايوان، في مقابل الانتفاع بتحقيق مزايا تجارية واستثمارية مع بكين.
ويعد هذا التحول كبيراً، إذ اعتبرت الدول الجزرية في المحيط الهادئ حلفاء تقليديين لتايبيه على مدار عقود. ويبدو أن بكين تتجه لفرض عزلة دبلوماسية على تايوان، وهو ما تحقق من خلال قيام ليس فقط جزر سليمان، ولكن كذلك كيريباتي، والتي قامت هي الأخرى بقطع علاقاتها بتايوان لصالح إقامة علاقات مع بكين. وسوف تعمل الصين على تحويل بوصلة كل من ناورو، وجزر المارشيل، وباولو، وتوفولو لصالحها باستخدام الأسلوب نفسه، وهي العلاقات والمساعدات الاقتصادية.
فقد وعدت الصين بمنح جزر سليمان مساعدات اقتصادية بحوالي 500 مليون دولار، بينما قدمت تايوان إلى جزر سليمان حوالي 100 مليون دولار فقط بين عامي 2011 و2017.
5- انتكاسة محتملة لنفوذ كانبرا: بدأ النفوذ الأسترالي في جزر سليمان في الانحسار، خصوصاً بعد انتخاب رئيس الوزراء الحالي، ماناسيه سوغافارا، الذي بدأ منذ توليه المنصب في 2019 بتبني سياسات تقارب مع بكين سعياً وراء المشاريع الصينية الموعودة والاستثمارات في البنية التحتية. وفي حالة إتمام الاتفاق الأمني الصيني، فإن نفوذ كانبرا سوف يتراجع، كما أن الجزر الأخرى في جنوب الهادئ قد تتجه هي الأخرى لبحث تعزيز علاقاتها مع بكين.
خيارات الغرب المقابلة:
اتجهت الدول الغربية لتبني سياسات لدفع جزر سليمان لوقف الاتفاق الأمني مع بكين، وتتمثل السياسات التي تم تبنيها، أو حتى يتوقع تبنيها في المستقبل، في التالي:
1- الضغط على جزر سليمان: طلبت أستراليا، في 14 أبريل، من جزر سليمان عدم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الصين، إذ زار وزير المحيط الهادئ الأسترالي زيد سيسيلجا هونيارا للقاء رئيس الوزراء شخصياً لمطالبته بـ "عدم توقيع الاتفاقية". كما رحبت كانبرا بتصريحات سوجافارا، والتي أكد خلالها بأن أستراليا تظل الشريك الأمني المفضل لجزر سليمان، وأنها لن تستخدم أبداً في استضافة قواعد عسكرية أو مؤسسات عسكرية أخرى لقوى أجنبية".
كما التقى اثنان من كبار مسؤولي المخابرات الأسترالية، وهما رئيس جهاز المخابرات الأسترالية بول سيمون، والمدير العام لمكتب المخابرات الوطنية، أندرو شيرر، برئيس وزراء جزر سليمان ماناسيه سوغافاري في أبريل للضغط عليه كذلك، وإثنائه عن توقيع الاتفاقية.
وأعلن كورت كامبل، مسؤول البيت الأبيض عن آسيا، أنه سيزور جزر سليمان خلال أبريل لبحث المسودة "المزعومة" بين هونيارا وبكين، في محاولة للضغط على جزيرة سليمان للتراجع عنها، كما بحثت نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان، خلال لقائها، مع وزير خارجية جزر سليمان جيريمايا مانيلي، في 13 مارس، خطط فتح سفارة الولايات المتحدة في الدولة الواقعة على المحيط الهادئ. وكانت واشنطن تعتمد على سفارتها في بابوا غينيا الجديدة في تعاملاتها مع جزر سليمان، وهو ما يؤشر على اهتمام أمريكي أكبر بالمنطقة.
2- توظيف الانقسامات الداخلية: يمكن أن تلجأ الدول الغربية لتوظيف الأصوات الداخلية المعارضة لسوجافارا، سواء تمثل ذلك في المعارضة السياسية، أو استغلال الانقسامات بين الجزر المكونة لجزر سليمان.
فقد أكد زعيم المعارضة في جزر سليمان، ماثيو ويل، في 28 مارس 2022، إنه حذر الحكومة الأسترالية منذ عام 2021 من إعداد اتفاق أمني بين هونيارا وبكين. وأضاف: "كل المؤشرات كانت موجودة ولم تفعل الحكومة الأسترالية شيئاً حيال ذلك، لذلك أشعر بخيبة أمل شديدة منها"، كما عبرت جزيرة ماليتيا، إحدى الجزر الرئيسية المكونة لجزر سليمان، عن رفضها للمشاريع الصينية وقبولها المساعدات من الولايات المتحدة، وهي كلها أدوات للحركة يمكن أن تلجأ إليها واشنطن وكانبرا في حالة رفض جزر سليمان الانصياع لمطالبها بالتراجع عن الاتفاق مع بكين.
3- محاولة مجاراة الصين اقتصادياً: تسعى أستراليا لتحجيم التحركات الاقتصادية الصينية، وذلك عبر محاولة تقديم مساعدات اقتصادية للجزر الواقعة في المحيط الهادئ.
كما بدأت الولايات المتحدة تعزز علاقاتها بدول المنطقة، وهو ما وضح في زيارة بلينكن لجزر فيجي في فبراير 2022، في زيارة هي الأولى من أربعة عقود، كما تعهد بزيادة الدعم لمحاربة كوفيد – 19 وتبعات التغير المناخي. وأرسلت الولايات المتحدة تطعيمات لهونيارا، بالإضافة إلى المساعدة في التخلص من المفرقعات التي تشكل خطراً منذ الحرب العالمية الثانية.
وتتمثل المشكلة الأساسية في أن الدول الغربية لا تستطيع، أو لا تمتلك الإرادة لمجاراة الاستثمارات الصينية الضخمة. وقد وضح ذلك في حالة جزر سليمان، إذ أعلنت أستراليا أنها سوف تزيد من دعمها الاقتصادي لها، بالنظر إلى كونها أكبر متبرع، غير أن ذلك لم يثبط من عزم الجزيرة على إقامة علاقات مع الصين، إذ تمسك رئيس وزراء جزر سليمان بالمساعدات الصينية والعلاقات مع بكين باعتبارها فرصة لتطوير البنية التحتية للجزيرة.
4- التحركات العسكرية والأمنية الغربية: أشار وزير الدفاع الأسترالي على أنه يتم حالياً العمل على بناء ميناء استراتيجي جديد في الإقليم الشمالي لتلبية المتطلبات الاستراتيجية الجديدة، في إشارة للاتفاق الأمني المحتمل توقيعه بين جزر سليمان وبكين. كما قد تتجه أستراليا لتعزيز تعاونها الدفاعي مع كاليدونيا الجديدة وفيجي في حالة لم تتراجع جزر سليمان عن تعاونها مع بكين.
وفي الختام، يمكن القول إن الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا سوف تسعى لممارسة ضغوط على جزر سليمان بغية توفير الدعم اللازم لها لضمان ولائها، ودفعها للتراجع عن توقيع الاتفاق الأمني مع الصين، نظراً لأن توقيع مثل هذا الاتفاق سوف يعني تغير المشهد الأمني في المحيط الهادئ، وتحوله إلى إحدى الساحات الجديدة إلى صراع القوى الكبرى، إلى جانب أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي.