أدى الوصول إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد، وبدء حملات التطعيم لمكافحة تفشي الفيروس إلى شعور بالتفاؤل للخروج من هذه الأزمة، ودعا ذلك صندوق النقد الدولي في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" إلى رفع توقعاته لمعدل النمو العالمي ليصل إلى 6% في عام 2021. ويعد العامل الأساسي للوصول إلى لقاح في وقت قياسي للغاية هو الدعم المالي الكبير الذي قدمته حكومات الدول المتقدمة لشركات الأدوية والشركات المصنعة للقاحات لتطوير لقاح يستخدم لمحاربة هذا الوباء. وقد استطاعت الشركات المصنعة للقاح تحقيق أرباح هائلة مما دفع العديد من المنافسين لمحاولة اللحاق بالركب والوصول إلى لقاحات أخرى، ربما تكون أكثر فاعلية أو قدرة على مواجهة تحور فيروس كورونا.
وفي هذا الإطار يتناول هذا التحليل اقتصادات التطعيم، وكيف أثر توفر لقاح لفيروس كورونا على أرباح بعض الشركات المُصنعة له، وهل من المتوقع أن تستمر الشركات في تحقيق أرباح هائلة؟، وكيف ساهم توفر اللقاحات في حدوث فجوة كبيرة في توزيعه بين الدول الغنية والدول النامية والفقيرة؟، وما هي الفرص الجديدة التي نتجت جراء توفير اللقاحات؟
حسابات صناعة اللقاحات:
تعتبر اللقاحات من ضمن السلع العامة والتي تتسم بعزوف الكثير من المصنعين عن إنتاجها نظراً لانخفاض العائد منها، وعدم استطاعة المستهلك تحمل تكاليف تصنيعها نظراً لضخامتها. لذا يعاني إنتاج اللقاح من الفشل السوقي، وهو ما يدفع الحكومات للتدخل من خلال تمويل إنتاجها نظراً لارتفاع المنافع الاجتماعية منها.
وكانت صناعة اللقاحات تعتبر في وقت سابق من الصناعات غير المربحة، حيث يتم إنتاج اللقاحات بتكلفة مرتفعة وبيعها بهامش ربح منخفض. ويرجع ذلك إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض أسعار السوق. وتُعد الحكومات هي المشتري الأساسي للقاحات، وتقوم بشرائها بكميات كبيرة وبأسعار محدودة. ونتيجة لذلك كانت تترك صناعة اللقاح إلى حد كبير للقطاع العام، وتتخصص شركات الأدوية في إنتاج العلاجات الدوائية للحالات المزمنة والتي يتناولها الأفراد بشكل يومي، باعتبارها الأكثر ربحاً.
في المقابل، خلال السنوات الأخيرة بدأت أسعار اللقاحات ترتفع بشكل كبير. ويرجع هذا الارتفاع إلى عملية التصنيع ذاتها والتي تتسم بكونها معقدة للغاية، بالإضافة إلى ارتفاع ميزانية البحث والتطوير. وهكذا، تحولت تجارة اللقاحات إلى مصدر ربح ضخم لعدد صغير من الشركات العالمية.
ويتميز سوق اللقاحات عن سوق الأدوية الأخرى بعدد من السمات الخاصة، وهي كالتالي:
- يعتمد تطوير اللقاحات على جهود ضخمة من الجامعات والمختبرات الصيدلانية وعمالقة شركات الأدوية الهادفة للربح. وفي حين أن الكثير من الأبحاث المبتكرة يتم إجراؤها في الجامعات، إلا أن شركات الأدوية هي التي تمتلك القدرة المالية والخبرة لتمويل وتنفيذ التجارب السريرية اللازمة والحصول على التراخيص الطبية المطلوبة من قبل السلطات الصحية المختصة.
- تلعب الحكومات دوراً في مراحل مختلفة من عملية تطوير اللقاحات، حيث تُوفر التمويل الأولي للأبحاث "تمويل الدفع"، وتقوم بشراء اللقاحات بعد إنتاجها "سحب التمويل".
- هناك عدد قليل من الشركات التي تنتج اللقاحات وعدد قليل نسبياً من مشتري اللقاحات. فعلى سبيل المثال، استحوذت أربع شركات على 90٪ من عائدات اللقاحات العالمية في عام 2019 ، غير أن هذا الوضع اختلف قليلاً أثناء جائحة كورونا.
عوائد الجائحة:
منذ الإعلان عن جائحة كورونا، وجدت الشركات المصنعة للقاحات نفسها أمام خيارين، الأول عدم الدخول في سباق تطوير اللقاح المضاد لفيروس كوفيد-19 بسبب التكاليف المالية الضخمة المطلوبة، بالإضافة إلى السمعة التي ستلحق بهم حتماً إذا فشلت محاولاتهم في توفير اللقاح. أما الثاني فيتمثل في الاعتراف بالمسؤولية الاجتماعية لهذه الشركات وتحمل المخاطر المالية الضخمة لإنتاج اللقاح، والتركيز على الأرباح المتوقعة في حالة الوصول إلى لقاح.
وتسابق عدد من الشركات لتطوير أول لقاح لكوفيد-19 بتمويل حكومي ضخم، في محاولة لإظهار النفوذ والقوة والثقة بالتقدم التكنولوجي لهذه الدول. ونتيجة لذلك حققت الشركات الخاصة التي طورت اللقاح أرباحاً هائلة تُقدر بمليارات الدولارات.
وفي ضوء الأرباح الضخمة التي حققتها شركات مثل فايزر وموديرنا، تصاعد الجدل حول ما إذا كان من الصواب لهذه الشركات أن تستفيد بشكل هائل من "الجائحة"، وتحقق هذه المكاسب، خاصة في ضوء التزام المنافسين، مثل جونسون آند جونسون واسترازينيكا، ببيع لقاحاتهم على أساس غير ربحي. حيث يتراوح سعر اللقاح لشركة فايزر بين 17 و20 دولاراً تقريباً، بينما يقترب سعر لقاح استرازينكا من 4 دولارات. وفي هذا الصدد، يرى البعض أن هذه الأرباح الضخمة غير مقبولة، خاصة في ضوء الخسائر الفادحة التي حققتها بعض الصناعات نتيجة عمليات الإغلاق والقيود الاجتماعية. في المقابل، يعتبر آخرون أن تحقيق الربح هدف مؤسسي في المقام الأول، وأن هذه الشركات تحملت المجازفة المرتبطة بتطوير اللقاح، والمخاطر المالية المحتملة وذلك في ضوء مسؤولياتها المجتمعية.
وقد حفزت الأرباح التي حققتها الشركات المُصنعة للقاح إلى دخول منافسين آخرين لإنتاج اللقاح، غير أن السؤال المثار هنا، هل من المتوقع أن تستمر هذه الأرباح؟ وفي هذا الإطار يمكن القول إن هناك سيناريوهان:
السيناريو الأول: أن هذه الأرباح ستكون مؤقتة، ويرجع ذلك إلى المنافسة الشرسة بين الدول لتطوير اللقاح، وعدد الشركات المتوقع أن يزداد خلال عامين، فحتى الآن هناك نحو 20 لقاحاً تمت الموافقة على استخدامها، بالإضافة إلى العديد من اللقاحات الأخرى في المراحل النهائية من التجارب السريرية، وبالتالي سيكون من الصعب فرض سعر مرتفع.
السيناريو الثاني: أن يسود عدد قليل من الشركات في إنتاج اللقاح "سوق احتكار القلة". ويرجع ذلك إلى وجود نسخ متحورة جديدة من فيروس كورونا، كما أنه مازال يتم اختبار مدى فاعلية اللقاحات المتوفرة على سلوك الفيروس. وبالتالي إذا استطاع عدد من الشركات تحقيق هذه المعادلة بتوفير لقاح عالي الفاعلية وقادر على مواجهة النسخ المتحورة، ستكون قادرة وحدها على الاستحواذ على السوق وتفرض سعراً مرتفعاً.
فرص اقتصادية جديدة:
على الرغم من أن قطاعي السياحة والطيران كانا من أكثر القطاعات تضرراً جراء جائحة كورونا، فإن التطعيم في المقابل خلق فرصاً خاصة بهذين القطاعين على وجه التحديد، واستطاعا تطوير فرص للاستفادة من الوضع الجديد، كالتالي:
1- سياحة التطعيم: تعتبر "سياحة التطعيم" أو "سياحة اللقاحات" من المصطلحات الحديثة والتي ظهرت نتيجة الحاجة السريعة لتلقي اللقاحات المضادة لفيروس كورونا مع توفر فائض عرض لدى بعض الدول. ومن أهم أسباب ظهور فكرة سياحة التطعيم:
- معاناة العديد من الدول المتقدمة مثل الدول الأوروبية في توفير لقاحات لكل سكانها وذلك على الرغم من وجود عدد كبير من شركات تصنيع لقاحات كورونا في أوروبا، بالإضافة إلى بطء عمليات التطعيم في بعض الدول مثل النمسا.
- إنعاش قطاعي السياحة والسفر في العالم، وهو ما يترتب عليه خلق فرص عمل للأفراد الذين فقدوا وظائفهم بسبب الجائحة. بالإضافة إلى معاناة الدول التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على السياحة.
وإزاء هذه الأزمة التي تعانيها دول متقدمة، بدأت دول وشركات تسعى لاجتذاب السياح بغرض تلقي لقاحات كورونا، مستغلة رغبة الكثيرين في الحصول على اللقاح بأقصى سرعة ممكنة، وأصبحت الدول التي توفر اللقاح للسياح والزوار هي الوجهات الأساسية للسفر السياحي مؤخراً، بل أن سياحة اللقاحات تفرض على الزوار المكوث لفترات أطول من المعتاد، حيث يحتاج التطعيم لوجود الشخص لمدة حوالي شهر لتلقي جرعتين من اللقاح، وهو ما يعني مزيداً من الانفاق وبالتالي ارتفاع عوائد قطاع السياحة. ومن أهم الدول التي بدأت في الإعلان عن سياحة التطعيم سان مارينو في أيطاليا، ونيويورك، وروسيا، والإمارات، وجزر المالديف.
2- قطاع الطيران: على الرغم من أن الطيران من القطاعات الأكثر تضرراً إزاء أزمة كورونا، فإن هذا القطاع سيواجة مهمة القرن في شحن وتوصيل لقاح كورونا لجميع دول العالم، فقد قُدِّر عدد رحلات الطيران لتوصيل اللقاح حول العالم بنحو 15 ألف رحلة جوية. والجدير بالذكر أن شحن الأدوية واللقاحات ليس جديداً على شركات الطيران، ولكن سعة الشحن والتجميد الشديد الذي يتطلبه بعد اللقاحات، والسرعة التي يجب أن يتم بها تسليم اللقاحات من أبرز التحديات التي تواجهها شركات الطيران.
وفي هذا الإطار أطلقت اليونيسيف مبادرة لاستخدام الشحن الجوي لأغراض إنسانية، وذلك دعماً لمرفق كوفاكس التي تهدف إلى الوصول العادل للقاحات. وقد وقّعت أكثر من 10 شركات طيران اتفاقيات مع اليونيسف لدعم شحن وتسليم اللقاحات، ومن أبرز هذه الشركات: الخطوط الجوية للاتحاد الأوروبي مثل الخطوط الجوية الفرنسية ولوفتهانزا للشحن، خطوط بروكسل الجوية، بالإضافة إلى الخطوط الجوية الأميريكية والسنغافورية. كما شارك في المبادرة عدد من الخطوط العربية، مثل الخطوط السعودية، وطيران الإمارات، والخطوط القطرية.
مرفق كوفاكس:
منذ الإعلان عن توفر اللقاحات، قامت الدول الغنية بالاستحواذ على كميات كبيرة منها (أكثر من احتياجاتها الأساسية)، تاركة الدول الفقيرة والنامية لمواجهة الندرة الشديدة والتكلفة المرتفعة في الحصول على اللقاحات، وهو ما عُرف بظاهرة "قومية اللقاحات". فقد حصل نحو 22,6% من سكان العالم على الأقل على جرعة واحدة من لقاح كوفيد-19، في المقابل حصل نحو 0,9% من سكان الدول ذات الدخل المنخفض على الأقل على جرعة واحدة. بالإضافة إلى ما تعانيه الدول الفقيرة والنامية من تحديات في حال توفر اللقاح، ومن أهم هذه التحديات: عدم وجود معايير مناسبة لعمليات التخزين والنقل، وعدم كفاءة الخدمة الطبية إذ تعاني الدول الفقيرة من نقص أعداد مقدمي خدمات التطعيم المدربين، فضلاً عن المتابعة الدقيقة لجرعات التطعيم فيما يخص اللقاحات التي تتطلب أكثر من جرعة.
وسيؤدي عدم الإنصاف في توزيع اللقاحات إلى ضرر اقتصادي كبير من شأنه أن يعرّض التقدم الاقتصادي المحرز على مدى عقود من الزمن للخطر لجميع دول العالم المتقدم والنامي. في المقابلـ يؤدي التوزيع المنصف للقاحات كوفيد-19 إلى تحقيق فوائد اقتصادية لا تقل عن 153 مليار دولار أمريكي في الفترة 2020-2021، ونحو 466 مليار دولار بحلول عام 2025 في 10 من الاقتصادات الرئيسية في العالم.
ومن أجل ضمان الوصول العادل للقاحات ومساعدة الدول النامية والفقيرة في الحصول عليها، قامت نحو 190 دولة بالانضمام إلى "مرفق كوفاكس"، وهو عبارة عن إطار عالمي رائد للتعاون يهدف إلى تسريع استحداث اختبارات كوفيد-19 وعلاجاته ولقاحاته وإنتاجها وإتاحتها بشكل منصف لكل دول العالم. ويشترك في قيادة "مرفق كوفاكس" كل من التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع (جافي)، والائتلاف المعني بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة، ومنظمة الصحة العالمية.
وفي الختام، يمكن القول إنه مع ظهور اللقاحات، ظهرت فرص اقتصادية جديدة ارتبطت بقطاعات محددة، غير أن الأهم من ذلك أن التطعيم خلق شعوراً بالأمل في إمكانية التعافي من جراء أزمة كورونا، ويبقى ذلك مرهوناً بسرعة وصول اللقاحات لكافة دول العالم بما في ذلك الدول النامية والفقيرة والتي تعاني ندرة اللقاحات، وتقديم الدعم الفني اللازم لتخزين وحفظ اللقاحات، بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي الكافي من قبل الدول المتقدمة لتسريع إنتاج وتوزيع اللقاح، ودعم فاعليتها أمام الطفرات الجديدة من الفيروس. ويقدم "مرفق كوفاكس" المساعدة في إنتاج وإتاحة اللقاحات بشكل منصف، ولكنه يعاني حاليا عجزاً مالياً كبيراً نتيجة عدم التزام الدول المتقدمة بتمويل هذا المرفق، وهو ما يهدد بالإخفاق في مواجهة الوباء.