تُعد منطقة أمريكا اللاتينية من أكثر المناطق تضررًا من جائحة (كوفيد–19)، من الناحيتين الصحية والاقتصادية. فما يقرب من 30% من وفيات كورونا في العالم حدثت في هذه المنطقة، بالرغم من أنها تضم 8% فقط من سكان العالم. وشهد الاقتصاد تراجعًا بنسبة %7.4 من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، وهو الأكبر في عام واحد منذ عام 1821، وفقًا لتقرير بنك التنمية للبلدان الأمريكية، وكان الأكثر حدة في العالم؛ حيث تجاوز بكثير تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي البالغ 3.3%. ومن غير المُرجح أن يستعيد النمو الاقتصادي مستوياته خلال مرحلة ما قبل الوباء سوى في عام 2023 على الأقل. الأمر الذي يعني أن تحقيق التعافي الاقتصادي خلال مرحلة ما بعد انتهاء الجائحة يتطلب اتخاذ تدابير غير تقليدية.
تداعيات خطيرة:
كان للانكماش الحاد في اقتصادات أمريكا اللاتينية خلال العام الماضي بسبب الوباء تكاليف اقتصادية واجتماعية ضخمة، من بينها:
1- ارتفاع الديون: قامت العديد من دول المنطقة بزيادة الإنفاق العام لتعزيز النظم الصحية، وتوفير التحويلات للأسر، ومساعدة الشركات، وتحفيز اقتصاداتها. ورغم أن الدعم العام الواسع النطاق في العديد من البلدان حال دون حدوث مزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي، لكن هذا دفع مستويات الدين العام للارتفاع من 68% إلى 77% من الناتج المحلي الإجمالي. وسيتعين على الحكومات التعامل مع مستويات عالية من الديون السيادية للدائنين من القطاع الخاص، والوكالات المتعددة الأطراف، وفي بعض الحالات الصين.
2- تدهور الأوضاع الاجتماعية: أدت جائحة كورونا إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، حيث فقدت المنطقة أكثر من 34 مليون فرصة عمل وفقًا لمنظمة العمل الدولية، وكان الشباب والنساء والأفراد الأقل تعليمًا والعمال غير النظاميين هم الأكثر تضررًا. وقد دفع ركود الوباء 22 مليونًا من الأمريكيين اللاتينيين إلى دائرة الفقر، خلال العام الماضي، وفقًا للبنك الدولي. ومن غير المُرجّح أن يصل نصيب الفرد من الدخل إلى المستوى الذي كان عليه قبل انتشار الوباء سوى في عام 2024.
3- عدم الاستقرار السياسي: في ظل ارتفاع الديون العامة أصبح لدى دول المنطقة قدرة أقل على تنفيذ البرامج الاجتماعية اللازمة، وهو ما يزيد من خطر أن يؤدي تفاقم الفقر وعدم المساواة إلى المزيد من الاضطرابات السياسية. وقد شهدت الدولة الوحيدة التي اتخذت إجراءات مبكرة لمعالجة مشكلة الديون، وهي كولومبيا، حالة من الغضب الشعبي العارم اعتراضًا على حزمة الإصلاح الضريبي التي استهدفت زيادة الإيرادات الضريبية، وقد أجبرت الاحتجاجات الوطنية غير المسبوقة، حكومة الرئيس "إيفان دوكي" على سحب الاقتراح واستقالة وزير المالية.
سبل التعافي الاقتصادي:
يتطلب تعافي اقتصادات أمريكا اللاتينية العمل على تبني عدد من السياسات والتدابير المبتكرة والاستباقية، والتي من بينها:
1- استراتيجية "التعافي الأخضر": سيكون على دول المنطقة خلال مرحلة ما بعد كورونا، الاستعداد للتعافي الاقتصادي اعتمادًا على الاقتصاد الأخضر، الذي يقوم على أولوية حماية البيئة. ومن المُرجح أن توفر المنطقة ما يصل إلى 621 مليار دولار سنويًا إذا حقق قطاعا الطاقة والنقل حيادًا للانبعاثات بحلول عام 2050، مع إيجاد 7.7 ملايين وظيفة جديدة، وفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ويصبح الاستثمار في الاقتصاد الأخضر أكثر إلحاحًا لأن المنطقة لم تنفق سوى 2.2% من الأموال الموجهة لخطط التحفيز الاقتصادي، على مشاريع مستدامة بيئيًا عام 2020، وفقًا لمنصة جديدة طورتها جامعة أكسفورد والأمم المتحدة. وهو ما يعني أن دولها مطالَبة بمراجعة خطط الإنفاق والتخفيض التدريجي لدعم الوقود الأحفوري.
2- الإسراع بالتحول الرقمي: لمساعدة اقتصادات أمريكا اللاتينية على التعافي، ستحتاج الحكومات إلى تسريع التحول الرقمي للسماح للشركات والمستهلكين بالتكيف مع الوضع الطبيعي الجديد، والاستفادة من التعافي من الجائحة في تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ويمكن تحقيق ذلك من خلال معالجة الحواجز طويلة الأمد التي تحول دون اعتماد التقنيات الرقمية وسد الفجوات الرقمية، وذلك عبر الاستثمار في البنية التحتية الرقمية لتوفير وصول موثوق به وبأسعار معقولة لأكثر من 244 مليون شخص في أمريكا اللاتينية والكاريبي ليست لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت. وسيكون على الحكومات دعم التحول الرقمي الشامل، وتشجيع رقمنة الأعمال، وحماية خصوصية البيانات وأمنها.
3- تعزيز الاستدامة المالية: تُعتبر أنظمة الضرائب والتحويلات النقدية في المنطقة أقل تقدمًا بشكل كبير مقارنة بالدول المتقدمة، إذ لا يتجاوز إجمالي الإيرادات الضريبية في أمريكا اللاتينية والكاريبي في المتوسط 23% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 34% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لذا، يمكن لأمريكا اللاتينية النظر في فرض زيادة تصاعدية لضرائب الدخل الشخصي، وتقليص الإعفاءات الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي. ومن التدابير الأخرى المقترحة فرض ضرائب على الاقتصاد الرقمي، وتنفيذ ضرائب تصحيحية، مثل الرسوم البيئية أو غيرها من الضرائب المتعلقة بالصحة العامة. ويمكن النظر في خفض عتبات الدخل لضرائب الدخل الشخصي لجلب المزيد من الأشخاص ذوي الدخل المرتفع نسبيًا إلى المنظومة الضريبية، إضافة إلى تقديم الحوافز الضريبية للحد من الطابع غير الرسمي للأنشطة الاقتصادية.
4- الاستثمار في القطاعات المولدة للوظائف: وفقًا لمنظمة العمل الدولية، تسببت أزمة كورونا في خسارة 255 مليون وظيفة في العالم عام 2020، ومن المتوقع أن يُسهم التوسع في عمليات الأتمتة والتحول الرقمي في فقدان عدد آخر من الوظائف. لذا، ينبغي على حكومات المنطقة تكثيف الاستثمار العام في القطاعات المولدة للوظائف. وقد كشف صندوق النقد الدولي أن هناك إمكانية لخلق ما يتراوح بين وظيفتين إلى 8 وظائف بشكل مباشر مقابل كل مليون دولار من الإنفاق على البنية التحتية التقليدية، وما يتراوح بين 5 وظائف و14 وظيفة مقابل كل مليون دولار من الإنفاق على البحوث والتطوير، الكهرباء الخضراء، والمباني ذات الكفاءة في استخدام الطاقة.
5- الاهتمام بوظائف الغد: ستشهد دول أمريكا اللاتينية في مرحلة ما بعد كورونا المزيد من البطالة، لكن -في المقابل- من المحتمل أن يكون هناك نمو في "وظائف المستقبل"، مثل الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر والتسويق والبيانات. وبالنظر إلى التحولات الهيكلية التي يُرجح أن يكون سببها الوباء أو يُسهم في الإسراع بها، يجب على دول المنطقة تنفيذ سياسات لإعادة تدريب العمال لإعدادهم لوظائف الغد، ونشر التكنولوجيا بصورة سريعة. وبدون توفير التدريب المطلوب، يمكن أن تؤدي التقنيات المتقدمة إلى زيادة عدم المساواة من خلال إتاحة الفرصة للمتعلمين تعليمًا عاليًا للاستفادة من التكنولوجيا، دون السكان من ذوي المهارات المتدنية.
6- استراتيجية "التنويع الاقتصادي": ساهمت طفرة أسعار السلع الأساسية خلال عامي 2013-2014 في الحد من الفقر وعدم المساواة. ومع ذلك، فإن الارتفاع الراهن في أسعار السلع الزراعية والمعادن، مدفوعًا بانتعاش الصين السريع، لن يكون كافيًا بحد ذاته للحد بشكل دائم من الفقر وعدم المساواة، وهو ما يتطلب تبني استراتيجية للتنويع الاقتصادي، وهي خطوة صعبة لكنها حاسمة. وقد تكون دراسة استراتيجيات البلدان التي نجحت في التنويع، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، نقطة انطلاق جيدة.
7- دعم الانتعاش المستدام للقطاعات الرائدة: تُمثل السياحة أحد أكثر القطاعات التي عانت من جائحة كورونا. وكان لتوقف وصول السائحين الدوليين والمحليين إلى دول المنطقة منذ أبريل 2020، تأثير كبير على الاقتصاد والتوظيف، خاصة أن السياحة تُمثل نصف جميع صادرات الخدمات في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وكذلك نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي والعمالة. ومع اتخاذ بعض الدول إجراءات لتخفيف قيود الإغلاق، هناك فرصة لتسريع الانتعاش الاقتصادي للقطاع، وذلك عبر حزمة تدابير متنوعة للدعم، منها: حماية العمال، دعم بقاء الأعمال، مساندة الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة على وجه الخصوص.
8- صياغة عقد اجتماعي جديد: تأتي الأزمة الحالية في وقت تنتشر فيه الاضطرابات الاجتماعية عبر أمريكا اللاتينية والكاريبي، تعبيرًا عن حالة الغضب الشعبي السائدة بين المواطنين من انتشار الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي. وحتى يكون الانتعاش الاقتصادي المرجو تحقيقه مستدامًا، فيجب معالجة عدم المساواة على المدى الطويل بحيث تصل الفوائد الاقتصادية إلى المواطنين الأفقر في المنطقة. وهو ما يستدعي صياغة عقد اجتماعي جديد، يقوم على إنشاء نظام شامل للحماية الاجتماعية، برفع الضرائب، وزيادة مشاركة المواطنين في السياسة بطرق تعزز الديمقراطية التمثيلية.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن حكومات أمريكا اللاتينية تواجه تحديات جمة خلال الفترة المقبلة، خاصة أن عملية توزيع لقاح كورونا بطيئة في معظم المنطقة، وقد لا يتم الوصول إلى مناعة القطيع قبل نهاية عام 2021 على أقرب تقدير. وبالرغم من عدم وجود حل سحري للأزمة الراهنة؛ إلا أنها يمكن أن تكون فرصة للإصلاح. وإذا تمكنت أمريكا اللاتينية من صياغة إجماع سياسي واجتماعي بشأن كيفية إعادة تصميم شبكة الأمان الاجتماعي وأنظمة الضرائب ودور الدولة وكيفية تمويل الميزانية بطريقة مستدامة، فيمكنها المضيّ قدمًا نحو التقدم الاجتماعي المستدام، وبناء أسس اقتصاد القرن الحادي والعشرين.