أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

تحولات القيادة:

لماذا عادت كوريا الجنوبية للاهتمام بالطاقة النووية؟

03 أغسطس، 2022


لم تكد تمر خمس سنوات على إقرار سياسة التخلص التدريجي من الطاقة النووية في كوريا الجنوبية، حتى تقرر العدول عن هذه السياسة، حيث أعلنت المتحدثة باسم الرئيس الكوري الجنوبي، يون سيوك-يول، أنه طالب وزير الصناعة في بلاده بإعادة بناء الصناعة النووية بسرعة، وتقديم الأعمال المناسبة لها بأسرع وقت، وفق ما نقلته وكالة "يونهاب" الكورية الرسمية يوم 12 يوليو 2022.

وهذا التحول يعني دفعة جديدة للطاقة النووية في كوريا الجنوبية، مع استئناف بناء المفاعلات النووية التي توقف بناؤها، ووجود خطط لبناء مفاعلات أخرى، ومع كل ما يقتضيه ذلك من عمليات بحث وتطوير وإنفاق وخلق فرص عمل في الداخل والخارج، وأيضاً في ظل سعي كوريا الجنوبية للفوز ببناء عشرة مفاعلات نووية في الخارج حتى عام 2030. 

ويبقى السؤال؛ لماذا حدث هذا التحول في السياسة النووية لكوريا الجنوبية؟ وإلى أي مدى سيتحقق المُخطط له؟ وما هي دلالات كل ذلك في ظل التطورات الدولية الجارية وتأثيرها على أمن الطاقة عالمياً؟

مراحل التغير:

مر نحو أربعين عاماً على بداية الاستخدام الفعلي للطاقة النووية في كوريا الجنوبية، حيث سارت الأمور خلالها بنمو مضطرد، ولم تؤثر الحوادث النووية الكبرى في العالم كثيراً على تلك العملية، إلى أن جاءت الوقفة الكبيرة منذ خمس سنوات، والتي وصلت إلى حد الإعلان عن هدف التخلي التدريجي عن الطاقة النووية. ثم جاء الهدف المُغاير تماماً مع تولي الإدارة الجديدة في كوريا الجنوبية بقيادة الرئيس يون سيوك-يول، مقاليد الحكم منذ 10 مايو 2022. ويمكن توضيح التطورات التي حدثت في هذا الملف النووي، على النحو التالي:

1- تبني الرئيس الكوري الجنوبي السابق سياسة "الإزالة النووية": في عام 1978، بدأ أول مفاعل نووي كوري جنوبي في العمل، وبعد نحو أربعة عقود تم إغلاقه في ظل توجه سابق هدف إلى التخلي التدريجي عن الطاقة النووية. وقد ساقت إدارة الرئيس الكوري الجنوبي السابق، مون جي إن، مبررات لهذا التوجه، ومن بينها مسألة السلامة؛ وذلك في ضوء كثافة الزلازل التي باتت تتعرض لها البلاد، والتعامل مع النفايات النووية الناتجة عن عمل المفاعلات، فضلاً عن التوجه إلى الاعتماد أكثر على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة سواء كانت شمسية أو من الرياح، ناهيك عن التوجه إلى تشغيل المزيد من محطات الكهرباء بالغاز عوضاً عن الفحم.

2- اتخاذ إجراءات لوقف مفاعلات نووية: إذا كان إغلاق المفاعل (كوري 1) قد جاء بعد أن استنفد زمن تشغيله الأساسي (30 عاماً) والمُمدد (10 سنوات)، فقد تقرر ضمن سياسة التخلي التدريجي عن الطاقة النووية، الاكتفاء بالفترة الأساسية لتشغيل المفاعلات القائمة، وعدم مدة فترة تشغيلها، علاوة على إيقاف خطط إنشاء المفاعلات التي كانت مُقررة بالفعل. وقد نجا من ذلك مفاعلان كانا قد تم البدء في إنشائهما؛ هما مفاعلا (شينجوري 5، وشينجوري 6)، بعدما جاءت توصية المفوضية الحكومية التي أوُكل إليها دراسة الموضوع، باسئناف عملية الإنشاء. وبلغ عدد المفاعلات التي تقرر سابقاً إلغاء خطط إنشائها في كوريا الجنوبية، ستة مفاعلات.

3- التخلي التدريجي عن الطاقة النووية: لم تكن إدارة الرئيس الكوري الجنوبي السابق، مون جي إن، تريد التخلي الفوري عن الطاقة النووية، ولا حتى على المدى القصير. فهي كانت تعي أولاً صعوبة ذلك، ليس فقط من حيث تدبير المصادر البديلة، وعدم التسبب في ارتفاع أسعار الكهرباء؛ وإنما أيضاً من نواحٍ تقنية عديدة، خاصةً كيفية إخراج هذا العدد الكبير من المفاعلات من الخدمة. إذ ظل هناك 24 مفاعلاً نووياً قيّد التشغيل، وكان المخطط النزول بهذا العدد إلى 14 مفاعلاً فقط في عام 2038. 

ويُضاف إلى ذلك، التكلفة الاقتصادية الباهظة التي ستكون مُهدرة في حال الوقف الفوري للمفاعلات، جراء ما أُنفق على إنشائها من دون أن يتحقق العائد المُخطط منها. وهذه أمور ليس من السهل تجاوزها، خاصةً في ظل وجود جهات رقابية على جميع المستويات. وكان هناك تشكيك في الاعتبارات الاقتصادية التي سيِقت لتبرير قرار إيقاف مفاعل (وولسونج 1) عن العمل في عام 2017 بعدما كان يُفترض أن يستمر حتى عام 2022. 

4- قوة دفع للطاقة النووية مع تولي الرئيس يون: كان الرئيس الكوري الجنوبي الحالي، يون سيوك-يول، واضحاً منذ حملته الانتخابية، من حيث إلغاء سياسة التخلي التدريجي عن الطاقة النووية، والسعي للفوز بعقود بناء عشرة مفاعلات نووية في الخارج حتى عام 2030. ومن ثم جاءت اللجنة الانتقالية التي تشكلت عقب فوزه في الانتخابات، لتؤكد على هذا الهدف ضمن 110 أهداف وضعتها. ومع تولي الرئيس الحالي منصبه رسمياً في مايو الماضي، وضع على رأس أولويات أجندته في الداخل والخارج هذه القضية النووية، وذلك كالتالي: 

أ- إجراءات داخلية: وجه الرئيس الكوري الجنوبي الحالي بضخ أموال، واستئناف أعمال بناء مفاعلات نووية، وإعطاء الاهتمام بقضايا البحث والتطوير في المجالات المعنية بدفع الطاقة النووية، وليس التخلص منها. ومن ثم، أقرت حكومة الرئيس يون مجموعة من الإجراءات لتحقيق عدة أهداف، ومن بينها الآتي:

- التخطيط لزيادة نسبة مساهمة الطاقة النووية إلى أكثر من 30% في عام 2030.

- تزويد شركات صناعة الطاقة النووية بأعمال تبلغ قيمتها حوالي 100 مليون دولار في عام 2022.

- البدء في بناء مفاعلي (شين هانول 3، وشين هانول 4) في عام 2024. وكانت خطط بنائهما قد أُلغيت في ظل سياسة الرئيس السابق.

- دعم عمليات البحث والتطوير النووي.

- العمل على ضخ استثمارات لتوظيفها في تطوير مفاعلات صغيرة.

- تقديم الدعم للشركات الصغيرة العاملة في مجال الطاقة النووية.

ب- تحركات خارجية: حرص الرئيس يون في كل لقاءاته بكبار المسؤولين الأجانب على التركيز على قضية الطاقة النووية. فعندما استضاف يون نظيره الأمريكي، جو بايدن، في العاصمة سول بعد حوالي أسبوعين من توليه السلطة، كانت قضية زيادة التعاون في مجال الطاقة النووية ضمن أجندة مباحثاتهما. وأكد يون على التعاون في هذا المجال مع واشنطن خصيصاً قبل انتخابه، للمساعدة في تحقيق أهدافه المُعلنة في هذا السياق. وعندما زار يون العاصمة الإسبانية مدريد في أول مشاركة لرئيس كوري جنوبي في قمة لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، في نهاية شهر يونيو الماضي، ناقش تلك القضية بشكل مُكثف مع العديد من القادة المشاركين في القمة.

أسباب التحول:

السؤال المهم في هذا الإطار هو لماذا أقدم الرئيس الكوري الجديد على الاهتمام بالطاقة النووية، على عكس سياسة سلفه؟ وهو ما يمكن توضيحه في النقاط التالية:

1- تُلخص كلمات الرئيس يون سيوك-يول هذا الأمر عندما زار أحد مصانع المفاعلات النووية في البلاد، حيث قال "لو لم نكن حمقى خلال السنوات الخمس الماضية وقمنا بدلاً من ذلك بتعزيز منظومة الطاقة النووية، ربما لم يكن لدينا أي منافس الآن". ومن الواضح في هذه التصريحات "الغضب" من إضاعة كوريا الجنوبية للفرص التي كان من المُمكن أن تتحول إلى صفقات في السنوات الماضية. ومن ثم، يسعى يون في السنوات الخمس المقبلة لتعويض ما فات، حيث أصبح "الباب مفتوحاً على مصراعيه"، حسب تعبيراته. والمسألة هنا لا ترتبط بمجرد حصول الشركات الكورية الجنوبية على عقود جديدة لبناء المفاعلات النووية، وإنما الأمر مرتبط كذلك بمكانة الدولة في هذا المجال، والثقة في قدراتها الإنشائية والتكنولوجية، والالتزام بمواعيد التسليم وضمن حدود الميزانية المُقررة.

2- عدم قناعة الرئيس يون بمُجمل سياسة الطاقة لسلفه، واعتباره الأهداف الخاصة بالتحول إلى المصادر المتجددة والنظيفة مُبالغاً فيها، وقد تكون غير مُمكنة التحقق. ومن ثم، فإن التخلي عن الطاقة النووية، سوف يؤدي إلى زيادة الاعتماد على الطاقة المُولدة من مصادر مُلوثة أكثر للبيئة.

3- لم يخف الرئيس يون أن العودة إلى تنشيط قطاع الطاقة النووية في الداخل والخارج سوف يساهم في خلق فرص عمل إضافية للمهندسين والفنيين والعمال في كوريا الجنوبية. وكان يون قد ذكر في نهاية ديسمبر 2021 أن الفوز بطلبات خارجية لبناء مفاعلات نووي، من شأنه المساهمة في خلق 100 ألف فرصة عمل.

4- سوف يساعد تحول كوريا الجنوبية في سياسة الطاقة النووية، على تحقيق المزيد من التقدم التكنولوجي في هذا المجال، في ظل استمرار عمليات البحث والتطوير فيه. وهذا سوف يساعد في التغلب على بعض مما كان قد طُرح في ظل إدارة الرئيس السابق لتبرير العدول التدريجي عن استخدام الطاقة النووية.

5- لا يمكن أيضاً إغفال دور جماعات الضغط المعنية بتنشيط العمل بالطاقة النووية. ففضلاً عن الأصوات الفردية، خاصةً في المجالات العلمية التي كانت قد عارضت توجه الإدارة السابقة في كوريا الجنوبية، فإن هناك الشركات المعنية بهذا القطاع.

6- الاضطرابات التي أصابت أسواق الطاقة في العالم، على خلفية التوترات بين روسيا والغرب بسبب حرب أوكرانيا، وحتى قبل أن تندلع الحرب في 24 فبراير 2022. ومن ثم جاءت تطورات ما بعد الحرب وارتفاع أسعار الطاقة، لتُقلل من فرص وجود معارضة قوية لسياسة الرئيس يون في الطاقة النووية.

أهداف مُمكنة:

ثمة احتمالات كبيرة لتحقيق أهداف الطاقة النووية التي حددها الرئيس الكوري الجنوبي، يون، خاصةً أن سياسة سلفه لم تكن تقضي بالتخلي الفجائي عن هذه الطاقة. ومن ثم، فإن المفاعلات النووية التي كان من المُقرر إنشائها، من الممكن، وفق ترتيبات وتسهيلات معينة، أن تعود إلى خطوات التنفيذ، وهذا ما بدأت بوادره بالفعل. وهكذا، فإن العودة بنصيب الطاقة النووية إلى حدود 30% أو أكثر في المدى الزمني المُحدد هو أمر يُمكن تحقيقه.

كما أن تحقيق هدف كوريا الجنوبية الخاص ببناء مفاعلات نووية في الخارج، مرتبط بعوامل كثيرة أيضاً، والبعض منها لا يعود إلى الشركات الكورية الجنوبية ذاتها، وإنما يرتبط بشركات الدول صاحبة السبق في مجال بناء المفاعلات النووية. كذلك، فإن الأمر مرتبط بطبيعة العلاقات بين كوريا الجنوبية والدول الراغبة في بناء وتشغيل مفاعلات نووية، وكذلك التسهيلات التي يمكن أن تُقدمها الدول المُتنافسة لبناء هذه المفاعلات.

سيناريوهات ثلاثة:

قد يطرح البعض سؤلاً مفاده؛ ماذا سيحدث في مجال الطاقة النووية لكوريا الجنوبية بعد خمس سنوات من الآن وهي مدة ولاية الرئيس الحالي يون؟ وهنا يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات؛ الأول أن يأتي رئيس جديد في كوريا الجنوبية بعد خمس سنوات مؤيد للنهج الذي سلكه يون، سواء كان هذا الرئيس من نفس حزبه أو من الحزب المُنافس. والسيناريو الثاني أن يكون الرئيس الجديد لديه تحفظات على توجهات يون النووية، لكنه ليس مع التخلي التام عن الطاقة النووية، ولو على المدى البعيد. أما السيناريو الثالث فيفترض مجيء رئيس يريد التخلص التام من الطاقة النووية، بغض النظر عن الفترة الزمنية التي يستغرقها هذا الأمر.

ومثل هذه السيناريوهات سوف تستند إلى توجهات الرئيس الكوري الجنوبي وحكومته، وهنا يحرص كل رئيس على تقديم مبررات وحجج موضوعية لأي سياسة يتبناها، وهي لا يمكن أن تكون محل إجماع. كما أن مُتغيرات الواقع قد تؤدي إلى القبول ببعض التنازلات، كما حدث مع الرئيس السابق. ولا يجب إغفال أهمية الرأي العام في كوريا الجنوبية.

وفي الوقت الراهن وربما لسنوات قادمة، يمكن القول إن الطاقة النووية في كوريا الجنوبية حصلت على دفعة قوية جراء ما يحدث من أزمة في أسواق الطاقة العالمية. وإذا كانت هذه الأزمة قد أبقت على أهمية الطاقة النووية، فإن ما يحدث في حرب أوكرانيا بالنسبة للمحطات النووية قد يُلقي بظلاله على كوريا الجنوبية، خاصةً في ظل التوترات التي ما تفتأ أن تطل برأسها بين الكوريتين؛ الجنوبية والشمالية. إذ يظل التخوف قائماً من تعرض المحطات النووية للأذى في حال نشوب نزاع مُسلح بين الجارتين. ولا شك أن هذه المخاوف تدخل في حسابات صانع القرار، أياً كان توجهه.

الخلاصة، ربما يكون الوضع في كوريا الجنوبية بعد خمس سنوات من الآن، أكثر تعقيداً، ولا يجعل من السهولة بمكان عودتها لخيار التخلي عن الطاقة النووية، ما لم يكن قد وقع أمر جلل.