فرض التفجير الذي تعرض له مرفأ بيروت، في 4 أغسطس الجاري، أحد أعمق الأزمات التي يمكن أن يمر بها الاقتصاد اللبناني على الإطلاق، لاسيما أنه تزامن مع أزمة مالية طاحنة يمر بها، وتمثل التكلفة التي يتحملها الاقتصاد، نتيجة الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للعاصمة بيروت، بجانب تكاليف إعادة إعمار هذا الدمار، حملاً جديداً وثقيلاً يوضع على كاهله، ومن المتوقع أن يؤجل تعافيه من الأزمة التي يمر بها لسنوات أخرى.
وقد انعكس ذلك في مجمله في إعلان رئيس الحكومة حسان دياب استقالته في 10 أغسطس الحالي، وهى الخطوة التي من المتوقع أن يكون لها ارتدادات مباشرة على الاقتصاد، لاسيما فيما يتعلق بالمفاوضات التي تجري مع صندوق النقد الدولي وبعض الهيئات الأخرى للحصول على تمويل، حيث لن تكون لدى حكومة تصريف الأعمال، التي كلف الرئيس ميشال عون رئيس الوزراء المستقيل برئاستها، سلطة إدارة تلك المفاوضات.
وضع صعب:
وصلت الأزمة المالية بالاقتصاد اللبناني إلى أقصاها فيما قبل وقوع انفجار مرفأ بيروت، حيث ارتفعت نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الاجمالي في لبنان إلى 170%. وأصبح حجم الدين المتضخم سبباً في استنزاف موارد الاقتصاد، وبخاصة من العملات الأجنبية، كما أن ارتفاع الدين إلى هذا المستوى قلص من قدرة الحكومة على الحصول على قروض جديدة، لتأمين احتياجاتها من النقد الأجنبي اللازم للمحافظة على الاستقرار النقدي والمالي.
ووصل الأمر إلى حد إعلان الحكومة في مارس الماضي تخلفاً طوعياً عن سداد ديون، كسندات أجنبية، استحقت في ذلك التاريخ بنحو 1.2 مليار دولار، بعد أن بلغت احتياطات البلاد من العملات الأجنبية مستويات حرجة، لاسيما في ظل أزمة كورونا. وفي حينه، ذكر رئيس الحكومة حسان دياب: "إن لبنان غير قادرة على سداد الديون المستحقة في الظروف الحالية وإنها ستعمل على إعادة هيكلة ديونها من خلال التفاوض مع حاملي السندات".
وقد تسببت تلك الأزمة في فرض ضغوط متزايدة على الليرة، التي فقدت نحو 70% من قيمتها منذ أكتوبر 2019، ذلك التاريخ الذي شهد بداية ظهور أعراض الأزمة المالية الراهنة، والتي باتت تعتبر الآن بمثابة التهديد المالي الأكبر لاستقرارها منذ سنوات الحرب الأهلية.
وقبيل حدوث انفجار بيروت، توقع صندوق النقد الدولي أن معدل الانكماش المحتمل أن يتعرض إليه الاقتصاد اللبناني في عام 2020، بسبب أزمته المالية، بجانب تداعيات أزمة كورونا، هو 12%. وقد سعت الحكومة في حينه إلى التفاوض مع الصندوق من أجل الحصول على مساعدات مالية، سواءً من خلاله أو عبر مقرضين دوليين آخرين، لكن مساعيها في ذلك الإطار لم تكن سهلة، وتعثرت في معظم مراحلها.
ما بعد الانفجار:
أسفر انفجار بيروت عن دمار كبير للبنية التحتية للمرفأ الذي وقع فيه، كما أنه تسبب في دمار في الأصول والممتلكات في محيط المرفأ، وعلى مسافة تقدر بنحو 10 كيلومترات، وخلّف وراءه أكثر من 163 قتيلاً، وما يزيد عن 6 آلاف جريح، هذا بجانب تشريد نحو 25 ألف شخص، الذين دمر الانفجار منازلهم.
وتم تقدير تكلفة الدمار الذي نتج عن الانفجار بما يصل إلى نحو 15 مليار دولار، وفق تقديرات أعلنها محافظ بيروت. ولم تقتصر الخسائر المادية للانفجار على ذلك، بل إنه تسبب في تلف نحو 85% من المخزون الاستراتيجي للقمح، وتسبب ذلك في تراجع كفاية مخزون القمح لحاجات البلاد إلى أقل من شهر.
وقد جدد الانفجار الضغط على الليرة، التي جرى تداولها بنحو 8300 ليرة للدولار في السوق السوداء عقب الانفجار، مقارنة مع ثمانية آلاف قبله، حسبما قال متعاملون. ويتوقع الاقتصاديون مزيداً من التآكل في القوة الشرائية للعملة، التي أضافت خسارة بنحو 10% بعد الانفجار، ليصل إجمالي خسائرها منذ أكتوبر 2019 وحتى الآن إلى نحو 80% من قيمتها.
ونتيجة للتكلفة الإضافية المتراكمة على كاهل الاقتصاد، بسبب الانفجار، فإن الانكماش المتوقع للاقتصاد لهذا العام، والذي كان مقدراً قبل الانفجار لم يعد يتناسب مع الظروف الجديدة، بل من المرجح أن يتضاعف، ليصل إلى ما يتراوح بين 20 و25%.
وقد فرضت هذه الأزمة تداعيات مباشرة بدت جلية في الاستقالات التي تقدم بها عدد من وزراء الحكومة حتى قبل الخطوة التي أقدم عليها رئيسها، فضلاً عن الاحتجاجات التي شهدها الشارع اللبناني في الأيام القليلة الماضية.
تراجع المساعدات:
فور وقوع الانفجار، أعلنت العديد من الدول تعاطفها مع لبنان، وقدمت بعض الدول مساعدات طبية طارئة. لكن برغم ذلك لوحظ غياب أي التزامات حقيقية بتقديم المساعدة اللازمة لإعادة الإعمار، أو لمساعدة الاقتصاد على التغلب على أزمته المالية المزمنة.
وهناك العديد من العوامل التي تدفع العديد من الدول إلى الإعراض عن تقديم المساعدات للبنان، ومن المستبعد أن تتمكن لبنان من تدبير التمويل الذي تحتاجه للتغلب على مشاكلها الاقتصادية العميقة، ويأتي على رأس تلك العوامل وجود "حزب الله" المدعوم من إيران، ودوره في الحكومة، الأمر الذي يجعل الدول تتخوف من وصول تلك المساعدات إليه واستخدامها في أغراض خاصة به.
وبدت تلك المخاوف واضحة في البيان الختامي لمؤتمر المانحين، الذي نظمته فرنسا في 9 أغسطس الجاري، حيث اقتصرت التعهدات المالية للمانحين على ما يقدر بنحو 253 مليون يورو (298 مليون دولار)، كمساعدات إغاثة فورية، وبرغم أنهم جعلوا هذه التعهدات غير مشروطة بإصلاحات سياسية أو مؤسسية، لكنهم ذكروا أن هذه المساعدات ستذهب مباشرة للمستفيدين منها من الشعب اللبناني، وأنها لن تمر عبر المؤسسات الحكومية.
الإصلاحات المطلوبة:
برغم أهمية المعالجة الفورية لمظاهر الدمار الناتجة عن الانفجار في العاصمة بيروت، لكن تبقى الأزمة الاقتصادية والمصاعب المالية المزمنة للبنان هي التحدي اللازم التغلب عليه، وعلى رأسها عجز الموازنة والدين الحكومي المتضخم. ومن المتوقع أن يكون اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي هو البوابة التي يمكن من خلالها العبور إلى أسواق التمويل الدولية، ومن ثم الحصول على احتياجاتها المالية بشروط في حدود قدراتها.
لكن هذه الخطوة سوف تتأجل بناءً على استقالة حكومة دياب، حيث من المتوقع أن تجرى مشاورات جديدة لتشكيل حكومة أخرى، ربما تطول على غرار ما حدث في الفترة الماضية، بشكل سوف يفرض تداعيات مباشرة على الاقتصاد.
وفي هذا الصدد، أعلن الصندوق، من خلال مديرته كريستالينا جورجيفا خلال مؤتمر المانحين لدعم لبنان، أنه مستعد لمضاعفة الجهود لمساعدة لبنان، لكنه اشترط أن يحدث ذلك في إطار ما أسماه "وحدة الهدف في لبنان، وعزم جميع المؤسسات على تنفيذ الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها".
وقد حدد الصندوق 4 إصلاحات ضرورية للعمل عليها من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية، تتلخص في استعادة الملاءة المالية العامة وسلامة النظام المالي، ووضع ضمانات مؤقتة لتلافي استمرار نزوح رأس المال إلى الخارج، وتبني خطوات مسبقة لتقليل الخسائر الممتدة في العديد من الشركات المملوكة للدول، بجانب ضرورة وجود شبكة أمان اجتماعي موسعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفاً، على نحو يشير إلى حجم التحدي الذي يواجه لبنان في المرحلة الحالية، والذي كان سبباً مباشراً في تقديم رئيس الحكومة حسان دياب استقالته.