شهدت الأسابيع الأخيرة عدداً من التطورات المُنذِرة للعديد من الشركات العاملة في مجال الاقتصاد التشاركي، في ظل الظروف التي فرضتها أزمة فيروس "كورونا" المستجد "كوفيد-19"، والتي أجبرت العديد من دول العالم على اتخاذ بعض الإجراءات الاحترازية، التي تتناقض تماماً مع متطلبات نجاح وازدهار قطاع الاقتصاد التشاركي.
فأزمة "كورونا" وضعت 159 دولة ومنطقة حول العالم تحت الإغلاق العام أو الجزئي، ونحو 40% من سكان العالم تحت وطأة العزل المنزلي، متنازلين بذلك عن حقهم في التنقل. كما أن حالة القلق التي باتت تنتاب الناس حول العالم تجاه استعمال الخدمات ذات الصفة العامة أو التشاركية، خوفاً من انتقال العدوى إليهم، باتت بمثابة التحدي الذي يحاصر أنشطة الاقتصاد التشاركي، وتضيق عليه الخناق شيئاً فشيئاً.
وأمام هذا التحدي، فإن فرص بقاء الشركات العاملة في هذا القطاع تصبح أقل شيئاً فشيئاً، بل إن كل يوم يمر في ظل ظروف استمرار سياسات الإغلاق الاقتصادي حول العالم، سوءاً بشكل كلي أو جزئي، تدفع تلك الشركات على طريق الإفلاس، حتى أن سؤال البقاء بات هو السؤال الأبرز في هذه الآونة، فيما يتعلق بمناقشة أو تناول مستقبل هذه الشركات، وذلك الاقتصاد ككل.
أوبر نموذجاً:
تعتبر شركة أوبر الأمريكية، المختصة في تقديم خدمات سيارات الأجرة التشاركية، هى إحدى أبرز الشركات العاملة في قطاع الاقتصاد التشاركي حول العالم، وقد أوحت فكرتها بنشأة العديد من الشركات المماثلة، كشركة كريم، التي اشترتها أوبر خلال السنوات الأخيرة، وشركة ديدي الصينية، وبلا بلا كار الفرنسية، وإس رايد اليابانية، وغيرها من الشركات التي تتعاقد مع ملاك السيارات، أو تمتلك السيارات بنفسها. وينطبق الأمر نفسه على الشركات التي تقدم خدمات "الاسكوتر" التشاركي، وغيرها من الشركات العاملة بالمفهوم نفسه.
وبالنسبة لشركة أوبر، فقد أعلنت خلال الأسابيع الأخيرة عدداً من القرارات المصيرية، التي تمثل نقطة تحول بالنسبة لها، وتعبر بشكل واضح عن الصعوبات المالية التي تعيشها تحت وطأة أزمة "كورونا" الثقيلة. فقد كشفت الشركة عن خسارة صافية بلغت 2.9 مليار دولار، تكبدتها في الربع الأول من عام 2020، وهى الخسارة الفصلية الأكبر لها على الإطلاق.
ووفق بيانات الشركة فقد تراجعت حجوزات نقل الركاب حول العالم بنسبة 5% بسبب إجراءات الإغلاق العالمية، بينما في المقابل ارتفعت حجوزات خدمة توصيل طلبات الأغذية، التي تحمل اسم "أوبر إيتس"، بأكثر من 50% في خضم طلب متزايد من الأفراد القابعين في منازلهم. وعلى الرغم من أن الشركة سجلت زيادة نسبتها 14% في الإيرادات الكلية، بفضل الزيادة في نشاط توصيل الطلبات، لكن هذه الزيادة لم تعوض تراجع الطلب على خدمات سيارات الأجرة التشاركية، التي تمثل العمود الفقري للشركة والمصدر الرئيسي للدخل.
ومن أجل استيعاب الأضرار المالية التي لحقت بها، عملت شركة أوبر على تسريح عدد كبير من موظفيها، بجانب إيقاف خدماتها في عدد كبير من الدول، ناهيك عن تغيير نشاط بعض فروعها. وفي هذا السياق، استغنت الشركة عن نحو 3,700 موظفاً حول العالم، وجميعهم من فرق خدمة العملاء وإدارات التوظيف، ويمثلون 14% من إجمالي كادرها البشري، البالغ عدده 26,900 موظفاً حول العالم.
وضمن الإجراءات التي تمثل إعادة هيكلة للشركة، أعلنت أوبر إيقاف خدمة "أوبر إيتس" لطلب وتوصيل الطعام في 8 دول حول العالم، مبررة ذلك بأنها تسعى إلى تركيز نشاطها في الأسواق الكبرى.
وفي الإطار ذاته، أعلنت شركة كريم –ذراع أوبر- تسريح 31% من عمالتها، وإيقاف خدمة "كريم باص". وقد قال الرئيس التنفيذي لشركة كريم على موقعها الإلكتروني: "إن الأزمة الناجمة عن كوفيد-19 وضعت حلمنا وتأثيرنا المستقبلي في خطر كبير، حيث أن النشاط انخفض بأكثر من 80%، ومن غير المعروف على نحو مثير للإزعاج متى سيتعافى".
سياق غير مواتٍ:
رغم أن شركة أوبر تحاول من خلال الإجراءات التي تتخذها هنا وهناك تقليل خسائرها والحفاظ على وجودها، عبر التركيز على القطاعات التي مازالت مربحة، وعلى الأسواق الكبرى، لكن هذا لا ينفي أن أزمة "كورونا" قد تكون سبباً في انهيار الشركة في نهاية المطاف، لاسيما أن المفهوم الذي صممت عليه الشركة هو مفهوم التشارك في الخدمات، وهو مفهوم مناقض تماماً لقواعد التباعد الاجتماعي، وإجراءات الإغلاق والعزل العام، كآلية لمحاصرة انتشار فيروس "كورونا".
وهذا الأمر ينطبق على جميع الشركات المشابهة لأوبر، سواءً في خدمات سيارات الأجرة التشاركية، أو في أى خدمات أخرى تقوم على مشاركة الجمهور في استخدام الأصل نفسه؛ ما يعني أنه في حال استمرار أزمة "كورونا"، ستضطر الشركة، وأخواتها، إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات لضمان بقائها أطول فترة ممكنة. لكن رغم ذلك، من المتوقع أن تزداد معاناتها، في ظل حالة الخوف من انتقال العدوى الفيروسية، التي أصبحت مسيطرة على سلوكيات الناس حول العالم، والتي جعلت استخدام جميع الخدمات القائمة على المشاركة أمراً غير مقبول، ويتوقع أن تظل مسيطرة على سلوكيات الأفراد حتى بعد انتهاء الأزمة ولفترة من الزمن.
وفي النهاية، فإن هذه الظروف تقضي على كثير من الفرص المتعلقة بنجاح واستمرار جميع الأنشطة المندرجة تحت مظلة الاقتصاد التشاركي حول العالم، وقد يمثل هذا الأمر أحد أوجه التغيير التي ستنتج عن أزمة "كورونا"، التي فرضت محفزات وعوامل تغيير كبيرة وقوية في العديد من جوانب الاقتصاد، بداية من سلوكيات الأفراد الاستهلاكية، مروراً بأساليب العمل والإنتاج في العديد من الأنشطة الاقتصادية، والسياسات الاقتصادية الكلية على مستوى الدولة، وصولاً إلى الإطار العام الحاكم للاقتصاد العالمي.