على الرغم من أن الاتجاه الرئيسي في الكتابات يرى أن تطبيق حظر التجول بشكل جزئي في مرحلة ما بعد تفشي "كورونا" أثر على خفض معدلات ارتكاب الجرائم في دول الشرق الأوسط، إلا أنه لم يقض عليها نهائياً، وفق ما تنشره بعض وسائل الإعلام الوطنية بأشكال متناثرة، بحيث تبلور ما يمكن تسميتهم بـ"لصوص الحظر" أو "لصوص كورونا"، بعد ظهور نمط "اقتصاديات ظل" "كورونا" القائم على الإتجار بالمستلزمات الطبية والأدوات الصيدلانية المزيفة، وتورط المحبوسين في السجون العقابية المفرج عنهم في جرائم جنائية جديدة لاسيما أن أغلبهم من المسجلين خطر، وتراجع دخل العمالة غير المنتظمة مما يدفع بعضهم إلى الانخراط في أعمال منافية للقانون، وتركيز الاهتمام على الجرائم الصغرى بالمناطق النائية أو الريفية والتي لا تحظى بتواجد أمني مكثف، ونشاط عصابات الإجرام المنظم بدول الجوار الرخو، والاهتمام بسرقة ما يسمى بـ"المناطق العمياء" للأجهزة الأمنية.
اتجاهات متوازية:
لا توجد إحصاءات رسمية بشأن معدلات الجرائم خلال فترات الإغلاق أو الحظر، إلا أن الافتراض العام يشير إلى أن العزل المنزلي كإجراء احترازي ضد جائحة "كورونا" في الشرق الأوسط يقلل معدلات الجريمة التقليدية مثل جرائم السطو على المنازل والسرقة وحوادث الطرق، كما أن وجود الارتكازات الأمنية يحد بشكل كبير من بعض الجرائم كسرقة السيارات، بل صارت الشوارع "مكشوفة" أثناء الحظر.
على الجانب المقابل، فإن وجود معوقات في اتجاه الجريمة لا يعني زوالها بالكامل، حيث أن الأفراد والتشكيلات العصابية تطور أيضاً من تفكيرها وقدراتها لاستمرار مزاولة نشاطها الإجرامي حتى في ظل الأزمات أو الكوارث أو الأوبئة، وإن كانت تلك العصابات تركز على "الأوقات الميتة" –بتعبيرات الأمن- والتي تبدأ من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشر ظهراً لتنفيذ مخططاتها.
ويمكن القول إن تغير معدل ارتكاب الجرائم في مرحلة ما بعد تفشي "كورونا"، والإجراءات الاحترازية لمواجهته، لا يمثل ظاهرة شرق أوسطية بل ظاهرة عالمية، حيث سلطت صحيفة "الشرق الأوسط" في تحقيق لها في 6 مايو الجاري، الضوء على انخفاض معدلات الجرائم في الدول الغربية المتقدمة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وأسبانيا، خاصة في المناطق التي ينتشر فيها وباء "كورونا" بدرجة كاسحة.
الشبكة المظلمة:
غير أن منظمة الصحة العالمية أشارت في عدة تقارير صادرة عنها، في نهاية إبريل الماضي، إلى تزايد الهجمات الإلكترونية المرتبطة بـ"كورونا"، لتصبح عدة أضعاف مستواها وقت بداية تفشي الفيروس، وهو ما تطلب من العاملين التقنيين داخل المنظمة العمل على الحد من محاولات الاختراق التي تتعرض لها وتغيير نظامها المعلوماتي في اتجاه أكثر أماناً. وتبعاً لذلك، فقد حدث انتقال في كثافة الجريمة من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، إذ شملت جرائم لصوص "كورونا" السطو على معلومات الفيروس، والانخراط في شبكة اقتصاد سري كامل مرتبطة به، تندرج تحت مسمى "الشبكة الإلكترونية المظلمة".
وتجدر الإشارة إلى أن "لصوص كورونا" الإلكترونيين يسيرون في ثلاثة اتجاهات رئيسية هى: الهجوم على البنية المعلوماتية للمنظمة، واختراق الحسابات الإلكترونية للعاملين في مجال مكافحة "كورونا" من أطباء وصيادلة وأفراد طواقم طبية وباحثين بيولوجيين ومسئولين في شركات أدوية، وتزوير حسابات إلكترونية باسم "الصندوق التضامني للاستجابة ضد جائحة كورونا"، ويتمثل الهدف من ذلك في الحصول على معلومات بشأن الفيروس أو الأدوية التي تعالج أعراضه، أو تتعلق باللقاحات المحتملة للقضاء عليه. ومن ثم، يمكن لهؤلاء اللصوص بيع هذه المعلومات لدول وأجهزة مخابرات وشركات كبرى التي تتسابق فيما بينها للحصول على هذا اللقاح.
طرق مختلفة:
مع الانتقال من السياق العالمي إلى الإطار الإقليمي، يمكن القول إن المجرمين يحاولون البحث عن طرق مختلفة للاستفادة من الأزمة التي فرضتها جائحة "كورونا"، في دول الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:
1- تبلور نمط "اقتصاديات ظل كورونا": وهو ما عكسته المتاجرة بالأقنعة الطبية المزيفة، إذ تشير متابعة وسائل الإعلام في عدد من دول الإقليم إلى قيام أجهزة الأمن بالقبض على أفراد أو جماعات متهمة ببيع مستلزمات طبية، حقيقية أو مزورة، أو حتى بيع بضائع أخرى تسبب الحظر في منع انسيابها بسلاسة، لاسيما في ظل تزايد الطلب عليها من قبل قطاعات مجتمعية واسعة كجزء من الإجراءات الاحترازية في مواجهة فيروس "كورونا". وقد تم إلقاء القبض على عدد من الأشخاص في كل من تونس ومصر بتهمة ترويج منتجات غير مطابقة للمواصفات (محجوبة ومجهولة المصدر)، خاصة بالنسبة للمواد الطبية والغذائية.
2- الإفراج عن المحبوسين في السجون العقابية: اتجهت بعض الدول في الإقليم إلى الإفراج عن المسجونين بتهم جنائية خطرة تخوفاً من إصابات في صفوفهم بمرض "كورونا"، وهو ما يدفعهم إلى ممارسة الإجرام مرة أخرى. ولعل الحالة التركية معبرة في هذا السياق، حيث كشفت بعض وسائل الإعلام التركية، مثل صحف "زمان" و"بيرجون" و"إيفرنسال"، عن الجرائم التي ارتكبها المجرمون المستفيدين من قرار العفو بعد إقرار البرلمان التركي لذلك، رغم التحذيرات التي أطلقها الخبراء من تداعيات الإفراج عن هؤلاء على الأمن الوطني.
3- تراجع دخل العمالة غير المنتظمة: وذلك نظراً لتزايد الاستغناء عنهم من قبل الشركات أو الأفراد، إذ أن انعدام أو تراجع الدخل لدى البعض منهم قد يدفعهم إلى القيام بارتكاب جرائم النشل والسرقة وغيرها حال امتداد فترة توقف سوق العمل، وهو ما تشير إليه بعض وسائل الإعلام العراقية عن وضع تلك العمالة في الموصل. وعلى الرغم من أن بعضهم كانوا من أرباب السوابق، إلا أنه لا يمكن إنكار تأثير حظر التجول اقتصادياً على فئات من المجتمع.
4- تركيز الاهتمام على الجرائم الصغرى بالمناطق النائية أو الريفية: كشفت بعض وسائل الإعلام السورية، في 11 إبريل الماضي، عن انتشار حالات سرقة الدراجات النارية في ريف دمشق، وبصفة خاصة في مناطق الغوطة الغربية والقلمون الشرقي، وذلك في ظل حظر التجول المفروض في المنطقة من قبل قوات النظام، حيث يتم نقل الدراجات المسروقة بين المناطق. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حكومة دمشق لم تسجل في الأيام العشرة الأولى من فرض الحظر في 22 مارس الماضي وقوع أى جريمة، إلا محاولة سرقة واحدة "باءت بالفشل".
5- نشاط عصابات الإجرام المنظم بدول الجوار الرخو: وهو ما ينطبق على العصابات التشادية التي تنشط في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي، حيث قامت بسرقة العديد من المحلات التجارية الخاصة بالهواتف المحمولة والمواد الغذائية في مدينة بنغازي، في مارس الماضي، أثناء فترة حظر التجول بالمدينة، وفقاً لما أعلنته مديرية أمن بنغازي، بعد إلقاء القبض على عدد من أفراد العصابة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العصابات التشادية تستغل أيضاً نزوح الأسر الليبية في طرابلس وتقوم بسرقة شققها والاستراحات في أكثر من حى بالعاصمة.
6- الاهتمام بسرقة "المناطق العمياء" للأجهزة الأمنية: على نحو ما قام به بعض اللصوص بسرقة مسجد "قلج علي باشا" التاريخي (أحد أبرز الشخصيات في التاريخ العثماني) الذي يقع في منطقة بيوغلو وسط اسطنبول، مرتين في الثُلث الأخير من إبريل الماضي، وفقاً لما ذكره الموقع الإلكتروني لمحطة "إن تي في" التلفزيونية التركية، حيث استغل اللصوص فرصة إغلاق المسجد تخوفاً من تفشي "كورونا"، وقاموا بسرقة عدد من قطع الرصاص التي تغطي القباب، وبلغ وزن المسروقات 1.5 كيلو جرام.
تكيف متدرج:
خلاصة القول، إن جائحة "كورونا" غيرت من نوعية الجرائم في دول الإقليم، ولكنها لم تستطع القضاء عليها وإنما حدت منها. كما أن هناك تكيفاً متدرجاً من جانب المجرمين، سواء كانوا فرادى أو جماعات، مع الأوضاع في ظل "كورونا"، وخاصة مع تطبيق حظر التجوال لفترات زمنية ليست بالقصيرة، وهو ما يتطلب المزيد من الدراسات الجادة التي تعكف عليها مراكز البحث والتفكير في الشرق الأوسط، المعنية بأمن المجتمعات في ظل الجائحة، بحيث تتناول منظوراً بينياً جامعاً لأكثر من تخصص للوصول إلى أبعاد الاستمرار والتغير في الجرائم الجنائية قبل وأثناء وبعد الجائحة.